شاعر الدردارة يحمل معوله ويتجه نحو السماء

حسن عبد الله عاشق من طراز رفيع، عاشق نيرودا، الأرض والإنسان، والحكايات والأطفال، العمّال والفلّاحين والفقراء، عاشق فلسطين، عاشق القصيدة واللوحة، الحريّة والجمال. اليوم، حسن عبد الله، الحكيم والحرّ السامق، يتخفّف من أثقاله ويطير وقد ضاقت على الشاعر-الطفل أرضُ الأحقاد والشرور.

تعبَ رفيقنا، حسن! يا لوجهه الذي يشبه وجوه رجال ضيعتي! يا له كم يشبهنا! يا له كم هو منّا وفينا، هذا الشاعر الجنوبيّ الذي تعب! كان قد نبّهنا، بصوته الأخضر كحفيف الأشجار: "رجلاي" خائرتان/ لدرجة أشعر معها/ بأنّني لم أعد قادراً/ حتّى/على مجرّد التقدّم بالعمر". اليوم، سيلتصق ابن "الخيام"، بتراب الأرض الذي حُقنت به شرايينه، منذ ولادته في عام 1944. يومذاك، جلبه نبع "الدردارة"، وأدْفقَه أسيلاً رقراقاً عذباً، انساب في دروب ضيعته، وجرى حرّاً طليقاً في حنايا لبنان كلّه، متجهاً إلى العالم العربي، ليغنّي معه الأحرار أجمل الأمّهات "التي عينها/ لا تنام/ تظلّ تراقب نجماً يحوم على/ جثّة في الظلام". ولنغنّي معه السؤال والتحدّي: "من أين أدخل في الوطن ... / لن نتراجع عن دمه المتقدّم في الأرض/ لن نتراجع عن حبّنا للجبال التي شربت روحه/ .../ صامدون هنا/ قرب هذا الدمار العظيم/.../ صامدون هنا/ باتجاه الجدار الأخير". ذلك أنّ الوطن المحترق يخضرّ بين راحتي حسن قصيدةً عظيمةً، ووجهَ طفل يتهجّأ الأبجديّة، وزغرودةَ ثكلى انبعث ابنها من رماد خبره الأسود. ها قد ترجّل المحارب. ها قد اختار عاشق الأصياف يومه صيفيّاً ليغفو في النوم الكبير: "النوم/ هذا الموت الصغير/ نترنّح قليلاً من النعاس/ ثمّ تلك الحركة الأشبه بخفقة جناح/ تجعلنا نتخفّف من كلّ ثقل/ ونمضي بخطىً طيريّة/ في المدن الخرافيّة للأحلام". اليوم أجاب على قلقه العبثيّ: "لقد أمضيت حياتك/ وأنت تنقّب في الأرض/ فماذا جنيت؟/ لم لا تحمل معولك/ وتتجه نحو السماء؟". حان موعد طيرانه المختلف، إذًا. أفرد جناحيه وحلّق، كعادته، مع أنّه، كما يقول: "لست طائراً، ولكن للضرورة أحكامها". حسن عبد الله، صديق مهدي عامل الأبدي، عاشق من طراز رفيع، عاشق نيرودا، الأرض والإنسان، والحكايات والأطفال، العمّال والفلّاحين والفقراء، عاشق فلسطين التي "تحيا فلسطين!" والتي "عاشت فلسطين!"، عاشق القصيدة واللوحة، الحريّة والجمال. أمضى حياته وهو ينقّب في أرض نبع "الدردارة"، وفي حقولها وبساتينها، وديانها والينابيع، سمائها في الشمس والقمر والفصول الأربعة، في زقزقة الـ"أبو الحنّ" وسقسقة النهر، في الماء، في أشجار التين والزيتون والبلوط، في ضحكات الأطفال ودموعهم، في الكلمة وفي اللون، ليخرج لنا ماء سلسبيلاً، نحن الظمأى. كم سقانا من سحر فضاءات التخييل العذب دهشةً وإقلاقاً ماتعاً، شجاعةً وأملاً، حكمةً وصبراً جميلاً! كم عانقنا، محبّ الجميل هذا: "أجمل فعل يقوم به/ الإنسان/ هو/ عندما يعانق خائفاً". كيف لنا، هذا النهار، أن نشارك "الخيام" هدهدة هذا الطفل الأبدي في نومه الكبير؟ كيف لنا أن نضع فوق سريره أكاليل ورود وغار ورياحين؟ بالأمس فحسب، قرأت "استمساك" في جريدة "الأخبار". كعادته، فوّر الملح فوق جرحي السوريّ. تحدّث فيه عن ردّ فعل من يتعرّض للأذى، سمكةً كان أم قطّة أم إنسان، لينتهي إلى أنّ الإنسان الذي لا يحرّك ساكناً لمواجهة الأذى: "تمّ استمساكه، بهذه الطريقة أو تلك، وانتهى الأمر" وفي "الأخبار" ذاتها، قبل الأمس بقليل، كان يقرأ نزيفنا: "إلى دول الغرب/ الفالتة في بلادنا/ كوحوش في البرّيّة/ لماذا لا تخافون منّا؟" منذ زمن بعيد، شرعت أقرأ نصوص حسن عبدالله. في قصائده كثير من هواجسي. أنا أيضًا تكويني الجبال المحروقة بنيران لصوص تجّار الفحم الأسود كقلوبهم، وقلوب حُماتهم. وتحرقني غوطة دمشق، جنّة الله الأرضية الموؤودة بجشع تجار العقارات وسادتهم من المتنفّذين، قبل  أن كادت الحرب تلتهم بقاياها كلّها! يوم عرفت أنّ في حارتي، وتحت بيتي تماماً، كان يجري رافد من روافد بردى الحزين! تذكّرت قصيدة حسن عبد الله: "هناك تحت ذلك البناء/ ذي الطوابق العشرين/ كنتم تسكنون/ لاحظي/ هناك أيضاً/ أُكل الفضاء بالإسمنت/ وامّحت/ حدائق الليمون". الطبيعة شغف حسن عبد الله، وخرابها لوعته، إذ لا دفء في أرواح المخرّبين-التجّار  المجمّدة، والحياة لديهم مجرّد بازار ليس غير: "لا حرارة/ سوى حرارة الشراء والبيع/ ولا صوت/ سوى صدى ارتطام المال بالرجال/ والرجال بالمال". ولا يتبقّى، إذاً، سوى التوق إلى الزمن القديم البهيّ: "ذلك الزمن/ الذي كانت تظلّلنا فيه الشجرة، ويحطّ/ على كتفنا العصفور/ ذلك الزمن/ الذي كنّا نشرب فيه القمح وهو ما يزال/ حليباً في السنابل".
الطبيعة شغف حسن عبد الله، وخرابها لوعته، إذ لا دفء في أرواح المخرّبين-التجّار  المجمّدة، والحياة لديهم مجرّد بازار
كتب حسن عبد الله، حتّى آخر سطور حياته، بحثاً عن حلٍّ للغز: "هناك شيء تمسك به الحياة/ وتخفيه وراء ظهرها/ ولن أتوقّف عن الكتابة/ حتّى أعرف/ ما هو". ويتميّز حسن بخفّة الروح، وبطفولة لم تغادره يوماً. لكنّ هذه ليست سوى ميزة مخاتلة، إذ لا نكاد نبتسم أو نضحك حتى يجمّد السؤال شفاهنا، ونحزن حال نكتشف الأغوار! فلدى هذا الشاعر فلسفته الحياتية الخاصّة وحكمته، وإحساسه بالعبث. وإذ يعجزه ذلك كلّه، يناكده بالطرافة كسخرية سوداء. يقول مفضّلاً العزوبيّة على الزواج: "وحدتي قلعتي/ حيث جسمي قويّ/ وقلبي منيع/ وسرّي مقدّس/ أيّ امرأة تتقدّم من جنّتي/ هذه/ سأواجهها بالمسدّس". والسؤال الأكيد هنا هو أيّة وحشة وعزلة نفتا حسن إلى قلعته وحيداً؟ دعونا نتأمّل، أيضاً، فلسفته في الحبّ: "حبّي الأوّل، كان في العام 1985/ وأنا الآن أعيش في حبّي الثاني عشر/ السادس، كان أجمل حبّ في حياتي/ لأنّني في الخامس/ اكتشفت أنّ الحبّ غير موجود/ ومن ذلك الحين/ وأنا أحبّ، من دون حبّ". في بداية سبعينيات القرن العشرين، اقتحم اسم حسن عبد الله فضاء الشعر والشعراء من باب عريض، حين أصدر ديوانه الأوّل "أذكر أنني أحببت" (1972). وحين أصدر ديوانه الثاني، "الدردارة"، على اسم النبع في ضيعته، بات يُعرف بصاحب الدردارة، وبابن البريّة. ويُعَدُّ ديوانه هذا، بقصيدته الوحيدة الطويلة، فريداً في الشعر العربيّ ويحظى بمكانة بارزة. وفيه نتعرّف إلى ضيعته بجميع تفاصيلها، إذ يرصد العالم من حوله بعين سينمائيّة شغوفة، ويرسم جغرافيا المكان، ويقدّم مشاهد متحرّكة لكلّ ما فيها من كائنات وجمادات عاش فيها ومعها منذ الطفولة وحتى آخر يوم في حياته: "هذي سيرتي:/ في خيمة قامت على كتف الغدير وُلدت/ عشت طفولة مملوءة سمكاً وريشاً، كنت أصغر من أخي الأكبر/ ومن "الكناية"/ كنت أكبر من أخي الأصغر/ ومن الفراشة/ دائماً/ كانت تغيب الشمس والبجعات ترحل/ دائماً/كان الطريق يمرّ عبر التين/ من جهة الحمار/ وينتهي في بيتنا./.../ متقدّماً في التين/ في القشّ القديم... أتى أبي/ ورمى عرانيساً أمام الباب/ صلّى ركعتين سريعتين/ وغاب في أحد الكتب/ وأخي الكبير أحبّ/ فامتلأت حديقة بيتنا كرزاً/ وأجراساً/ وأمّي أطلقتني في براري الصيف". على غرار هذه البساطة والشفافية الطفوليّتين الباذختين، وبمثل هذه الرقّة والعمق والحبّ الكبير، كتب دواوينه القليلة اللاحقة، ورسم لوحاته الجميلة، ممجّداً الطبيعة ومخلّداً ضيعته "الخيام"، جارة فلسطين القريبة، فلسطين التي في قلبه ووعيه الوطنيّ والقوميّ، هو من علّمنا استحالة إرفاق الظرف الزماني "دائماً" مع الكيان الصهيوني، فلا ديمومة لإسرائيل الطارئة! كتب حسن عبد الله كثيراً للأطفال، ما يزيد على 60 عملاً. ومثل الأطفال كان، بروحه التي تضجّ بالحياة والدهشة والمرح والولع بالحكايات. وعلى غرار الأطفال حين يخبروننا بما جرى لهم، كان حسن يسرد ما جرى له بطريقة حكائيّة، إلى حدّ أنّ عديداً من نصوصه الشعريّة يُعدّ ضمن ما يسمّى بالقصيدة-القصة، مقابل القصّة-القصيدة، ولعلّ أبرز أمثلة ذلك قصيدته "ليست الجنّة". ثم إنَّ لمفردات حسن، شأنها شأن مفردات الأطفال، طزاجة الندى على الرياحين والطيّون، وعذوبة رائحة الأرض أوّل المطر، وشفافيّة مياه النهر، وعمق البحر، وحنان أمّ تمسّد شعر طفلها. اليوم، حسن عبد الله، الحكيم والحرّ السامق، يتخفّف من أثقاله ويطير، من دون ثوبه المهلهل، ووجع السؤال: "لبنانيّ؟ إلى متى سأظلّ مرتدياً هذه الصفة/ كثوب ممزّق؟/ أدفع ثمن مواقفي/أكثر ممّا أدفع/ ثمن طعامي وشرابي". ضاقت على الشاعر-الطفل أرضُ الأحقاد والشرور.
رغم أنّها ما زالت هنا!

 سأفتح الكمبيوتر لكتابة حكاية إنقاذ روح أمي لي ممّا يرعبنا في سوريا. ربع ساعة وتعود الكهرباء مدّة ستّين..

رباب هلال
لجينة الأصيل: الطفلة التي قرّرت ألّا تكبر

كانت لُجينة الأصيل ترى أنّ على المختصّ في مجال الأدب والفنّ الطفليّين أن يحرص على استبقاء الطفولة في..

رباب هلال
الكلمات... كلمات سوريّة!

المازوخيّة كلمة. نستمتع بعذاباتنا المصفوفة بأناقة متفجّرة. والساديّة، كلمة أخرى. فنجلد أنفسنا لذنبها في..

رباب هلال

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة