م. ش. (من ورشة لكتابة اللاجئات السوريات في ألمانيا) لبرلين، هذه المدينة، ألف حكاية في رأسي! لن أنكر يوماً أنّني فيها حطّمت قيوداً كثيرة، وصغت أول حروف شخصيّتي. أذكرني اليوم فتاة في التاسعة عشر من عمرها. وأذكر فرحتي المبهورة! ذلك حين خرجتُ من البيت، في منتصف الليل، وأنا أرتدي "بيجامة" رخيصة، رديئة الجودة، كثيرة الألوان، ومن دون أن أسرّح شعري الأشعث، خرجت أمشى في إحدى أهمّ ساحات برلين. أنظر اليوم إلى الخلف، وأسخر من تصرّفي ذاك! أفكّر إن كان تصرّفاً خاطئاً، أم مجنوناً، أم أنّه حقّ من حقوقي. الحقّ الذي سلبني إيّاه أصحاب "الإتيكيت" ومستثمرو الإنسان. بينما أفكّر في ذلك، كنت جالسة في القطار خلف مقصورة السائق مباشرة. في إحدى المحطّات، نزل السائق لمساعدة رجل مقعد في الصعود إلى القطار، لكنّه، في النهاية، لم يسمح له بالصعود، بسبب أنّه لم يفهم من الرجل إلى أين يتّجه!
بعد صراع مرير بين الهنا والهناك، وأنا فتاة في عامي الخامسة والعشرين، اخترت أن أعيش بهدوء، هاربة من مستهلكيِّ قصصنا نحن البشر، أولئك الذين يتحدثون عنّا كأنّنا مخلوقات غريبة حطّت على أرضٍ أوروبيّة، لنصبح حقل تجارب
عبر مكبّر الصوت، صرخ السائق بنبرة حادة:" ابق بعيداً! ابق بعيداً!" المرأة التي كانت تجلس بجانبي، سألت زوجها: "ما به هذا السائق؟" أجابها الزوج محاولاً تبرير تصرّف السائق: "هذه هي برلين!" تحرّك القطار من جديد، تساك..تساك، تساك..تساك... ومع تكرار صوت احتكاك الحديد بالحديد، عادت الأفكار تدور في رأسي، تساك.. تساك... عليكِ تعلّم اللغة الألمانيّة! تساك.. تساك.. عليكِ أن تنسى صوت القنابل والموت! تساك.. تساك... عليكِ التأقلم والاندماج! تساك.. تساك... عليكِ أن تجدي عملاً! أن تدرسي! أن تنجحي! أن...، وأن ... تساك..تساك... لكن، ماذا عن الصدمة الثقافيّة؟ ماذا عن الرؤى، الكوابيس، القلق والأرق؟ وما كلّ هذا؟ تساك.. تساك... نحن، أبناء الحرب، يسترخصوننا! مسببو الحرب ومشعلوها أوّلاً، وثانياً وسائل الإعلام، تلك التي تستهلك قصصنا وصورنا، الصحف، المجلات، الفضائيّات، وغيرها. وماذا عن أرباحنا نحن؟ لا شيء عمليّاً! فنحن لا نكاد نحصل على احتياجاتنا الأساسيّة، وبعض الاستقرار والشعور بالأمان. لكن ماذا عن أماننا النفسيّ؟! لو أنّني أدركت لغة المال والوقت، سابقاً، لكنت غيّرتُ قليلاً من مسار حياتي. لكنّني كنت مشغولة في البحث عن معانٍ أخرى، لا أستطيع تحديد قيمتها الآنّ! ففي هذه الأيام يتحدّث الجميع عن القيم والمبادئ! ولكن من يأخذ بها؟ هذه هي برلين، حقيقةً. هنا، لن ينتظرك القطار صباحاً إن تأخرت في النوم. ولن يعرف أو يهتمّ أنّك اتخذت من النوم مهرباً وعلاجاً لصدماتك! هذه هي برلين. أصوات سيارات الإسعاف فيها لا تتوقّف، حتّى لو كان الشارع خالياً، أو الوقت ليلاً. وكأنّ هذه المدينة تحتاج إلى من يسعفها، طول الوقت. كنت قد توقفتُ عن عدّ سنوات مكوثي هنا، لأخفّف عن نفسي عبء الزمن، وبالتالي أسهِّل عليّ "الاندماج"! مَحوْت من مخيلتي منزلي الذي كان هناك، ثمّ مَحوْت كل ذكرى تعرقل طريقي هنا. هناك كان الزمن أبطأ وأقل ثقلاً، وربما كان يتوقّف مرّات من دون أن أنتبه! الحقيقة المرّة التي تواجهني هي الموت. هناك سأُقتل، بطريقة أو بأخرى، أما هنا فأشعر أنّني أُدفع لقتل نفسي، ولي الحريّة في اختيار الطريقة. أما الآن، وبعد صراع مرير بين الهنا والهناك، وأنا فتاة في عامي الخامسة والعشرين، فقد اخترت أن أعيش بهدوء، هاربة من مستهلكيِّ قصصنا نحن البشر، أولئك الذين يتحدثون عنّا كأنّنا مخلوقات غريبة حطّت على أرضٍ أوروبيّة، لنصبح حقل تجارب!