العنف.. مرتدًا إليها

تنقل المرأة العنف إلى من هم أضعف منها، كالأطفال وزملاء العمل والنساء الأخريات. وفي هذا السياق، يمكننا فهم مثال المرأة التي تكون عدوة المرأة في مجتمعاتنا، لأن في ذلك تهديداً لوجودها، تهديداً للشروط ولأحكام التي تعيش من خلالها، تهديداً لقيمتها ورغبتها.

لعلَّ السؤال الأهم الذي تطرحه النظرية النسوية وتحاول الإجابة عنه اليوم، هو: "ما هي المرأة؟". تحاول النظرية النسوية، من خلال هذا السؤال، تحديدَ طريقةٍ لتعريف الذات الأنثوية ووصفها، بحيث يشمل هذا الوصف جميع النساء من دون استثناء، من جهة، ويتجنّب الوقوع في مطبات التصنيفات الثقافية والصفات الجوهرية، من جهة أخرى. ولأن الإجابة عن هذا السؤال لا تزال شائكة، ولأن الإجابة غير السياسية عنه لا تزال غير ممكنة، سوف تستأنف هذه المقالة بالتحايل على السؤال والتجرؤ على القول: إنَّ ما يجمع بين نساء العالم اليوم ليس شيئاً محدداً فيهن، ليس أجسادهن أو أفكارهن، بل نوع من العنف الممارس عليهن.

يتفاقم العنف في المجتمعات المتصارعة داخلياً، والتي تشيع فيها العلاقات القائمة على التسلط والاضطهاد والرضوخ. ولا شك أن المرأة في مجتمعات من هذا النوع هي ضحية العنف الأولى على الدوام. ولعلَّ أخطر ما في هذا النوع من العنف ليس العنف ذاته، ليس الفعل أو القول ذاته، وإنما الأثر الذي يتركه في موضوعه، أي في المرأة، بعد انتهائه. فالمرأة لا تستبطن هذا العنف ثم تحوله إلى شريكها وأبنائها وكل من يحيط بها فحسب، بل تعيد إنتاجه في ذاتها حتى يصبح جزءاً منها، فيظهر في أفعال وأقوال تبدر منها، بل يتحول أحياناً إلى أسلوب حياة ومنظومة قيم ونظرة إلى الذات، كما يتحول إلى رغبة مقنَّعة في أن تكون معنَّفة أحياناً ومعنِّفة في أحيان أخرى. ومن المؤكّد أنَّ هذا النوع من العنف لا يقتصر على المرأة وحدها، لكنَّ المرأة هي الأكثر عرضة له في مجتمعاتنا والأكثر استبطاناً له في نهاية المطاف.

ليس ضرورياً أن يكون المعنِّف هنا قاصِداً هذا العنف أو واعياً به. فقد يرتدي العنف هنا زيّ الحبّ، فيعمل الحب في مستوى من مستويات الشعور ويعمل العنف في مستوى آخر من اللاشعور. إنَّ إحساس المرأة بالعجز الدائم أمام السلطة الحاكمة الأبوية أو المجتمعية يقودها إلى أنماط دفاعية معينة تحمي نفسها من خلالها وتستعيد أناها المهدَّدة بالفناء. يأخذ الحب هنا، على سبيل المثال، شكل العلاقة السادومازوشية. وعادةً ما يتّخذ الذكر موقع السادي في العلاقة، لا سيما في مجتمعاتنا، في حين تتخذ الأنثى موقع المازوشي.

يقول الدكتور مصطفى الحجازي في كتابه الشهير "التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور": "السادية في الأصل عدوان قبل أن تكون جنساً، والمازوشية معاناة مادية وجسدية ومعنوية قبل أن تكون تلذذا جنسيا بالألم [...] فالسادي يعنّف ويقسو هرباً من مازوشيته الداخلية، من مشاعر الذنب التي تقض أعماق وجوده. وكلما زادت قسوته دلّ ذلك على شدة ذعره من أن ترتد عدوانيته إلى ذاته فتدمرها. السادي يتنكر لمازوشيته من خلال إلحاق الأذى بضحيته التي تجسد ما يخشاه من نفسه. أما المازوشي فهو يرضخ ويستنزل الأذى بنفسه دفاعاً ضد قلق ساديته التي يخشى توجهها إلى الخارج، وإفلاتها من سيطرته بشكل يدمر الآخر وبالتالي يدمر الذات معه".

