في الطّريق إلى وجهي

أغمضُ عينيّ، وتحضرني لعبة الأسئلة التي لطالما لعبناها في ساعات وحدتنا الطويلة، وحدتنا التي لم يزدها الحجر الصحي العالمي إلا وضوحاً وخشونة. أرددُ بعضَها في رأسي، وأبتسم: "عبد الوهاب أم عبد الحليم؟ محمود درويش أم نزار قباني؟ كونديرا أم ساراماغو؟ فيلم أم رواية؟ كريستيانو أم ميسّي؟ دمشق أم حلب؟ وطن أم هجرة؟ ..."

على كرسيّ من الخيزران يتوسّطُ الغرفة، جلسَ وفي يده قلم رصاص. مولياً ظهره للباب، وجهه إلى الحائط وأمامه حاملٌ خشبيّ ثُبِّتَتْ عليه ورقةٌ بيضاء. لم يرَني حين دخلتُ واكتفى بصوتي يُلقي تحيةً مقتضبة. لا مرايا في المكان. كان عليّ أن أتكّل على ذاكرتي وأحسن انتقاء مفرداتي، وأن أثق بمعرفتي لنفسي. هذه هي قواعد اللعبة: أن يرسمَني مُعتَمِداً عليّ: سأقفُ خلفه، وسأصفُ له شكل وجهي وملامحي ليحوّل كلماتي مباشرة إلى ما يشبه البورتريه على الورقة المُنتَصِبة قُبالتَه. كانت لعبة اقترحتْها صديقتُنا المشتركة كفاتحةٍ لتعارفنا: هو، الفنان التشكيلي المشغول دوماً بتحدّي قدرته على تحويل كلّ شيء في هذا العالم إلى ألوانٍ وخطوطٍ؛ وأنا، السّاعية خلف الكتابة والباحثة عن تطوير تقنيات التذكّر والسّرد وتوظيف الكلام. كانت لعبةً في مزاوجة الفنون إذن: في التأمل والاستحضار والوصف والتخيّل والرسم، والترجمة الفورية من لغة الحروف إلى لغة الرسوم. بدأتُ بوصف شكل رأسي: مستديرٌ غيَّرَ خالقه رأيه في آخر لحظة فلم يُكمِلْ انحناءته بل أتمّه باستطالةٍ خفيفة. انتقلتُ إلى معالم وجهي: جَبْهة عريضة نسبياً، عينان واسعتان يميلُ طرفاهما الوحشيّان نحو الأسفل قليلاً، حاجبان عاليان كأنهما يتركان للجفنَين العلويَّين والمَحْجَرَين فرصةً أكبرَ للظهور. أكملتُ بصعوبة وصفَ ملامحي، تلكّأتُ، فكّرتُ، حاولتُ استدعاء بعض صوري الفوتوغرافية إلى ذاكرتي، استرجعتُ وقفاتي الكثيرة أمام المرآة. نجحتُ في تذكّر بعض التفاصيل لكنني ارتبكتُ عندما أردتُ أن أرتّبها في كلمات. تحسستُ وجهي بيديّ، وحاولتُ أن أقيس بأصابعي المسافات الفاصلة بين زوايا مكوّناته. تجاهلتُ وصف إذنيّ. وانتقلتُ سريعاً إلى تعداد العلامات الفارقة، فقلتُ له: "لي شامةٌ على الجفن فوق العين اليمنى. وبذا، لا عينين في وجهي بل عَينًا وغَينًا!" ضحك وقال: "حتى دعاباتك عن اللغة والحروف!". تعبتُ، ولم أتمكّن من إضافة أي تفصيل آخر، فقلتُ له إنني انتهيت. نهضَ وحرّرَ الورقة واستدار نحوي، تفرّسَ في وجهي ثم نظر إلى الرسم في يده. قال مُقَيّماً التجربة: "لقد فشلتِ في وصف أنفك وذقنك كما فاتك أن تتحدثي عن وجنتَيك. رغبتُكِ في توخّي الصدق واضحة. ولكن، ما زالت أمامك طريقٌ طويلةٌ نحو الإحاطة بموضوعك. وعليكِ أيضاً أن تمرّني كلماتك لتكون أكثر دقّة وإخلاصاً للواقع". أعطاني الورقة فأطلتُ النظر إليها: "هذا الوجهُ أجمل منّي! أنتَ أيضاً أفلتتْ منك بعضُ شروط اللعبة ولم تلتزم بما سمعت. لقد غلبك توقكَ إلى الجمال، فحرّفتَ الكلمات وانتصرتَ لرغبتكَ وخيالك. ستبقى خائناً في نظر الحقيقة لكنّ الفن سيجدُ لك أعذاراً ويغفر لك".
في كل مرة تكتبين فيها تفتحين في جوفك نافورةً من الأسئلة وتكتشفين دروباً فرعية ومخفيّة في تلك الطريق
