ما الذي سقط فعلًا في ذاك اليوم الذي هرب فيه الأسد؟ الرجل أم الطريقة؟ التمثال أم المخيّلة التي صنعت التمثال؟ بعد عام على "التحرير"، السؤال لا يعود ترفًا نظريًا، بل يصبح ميزانًا أخلاقيًا بسيطًا: هل توقّف القتل بوصفه سياسة؟ هل خرج السوري من خانة "اللحم المتاح" إلى خانة الإنسان؟
كان مفهومًا أن لا تُحلّ كل العقد خلال سنة. كان مفهومًا أن الخراب عميق، وأن اقتصاد بلد منكوب لا يتعافى بمرسوم. ما لم يكن مفهومًا، ولا مقبولًا، أن نكتشف بسرعة أن زمن المجازر لم ينتهِ، بل غيّر لهجته ورايته فقط. أن تُرتكب جرائم موصوفة في الساحل وفي السويداء، وأن يُدفن أحياء تحت اسم جديد لذريعة قديمة: "أخطاء فردية"، "اختلال في القيادة الميدانية"، "رد فعل منفلت". هذه الجمل سمعناها من قبل، مع فارق وحيد هو صورة الرئيس المعلّقة خلف المكتب.
كان يفترض أن يكون العام الأول بعد الأسد عامًا يفتح الدفاتر للمحاسبة، دون أن يضيف إليها فصولًا أخرى. عامًا يُسمّي القتلة ولا يحميهم، يحاكم الأجهزة ولا يعيد تدويرها، يُعلن أن الدم لم يعد أداة تفاوض، وأن الانتماء الديني أو المذهبي ليس تصريح مرور إلى السلاح. بدلًا من ذلك، رأينا ما يشبه إعادة تمثيل للمسرحية نفسها: جمهور جديد في الصالة، ممثلون بلهجة أخرى، والنص هو ذاته تقريبًا. دولة انتقالية تتحدّث عن "وحدة البلاد" وتوقّع في الوقت نفسه اتفاقات أمنية تُعطي الخارج حقّ "الفيتو" على أمن الداخل. سلطة ترفع شعار المواطنة، وتترك مناصب القرار موزّعة وفق مفاتيح الطوائف والعشائر وأجهزة السلاح.
من السهل أن نحتفل بسقوط الأسدية وأن نغلق القوس عند هذه الجملة. الأصعب أن نسأل: ما معنى سقوط الأسدية إذا حضرت مكانها ذهنية إقصائية جديدة؟ ما معنى أن يهرب الدكتاتور إذا تحوّلت تيارات داخل "الأكثرية" إلى وريث طبيعي لمنطقه، ترفع الرايات ذاتها، وتستخدم الخطاب الأمني ذاته، وتعامل الأقليات بوصفها أوراق تفاوض أو "احتياطي ثأر"؟
في ساحات السنة الأخيرة، سمعنا شعارًا يلخّص كل ما سبق: "بدنا نحكم بالصرماية". هذه ليست سقطة لغوية، هذه خلاصة عقل سياسي يرى الحكم فعل إخضاع لا عقد عيش مشترك. يرفض الفيدرالية وهو يمارس التقسيم، ويلعن "الإمارات الطائفية" وهو يقيم نسخًا منها تحت رعاية هذا الفصيل أو ذاك الاحتلال.
في العام الأول بعد الأسد، ما زال السوري يدخل إلى مكتب الدولة وهو يخاف من الكرسي قبل أن يخاف من الجالس عليه. ما زالت الأم تنتظر خبرًا عن ابنها في ممرات النظام الجديد كما انتظرته من قبل في أروقة الفروع الأمنية. تغيّر الختم على الورقة، وتغيّر اسم الجهاز، ولم تتغيّر الجملة التي تُلقى على العائلات: "ملفّه حساس، انتظروا". والأشدّ قسوة أنّ عبارة "مات تحت التعذيب" لم تُدفَن مع الدولة القديمة، بل عادت بوجوه وتفسيرات أخرى. الثورة التي رفعت شعار "الحرية للمعتقلين" أنجبت سجونًا جديدة، بأسماء أكثر لياقة، وأجهزة أكثر تهذيبًا في الكلام، لا في التعذيب.
كان يمكن أن يُقال بوضوح إن الشيخ الهجري، كما أي مرجع ديني أو زعيم محلي، يخطئ ويصيب، وأن ربط مصير محافظة برأي رجل واحد هو إعادة اختراع للتأليه
المأساة أن جزءًا من السوريين اليوم يتصرّف كما لو أن سقوط الأسد منحه رخصة لمراجعة حق الآخرين في الوجود. العلويون مطالبون باجتياز امتحان دائم لإثبات إنسانيتهم، والكرد مطالبون بالاعتذار عن لغتهم قبل أن يطالبوا بحقوقهم، والدروز مطالبون بتكييف خياراتهم السياسية مع "مزاج الأكثرية" إذا أرادوا الأمان. كل من يرفض هذا المنطق يُتّهم بأنه "ضد الثورة" أو "فلول"، وكأن الثورة تعني انتقال حقّ القتل من يد إلى يد، لا انتقال البلاد من منطق الإلغاء إلى منطق القانون.
