الشرارة المتوهجة للنكبة: الثقافة أنموذجًا

نصادف اشتغالًا من جانب غالبية المبدعين الفلسطينيين على عنصرين متّصلين، أولهما عنصر بناء الذاكرة الوطنية، وثانيهما عنصر بناء المكان، حيث أن الخوف من فقدان المكان بتغيير أسمائه، شكّل، ولا يزال، مصدر أرق وألم للمبدع الفلسطيني.

لا يحتاج الفلسطينيون، أينما كانوا، إلى أي مُسبّب كي يسترجعوا نكبتهم. فهي، كما قيل ويقال مرارًا، مستمرة في الحاضر. وقد تكون جولة الكفاح الحالية التي يخوضها الفلسطينيون جاءت بالصدفة متزامنة مع الذكرى الـ73 للنكبة. ولكن لا يمكن، بحال من الأحوال، عدم رؤية أن السبب الواقف وراءها يعود إلى تداعيات النكبة المستمرة، والتي ليس من المبالغة القول إنها بمنزلة الشرارة المتوهجة لأي جولة كفاح فلسطينية. ما زالت النكبة الأكثر حضورًا في الثقافة الفلسطينية، لا كفعلٍ ماضٍ فحسب، إنما أيضًا كمرجع يُلزم الاستناد إليه لاستكشاف "الصفة الخاصة جدًا لقضية فلسطين"، وهي عبارة أوردها غسان كنفاني في العدد 127 من مجلة "المجلة" المصرية (الصادر في صيف 1967) ضمن ندوة كان محورها "الموقف الحاضر في القصة العربية"، اشترك فيها مع الأدباء العرب حليم بركات وزكريا تامر ويحيى حقّي وصبري حافظ، وقدّم ما يمكن أن نعتبره "مقاربة فلسطينية" لمعنى أن يكون الإنسان الفلسطيني كاتبًا. ولعلّ أشدّ ما يلفت النظر فيها قوله إن "الفلسطيني ككاتب يستطيع أن يستكشف الصفة الخاصة جدًا للقضية الفلسطينية أكثر من أي شخص آخر". وبالفعل، ليس مبالغة القول إن الأدب بشكل خاص والثقافة الفلسطينية عمومًا، كانا ولا يزالان بمثابة المُستكشف للصفة الخاصة جدًا لقضية فلسطين منذ ظهورها. وفي الإجمال، يمكن الاستنتاج أن الثقافة الفلسطينية بمضاميرها المتعدّدة، ساهمت بشكل أساسي في الحفاظ على الهوية القومية والوطنية، وفي عدم تبخيس آثار النكبة، وقد سارت هذه المساهمة في وجهتين محدّدتين فرضتهما مجموعة من العوامل الموضوعية: الأولى وجهة التمرّد على نسيان أو تناسي ما كان، وهو ما تسعى إليه ممارسات سياسية وثقافية صهيونية. والثانية وجهة شحن الذاكرة الجمعية للفلسطينيين، في شتى أماكن وجودهم، بحقول خصبة من الدلالات التاريخية والثقافية المرتبطة بالنكبة وآثارها، والمرتبطة أيضًا بالهوية القومية والوطنية للفلسطينيين. وفي واقع الأمر، ثمة الكثير من المعاني والدلالات للهوية الوطنية من وجهة نظر الفلسطينيين. وتظلّ لبعض هذه الدلالات، بالنسبة إلى إنسان فلسطيني مثلي يعيش في أراضي 1948، جوانب خاصة تستمد مشروعيتها من الكينونة الفلسطينية داخل فلسطين. أولها أن الهوية الوطنية هي توكيد لمجتمع أنكر أعداؤه، وما زالوا، مجرّد وجوده حتى. وثانيها أن الهوية الوطنية، بالنسبة إلى الفلسطينيين في الداخل، هي المنقذ من الاغتراب في بلد هم أصحابه الأصليون تاريخيًا، وقامت عليه دولة غاصبة جرّدتهم من الوطن وتقصيهم من المواطنة وترفضهم، مع ما يمكن أن يترتب على واقع كهذا من افتراقٍ ظاهرٍ عن الذات. وثالثها أن الهوية الوطنية هي عنوان كفاح لحياة طبيعية جرى تقويضها جراء النكبة في عام 1948.

