حسيبة عبد الرحمن... وحيدةً تلتهم الوقت وتقرأ "الطاعون"

لا تُملي صاحبة رواية "تجليات جدي الشيخ المهاجر"، المعروفة في عالم الاعتقال السياسي، ظروف سجنها على زوّارها. السبب في ذلك ليس الخوف من التورّط في الذاكرة، بل قناعة بأن التضحية التي قدمتها لا تحتاج إلى البكاء والعويل.

لا أذكر اليوم الذي تعرّفت فيه إلى حسيبة عبد الرحمن (ريف مصياف – 1956). تجاوز عُمر صُحْبتنا عشرَ سنوات، بُتّ خلالها "شقّورة حسيبة"، كما تناديني وابنتها ورفيقتها التي تكيل لها الشتائم بالكيلو إذا ما تأخرتْ في المجيء إليها، خصوصًا إذا ما شَعَرَتْ بالجوع وهي تنتظرني.

وكيف تعلم أن حسيبة تُحِبك؟ مَنْ تُحبّه حسيبة تطبخ له وتُعِد له الشاي بالليمون، هناك في منزلها القديم بكفرسوسة، يصبح تجهيز الطعام في مطبخها الصغير فرضًا تقوم به استعدادًا لاستقبال الأصدقاء، وتمهيدًا للأحاديث المنتظرة التي ستدور بعد قليل في غرفة دافئة حنونة، ما زالت تحتفظ بتفاصيلها العتيقة.

كتب مركونة في الزاوية اليمنى، صورة لوالدها المتوفى وأخرى لوالدتها، لوحة مُهداة من الفنان يوسف عبدلكي، أُخرى مهداة من الفنان منير الشعراني، مصحف مُعلّق، وسرير مرتب على الدوام يحرس مناماتها. خزانة ملابس مغلقة على خصوصياتها، ومرآة صغيرة بحجم اليد تلتقط ما تيسّر من تفاصيل وجهها، تلفاز قديم وكمبيوتر مطفأ، صوفا طويلة في صدر الغرفة تعلوها أواني زجاجية، صوفا مجاورة وكتاب مفتوح على الدوام، طاولة وكراسي وفنجان قهوة بدون سكر ومنفضة. في هذا الجو تلتهم صاحبة رواية "الشرنقة" الكتب تمامًا، كما تلتهم سجائر "الحمراء" الطويلة. وفي هذه الغرفة تصحو وتنام وتمضي أيامها، وفي حدود هذه البقعة المختزلة أدمنتْ الكاتبة السورية شرب القهوة، وشاهدت بشغف أفلام الأبيض والأسود، وعشقت سعاد حسني، وأطلقت الشتائم على المُحبّبين إلى قلبها.

تفرّق حسيبة رفاقها في أصقاع الدنيا. بقيت وحدها تقرأ "الطاعون" لـ ألبير كامو وتُعزّي بمن رحل وتُحصي من تبقّى وتَحلِف بالمُصحف المعلّق عندما يضيق بياض الدنيا في عينيها وتتسع مساحة العتمة. في هذه الغرفة تحمّلت وحيدة ليلَ القلب ولوم الناس وفقدان الأمان. وإلى هذه الغرفة، ما زال يحجّ الأوفياء منير الشعراني ويوسف عبدلكي وعبد الله فاضل وزياد ونّوس، الأصدقاء الأكثر ترددًا على مائدة حسيبة المغرومة باللوبيا والكارهة للبندورة. أما وائل السوّاح الواقع تحت سحر "حسّوب" منذ اللحظة الأولى، فربما يشعر بالحزن وهو يقرأ ويتمنى لو يخطف نفسه مرة أخيرة إلى منزلها، حيث يقع الاشتباك السياسي المتأصل بين الرفيقين المشاكسين، لا يلبث أن ينتهي باتفاقٍ على الضحك.