تستبطن المرأة العنف بالرضوخ إلى العنف باسم أنوثة متخيَّلة وضعف أصيل تارةً، وبالتنكّر للعنف ونقله إلى الآخرين تارةً أخرى

وعلى الرغم من التكافؤ الظاهري بين طرفي العلاقة السادومازوشية، فإنَّ هناك سمة خطرة تسم المازوشي بصورة خاصة، ونقصد هنا المرأة في مجتمعاتنا. وقد كان فرويد أول من أشار إلى هذه السمة في عمله "ما وراء مبدأ اللذة"، إذ أشار إلى دافع الموت، حيث تندفع المرأة المازوشية بصورة لاواعية إلى تدمير ذاتها علاوةً على اندفاع السادي بدوره إلى تدميرها، فتتركز شحنة التدمير عليها من الطرفين. وفي هذا السياق، يمكننا أن نفهم عمق الصفات التي عادةً ما تُلصَق بالمرأة بوصفها صفات أنثوية طبيعية وحسنة مثل قدرة المرأة على تحمل الألم، وتجلّدها على المصائب، والقدرة على العطاء المستمر، وغيرها من الصفات التي تدّعي تمكين المرأة والثناء عليها ظاهريًا لكنها تحمل في باطنها العنف والبؤس.

وعلى عكس ما يُشاع حول المرأة من أنها أكثر قدرة على تحمل الألم من الرجل، أظهرت دراسة أجرتها جامعة ستانفورد في الولايات المتحدة الأمريكية عام 2012، بعد النظر في أكثر من 11000 سجل طبي، أنَّ النساء يملن إلى الإحساس بالألم أكثر من الرجل، خصوصاً في الالتهابات الحادة. وفي دراسة أخرى أجراها فريق من الباحثين في جامعة فلوريدا في عام 2009، وُجد أيضاً أن النساء يُظهرن حساسية أكبر لمعظم أشكال الألم ويعانين من آلام وأمراض أكثر وتفوق نسبة تناولهن المسكّنات نسبة تناول الرجل. ثمة أثر آخر يتمخض عن هذا النوع من العلاقات نجده في رغبة المرأة في أن تكون موضوع رغبة الرجل، في أن تحصل على اعتراف بوجودها من خلاله فحسب، في أن تستمد قيمتها وأهميتها منه. وقد ناقش المحلل النفسي جاك لاكان هذه الرغبة من خلال إحالته إلى جدلية السيد/العبد التي يستعيرها من الفيلسوف هيغل. وبما أنَّ السيد هنا لا يولي المرأة اهتماماً إلا بوصفها جسداً، تحصر المرأة قيمتها في حدود الجسد، فيصبح الجسد مصدر الاحترام والثقة بالنفس، مصدر السعادة أو الحزن، وموقع النجاح أو الفشل. وقد تؤدي هذه الرغبة في بعض الأحيان إلى تماهي المرأة مع شخصية السيد ومع أحكام السلطة التي يمثلها السيد بسبب عدم قدرة المرأة على مواجهة ضعفها وعجزها عن المقاومة. وعندها يحدث الأمر الأخطر على الإطلاق وهو تبني المرأة العنف إيّاه ونقله إلى ذاتها من خلال الشعور بالذنب وتأنيب الضمير في حالات عدم القدرة على تلبية حاجات السيد النفسية أو الجسدية أو الوصول إلى مستوى توقعاته.

إضافة إلى نقل العنف إلى الذات، تنقل المرأة هذا العنف إلى من هم أضعف منها، كالأطفال وزملاء العمل والنساء الأخريات. وفي هذا السياق، يمكننا فهم مثال المرأة التي تكون عدوة المرأة في مجتمعاتنا، لأن في ذلك تهديداً لوجودها، تهديداً للشروط ولأحكام التي تعيش من خلالها، تهديداً لقيمتها ورغبتها. تستبطن المرأة العنف بالرضوخ إلى العنف باسم أنوثة متخيَّلة وضعف أصيل تارةً، وبالتنكّر للعنف ونقله إلى الآخرين تارةً أخرى. وتعيش حياتها بصورة غير واعية في وضعية الدفاع عن النفس ضد هذا العنف، فتستنزف كل ما لديها من إمكانات وقدرات في صراع مستمر خفي مع الآخر ومحاولات مستحيلة لتحقيق التوازن النفسي. ولذلك لا تستطيع المرأة أن تخطو خطوة أولى في سبيل استعادة كيانها وذاتها وسكينة قلبها إلا بالتحرر من هذا العنف بصورة كاملة أو، وهذا أضعف الإيمان، بمواجهة الذات والتصدي للعنف النفسي بشجاعة وفهم أنَّ الحب والعنف لا يستويان.