الانتخابات الرئاسية التونسية: ما زال البوعزيزي يحترق
السبب الرئيسي للنتائج الانتخابية البائسة يتمثل بالمسافة الشاسعة التي تفصل بين الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية. إنها لعنة الاكتفاء بـ"التغيير في الأعلى" فقط.
السبب الرئيسي للنتائج الانتخابية البائسة يتمثل بالمسافة الشاسعة التي تفصل بين الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية. إنها لعنة الاكتفاء بـ"التغيير في الأعلى" فقط.
لم ينل المواطن المحبط في الشارع التونسي من الاستحقاقات السياسية طوال السنوات السابقة ما يجعله يؤمن، ولو قليلاً، بجدوى العملية الانتخابيةلقد قامت الطبقة السياسية التي حكمت سابقاً بمناقشة قضايا عديدة مثل: المساواة بين الرجل والمرأة في الميراث، وقانون الحريات الفردية، وحقوق المثلية الجنسية، وحكم الإعدام. وبالرغم من اعتبار البعض أن الهدف من الانشغال بهذه القضايا الثانوية هو التهرّب من القضايا الاقتصادية الرئيسة، إلا أنها تُحسب كنقاط إيجابية تُسجل لصالح الطبقة السياسية الحاكمة. غير أن هذه المحاولات تبقى منقوصة، طالما أن أي تغيير جذري على المستوى الاقتصادي-الاجتماعي لم يسبقها. فمتصدر الانتخابات الرئاسية التونسية اليوم أعلن سابقاً أنه ضد المساواة في الميراث، وضد الحريات الفردية، وضد إلغاء حكم الإعدام، وضد المثلية الجنسية، وهو ما دفع البعض إلى اعتبار تصدره الانتخابات بمثابة انقلاب على منجزات سابقة. وهذا ما يؤكد أن منجزات الديمقراطية السياسية تبقى هشّة ما لم تُدعّم بديمقراطية اجتماعية حقيقية. نستطيع فهم حقيقة ما يحصل في السماء السياسية التونسية، وانعكاسه على الأرض، من خلال تصريح لافت للمرشح المستقل والمتصدّر (قيس سعيد)، يعد فيه الشعب التونسي ككل بأنه سيبقى مستقلاً حتى يوم مماته "عشت وسأموت مستقلاً، وإن كان هناك حزب أنتمي إليه فهو الحزب التونسي". لم تعد غالبية المواطنين التونسيين تثق بشعارات وبرامج أي مرشح (حزبي أو مستقل) لأنه قد يعارض في شعارات حملته الانتخابية أحزاباً سياسية أخرى، ويستقطب أصوات الناخبين إثر ذلك، وما إن يصل إلى الحكم حتى يدخل في سوق التحالفات مع تلك الأحزاب التي كان يعارضها. وتنقسم المقاطعة الشعبية في تونس إلى أحزاب سياسية (القوى الوطنية الثورية) ومُحبطين فُرادى لا يلمّ شملهم أي كيان. وقد جاء في بيان للقوى الوطنية الثورية (الحزب الشيوعي الجديد – في طور التأسيس، وحزب الوطد الثوري الماركسي اللينيني، وحزب الكادحين، وحزب النضال التقدمي، وأنصار الديمقراطية الجديدة) أن أسباب مقاطعة الانتخابات الرئاسية تعود إلى أنها ليست إلا "خدعة جديدة للشعب هدفها إعادة تنصيب وكلاء الاستعمار في السلطة السياسية على غرار ما وقع في شهر أكتوبر من سنتي 2011 و2014"، كما أنها "شكلية لأن نتائجها محسومة سلفاً بسبب خضوعها للمال السياسي والتوظيف الإعلامي والديني والإداري ولعمليات الضغط على الناخبين وشراء الذمم والتدليس". أما المواطن البسيط والمحبط في الشارع التونسي فلم ينل من الاستحقاقات السياسية طوال السنوات السابقة، سواء كانت انتخابات رئاسية أم انتخابات مجالس محلية، ما يجعله يؤمن، ولو قليلاً، بجدوى العملية الانتخابية كلها. فنادرًا ما ردمت صناديق الاقتراع حفرة في شارع يصل إلى منزله، أو حمت البنية التحتية بيته من كوارث طبيعية. عندما أشعل بوعزيزي النار في نفسه، بدا كمن يصرخ في وجه مجتمع يحترق. وإذا ما ظلّ مجتمعه يعاني من تهميش يحول دون وصول طبقة سياسية تنجز التحول من الديمقراطية السياسية إلى الديمقراطية الاجتماعية، فإن جسد بوعزيزي سيظل يحترق، ليس في دواخل التونسيين فحسب، بل في داخل كل مواطن عربي أيضاً.