انسحبت حسيبة إلى حدود ذاكرة "العالم السفلي" كما تسميه، عالم السجناء

نسيت حسيبة عبد الرحمن، وهي تعيش، أن تبحث عن أقراطها كما بقيّة النساء، بمن فيهم أولئك اللواتي خرجن من السجن واستطعن اللحاق بذيل الحياة وتكوين عائلة. على العكس من ذلك، كتبت حسيبة نهاية مبكرة لأنوثتها، فقصّت شعرها في اليوم الأول لخروجها من السجن، عندما وصلت منزل القرية ولم تجد والدها الذي توفي في غيبتها. منذ ذلك الوقت، قطعت صلتها مع المستقبل وليس مع الحياة. وبرغم ذلك، تبدو في مرات كثيرة كمن يتعلّق بغصن مخلوع أو كمن يهرُب من العَيش بالعَيش. يُفصح عن ذلك نزيف كلماتها في مرات كثيرة، ويكون ذلك كافيًا كي نفهم أن الحياة خذلتها. لكنها تعود في أماكن أخرى لتتنفس كمن له بقية حلم بعائلة، وبيت دافئ، وغفوة لا تعكرها سوى خيوط الصباح تتسرب فجرًا من ثقب باب غرفتها لتوقظها.

لا تُملي صاحبة رواية "تجليات جدي الشيخ المهاجر" المعروفة في عالم الاعتقال السياسي والسجينة على ذمة "حزب العمل الشيوعي" (1987- 1997) ظروف سجنها على زوّارها. السبب في ذلك ليس الخوف من التورّط في الذاكرة، بل قناعة بأن التضحية التي قدمتها لا تحتاج إلى البكاء والعويل. لأكثر من ذلك، تقول حسيبة، "لابدّ من دفن كل تلك الذكريات في الوعي الداخلي كي أكونَ مرئية أكثر للآخرين". وكيف لا تكون مرئية وقريبة وهي التي واجهت بشجاعة كل من خالف صوت ضميرها وجاهرت بما يدور في داخلها بقناعة لم تغيرها سنوات السجن، هي التي صمتت باكرًا وكفّت عن العمل والكتابة، وانسحبت من ضجيج السياسة عندما بدأت سوريا تُحتضر بداية 2011؟ حيث لم تعد تجد نفعًا أو معنىً لما تفعله، ولأكثر من هذا، لا تتوفر لديك الفرصة لتعلن أنك لست جزءًا من كلّ ما يجري؟

انسحبت حسيبة إلى حدود ذاكرة "العالم السفلي" كما تسميه، عالم السجناء. هناك، حيث الزمن يشدّك مرة أخرى إلى الخارج، فترى كيف تتحوّل علاقة من هم في الخارج مع من هم في الداخل إلى "التزام أخلاقي" فقط لا غير. حتمًا هو شعور أقسى من السجن نفسه، خصوصًا إذا كنت تعيش في دمشق. فأن تعيش في دمشق، يعني أن تكون جاهزًا لإطلاق الرصاص في كل لحظة على كل من حولك، بدل أن تفكر كيف ستدلُق الصابون على أرضية منزلك الذي تحلم به. مؤلم أن تشعر بالسعادة كلما نظرت إلى الوراء. الحياة تتسرب بسرعة مرعبة، وكل ما ينبغي أن تقوم به من أجل السعادة قمتَ به، ولم يتبقَ أمامك إلا أن ترمي نفسك.

يُربكني جهلُ حقيقة ما نحن عليه بعد كل المراهنات على الخلاص والحصول على قَدَرٍ أفضل في هذه المدينة، فدمشق لم تكن طريقًا للوصل كما اعتقدت. كثيرون هم الذين بُتِرت أطرافهم هنا، واحدة منهم كنت أنا، وكثيرا ما أفكر في لحظات الضعف، ماذا لو لم تكن حسيبة موجودة في حياتي؟ ربما كنت سأدفن رأسي في الوسادة، أشكو لها جحود عصفورٍ حطّ على نافذتي ليستريح، ثم رحل.

بطاقة تعريفية

حسيبة عبد الرحمن: كاتبة روائية سورية من مواليد 1956، اعتُقلت مرات عدّة، كان أولها بين عامي 1987 و1991، وثانيها بين 1994  و1995، فيما كان آخرها عام 1997. كتبت عن تجربة الاعتقال السياسي في سجن دوما رواية "الشرنقة"، ومجموعة قصصية بعنوان "سقط سهوًا"، وكتبت عن المجتمع المدني السوري، إضافة لرواية "تجليات جدي الشيخ المهاجر" التي أعادت فيها بث الروح في الموروث الشعبي، وتحميله للشيخ في تقمّصاته وتجلياته وحركته الاجتماعية.