ما زال السؤال المرتبط بالنكبة أحد الدوافع الرئيسية وراء العودة من جانب المبدعين الفلسطينيين، جيلًا بعد جيل، إلى الماضي

وبطبيعة الحال، تشمل الدلالة الأخيرة جوانب جوهرية من الدلالتين الأخريين، حيث أن التمعّن في الآثار الاجتماعية- الثقافية التي ترتّبت على النكبة بالنسبة لفلسطينيي الداخل، يشي بالتغيير الجذري الذي خلّفته، لا من حيث عددهم فقط، إنما أيضًا من حيث الهزّة في التركيبة الاجتماعية، ومن حيث تأثيرها على مدلولات المشهد الثقافي اللاحق في صفوف المجتمع الباقي، الذي تغيّرت حاله من النقيض إلى النقيض، بصورة ليس أبسطها تحوّله إلى فلاحيّ، ريفيّ، بغالبيته الساحقة إن لم يكن برمتّه. وفضلًا عن موتيف الهوية، نعثر في الأدب الفلسطيني على موتيف التمسك بالأرض، الذي دجّج أدبًا مُقاتلًا. وقد أوضح أحد شعرائنا، ذات مرة، أن الشاعر والبطل توأمان، في إشارة صافية إلى الدور الذي يتعين على الأديب الفلسطيني أن يضطلع به. ويمكن القول إنه، إلى الآن، ما زال السؤال المرتبط بالنكبة أحد الدوافع الرئيسية وراء العودة من جانب المبدعين الفلسطينيين، جيلًا بعد جيل، إلى الماضي، كما يتبدّى الأمر في نتاج العديد من الأدباء والفنانين الفلسطينيين على مرّ الحقب الزمنية. فهذا الماضي، بالنسبة إلى المبدع الفلسطيني هو مرتكز الرفض للحاضر على مستوى الصيرورة، من جهة أولى، وهو في الوقت عينه متكأ الكشف عن مفهوم المستقبل والجديد على صعيد السيرورة والرؤيا (الحلم)، من جهة أخرى. وفي صلب هذه العودة المُستمرة إلى الماضي، وإلى النكبة، يتحدّد واحد من الأطر العامة لحداثة التجربة الإبداعية الفلسطينية. كما أنها عودة عادةً ما تحفل بتصوّر للماضي يتمظهر في مناحٍ ربما تبدو مغايرة تمامًا عن تمظهرات الماضي في إبداعات شعوب أخرى. وخلال هذه العودة، نصادف اشتغالًا من جانب غالبية المبدعين الفلسطينيين على عنصرين متّصلين، أولهما عنصر بناء الذاكرة الوطنية، وثانيهما عنصر بناء المكان، حيث أن الخوف من فقدان المكان بتغيير أسمائه، شكّل، ولا يزال، مصدر أرق وألم للمبدع الفلسطيني. وهذا الأمر يتم في الغالب بطرق عدّة، أبرزها "تفنين" السيرة الذاتية، أو تصعيدها إلى مستوى الأثر الأدبي. ولا شك في أن أي دارس يقف أمام تجربة الأدب الفلسطيني في ما يرتبط بالنكبة، سيسترعي اهتمامه، على نحو خاص، تأثير عاملين في هذا الأدب مقارنة بتأثيرهما في أي أدب آخر: العامل الأول هو الزمان، وهو متعلق بموضوعة الزمن الذي يتعيّن على النصّ الفلسطيني أن يُخلص له، ومتعلق كذلك بمبلغ حضور الزمن الماضي، بحسب ما أشرنا أعلاه. والعامل الثاني هو المكان، وذلك في ضوء حقيقة موضوعية مؤداها أن المكان بالنسبة إلى الكثير من الكتّاب الفلسطينيين، ليس الحيّز الذي يعيش فيه الإنسان مثل أي شعب في العالم فقط، إنما أيضًا، وربما بالأساس، المكان الذي يعيش في داخل الإنسان الفلسطيني.