السلطة الانتقالية التي يفترض أن تكون نقيض الأسدية تحوّلت في أكثر من مفصل إلى امتداد لها. كلما سقط مدني برصاصة جيشها أو فصيل محسوب عليها، خرجت اللغة ذاتها التي نعرفها منذ حماة الأولى: "تم فتح تحقيق"، و"نرفض هذه التصرفات الفردية"، و"سنعمل على محاسبة المتورطين". لا أسماء، لا محاكم علنية، لا اعتراف سياسي بأن ما جرى جريمة دولة. فقط إدارة للغضب، وشراء للوقت، ودفن للملف في درج "التعقيدات الميدانية".
لا شيء يُعرّي السلطة كعلاقتها بالأقليات ساعة الخطر. من يرفض اليوم الاعتراف بما تعرّض له سكان قرى الساحل، وبما واجهه الدروز في السويداء، وبما يعانيه الكرد، يعيد إنتاج نسخة من وطن لا مساواة فيه في الدم ولا معيار واحد للعدالة. الأسد كان يتصرف كمن يقول: "أحمي الأقليات من الأكثرية المتوحشة". السلطة الانتقالية تردّد بنبرة مختلفة: "نضبط تجاوزات هامشية، لكنّ المهم أننا أسقطنا الديكتاتور". في الحالتين، الضحية لا تُسأل، ولا تُشفى، ولا تُحترم. تُستخدم كذريعة فقط.
خيانة العام الأول ليست فقط في ما ارتُكب، بل في ما لم يُفعل: لا هيئة حقيقية للعدالة الانتقالية، ولا محاكم علنية لكبار مجرمي النظام السابق، ولا تفكيك جدّي لأجهزة التعذيب، ولا قانون يحظر صراحة التحريض الطائفي، ولا حدّ أدنى من الاعتراف الرسمي بالمجازر. كيف نطلب من مجتمع عاش نصف قرن تحت الاستبداد أن يثق بسلطة ترفض حتى تسمية جرائمها، وتصرّ على إدراجها في خانة "الظروف الاستثنائية"؟
كان يمكن للعام الأول أن يكون عامًا لسياسة أخرى. كان يمكن أن يُعلن فيه أن لا أحد فوق النقد، لا زعيم طائفة ولا رئيس مجلس ولا قائد فصيل. أن يُقال بوضوح إن الشيخ حكمت الهجري، كما أي مرجع ديني أو زعيم محلي، يخطئ ويصيب، وأن ربط مصير محافظة برأي رجل واحد هو إعادة اختراع للتأليه، وإن جرى ذلك باسم "الدفاع عن السويداء". كان يمكن أن يُقال إن الأكثرية العددية ليست تفويضًا مفتوحًا لأحد، وأن من يهتف "بدنا نحكم بالصرماية" يُهين المذهب قبل أن يهين خصومه.
في بلد مثل سوريا، التحرر الحقيقي لا يبدأ من قصر الرئاسة بل من تغيير تعريف البطولة. البطل ليس من يرفع عدد قتلاه، بل من يضع حدًّا للقتل. البطل ليس من يعيد رسم خريطة الطوائف، بل من يُخرج السياسة من رِقّ الطائفة. وحدهم الذين رفضوا القتل في ذروة الحرب، الذين فضّلوا أن يتهمهم جمهورهم بالضعف على أن يغرقوا في دم جيرانهم، هؤلاء هم النواة الوحيدة الممكنة لسوريا مختلفة.
هل تحررنا؟ السؤال قاسٍ، لكنه ضروري. من تحرر من ماذا؟ أبناء الساحل الذين يعيشون اليوم بين خوفين، من انتقام لم يقع بعد وصمت يلتهم ذاكرة قتلاهم، هل تحرّروا؟ أهالي السويداء الذين يواجهون حصار السلطة الانتقالية وخطاب التخوين لأنهم يرفضون أن يكونوا حديقة خلفية للغلبة، هل تحرّروا؟ الكرد الذين يُقصفون بحجة "منع الانفصال"، هل تحرّروا؟ المعتقلون في السجون الجديدة، الذين لا يهمهم لون العلم المرفوع فوق السجن بل اسم الجلاد الذي يفتح باب الزنزانة، هل تحرروا؟
التحرّر ليس واقعة مجردة تقع حين تغادر طائرة حاملة لرئيس إلى مطار بعيد. التحرر فعل أخلاقي جماعي، وقرار واعٍ بأن ما كان محرّمًا في زمن الأسد سيبقى محرّمًا بعده، بل أكثر. أن المجزرة ليست أداة مشروعة أبدًا، وأن "المصلحة العليا" لا تبرّر دفن القرى مرتين، وأن القوة العددية لا تمنح شيكًا على بياض. دون هذا، نحن نعيش فقط انتقالًا في إدارة الجحيم، لا خروجًا منه.
بعد عام على هروب الأسد، ربما الجملة الأكثر صدقًا هي التالية: أسقطنا الرجل ولم نسقط النظام الذي في رؤوسنا. إذا أردنا لهذا اليوم أن يكون موعدًا في التاريخ لا مجرد تاريخ في الروزنامة، فعلينا أن نجرؤ على قول جملة واضحة دون مواربة: لا معنى لكل ما حدث إذا كان الأسد قد خرج من القصر ليعود إلينا على هيئة سلطة انتقالية عمياء، أو نزعة غلبة لا تختلف كثيرًا عن ماضي البلاد. عندها نكون قد غيّرنا اسم الديكتاتور فقط، وتركنا سوريا في مكانها ذاته: بلد بلا عدالة، وبلا مساواة، وبلا حرية تسع الجميع.