اليوم، أجلسُ معكَ على أريكةٍ تفصلها عن تلك الحادثة مسافاتٌ وسنوات. نراوغ الملل الثقيل ونطرّي وحدتنا بالحكي والقصّ. أروي لك أغربَ طريقة تعارفٍ مارستُها في حياتي. أُبدي إعجابي بالذكرى كلّها. وأتساءل عمّا حلّ بالرسام الذي لم ألتقِ به بعدها سوى مرةً أو مرتين. ثم أفطنُ إلى ضرورة مهاتفة صديقتنا المشتركة - صاحبة الفكرة - للاطمئنان، فقد مرَّ على اتصالنا الأخير زمنٌ طويل. تفسحُ لي بصَمْتِك مجالاً أكبر للتعليق على روايتي واستطراداتي. أنتبهُ إلى أنني أطلتُ الحديث، ولم أسمع منكَ تعليقاً، فأسألك: - ألا تتمنى لو أنك رأيتَ الرسم؟ لقد كان يشبهني، إلا أنه أحلى بكثير. - لا حاجة بي إلى الرسم، صورتك الأحلى أُدرِكُها بالحب. - وما رأيك بالطريق الطويلة؟ - الطريق الطويلة هي تلك التي تقودك إلى نفسك. لن تَصِلي أبداً، سيعترضك الوهمُ والخجلُ، وسيؤخّرك الإنكار والتردّد. ستختلطُ عليك قَسَماتك وستضيعين كثيراً. لكنّ الكتابة ستعينك على قطع الرحلة بخطواتٍ أوسع وإن بمشقّةٍ أكبر. أنت في كل مرة تكتبين فيها تفتحين في جوفك نافورةً من الأسئلة وتكتشفين دروباً فرعية ومخفيّة في تلك الطريق. لا تشغلي بالك بمطابقة الواقع، أنصفيه من دون مغالاة، وجانبيه من دون خيانة. صادقي خيالك وثقي ببراعته ودواعي كذباته. اتركي أمرَ الدّقة لإحساسك. وتأكدي، أنه مهما اختلفتْ موضوعاتك وتنوّعتْ، فإنك مع كل كتابة تقتربين أكثر من وجهك! - أشعر بأن الكتابة تغّير لي شكلي. تمنحني ملامحَ تشبه ملامح ما أكتب. ألا ترى أنني أصبح أجمل كلّما كتبتُ نصّاً جميلاً؟ تصمتُ، وترفعُ يدك نحو وجهي. تمرّرُ إصبعكَ على ملامحي كما لو أنك تغمّق خطوطها أو ترسمها من جديد. أغمضُ عينيّ، وتحضرني لعبة الأسئلة التي لطالما لعبناها في ساعات وحدتنا الطويلة، وحدتنا التي لم يزدها الحجر الصحي العالمي إلا وضوحاً وخشونة. تلك الأسئلة التي استعنّا بها على وحشة الأماكن وتماثل الأيام. أرددُ بعضَها في رأسي، وأبتسم: "عبد الوهاب أم عبد الحليم؟ محمود درويش أم نزار قباني؟ كونديرا أم ساراماغو؟ فيلم أم رواية؟ تشكيل أم تصوير؟ عرق أم ويسكي؟ متّة أم قهوة؟ كريستيانو أم ميسّي؟ فيديرر أم دجوكوڤيتش؟ دمشق أم حلب؟ وطن أم هجرة؟ ..." لم نبتغِ الإجابةَ ولا مرة. ولم ننتوِ عقد المقارنات كي لا نهوي معها نحو التبسيط والتسطيح والسذاجة. (ألم تجرّنا المقارنات البلهاء إلى أكبر الخسارات في الحرب والحب والسياسة!) لم نلعب يوماً لكي ينتصر أحدنا، أو لكي نصل إلى النهاية. بالعكس، كانت الأسئلة أراجيح لأحاديثنا، وشرفاتٍ نطلُّ منها على حبّنا لنراه من زوايا مختلفة. كانت أسئلتنا مرايا لوجهَينا وملامحنا، من خلالها نراقب اهتماماتنا وميولنا وتحولات أذواقنا. كانت أسئلتنا معابرَ لطرقاتٍ نحبّ أن نتنزه فيها ونمشيها معاً. وكثيراً ما قطفنا لها أثناء سيرنا حججاً من كِتاب أو مقال، أو سَقَيناها من دلاء ذوي الاختصاص، أو رمينا لها إجاباتٍ عاطفية من دون أن نُتعِب أنفسَنا بالشرح والتفنيد. ويحدث أن نكرّر الأسئلة ونكرّر الإجابات، بشهوة من اعتاد المشي في حديقة يحبّها. ويحدث أيضاً أن يستفزّ أحدنا الآخر ليستدرج منه حركةً مُحَبَّبة أو تعليقاً متوقّعاً، أو أن نضيف اقتراحاً ثالثاً خارجاً عن اقتراحَي السؤال، فنضحك أكثر ويحلو اللعب ويحتدم الكلام. الآن، أتنبّهُ وقد حطّ إصبعك على الشامة فوق جفني الأيمن، أهتِفُ بك مُفتَعِلَةً الخوف: - أرجوك، انتبه! لا تمحُ شيئاً.

أغمض عينيّ مرة أخرى، وأرى أيامي كقطعة نقد معدنية. تقذفها يد العمر عالياً عالياً ولا تلبثُ أن تعاود السقوط. يتبعها قلبي الواجف، وتستعجل عيناي رؤية مستقرها، وتضطربُ روحي بسؤالٍ ما برح يخضّها: "حبٌّ أم كتابة؟"

مَن سَمِعَ ليسَ كمَن قرأ (1)

"فقدان سمع حسّي عصبي. لا أعدك بنتائج مضمونة؛ قد يعود السمع إلى مستواه الطبيعي وقد لا يعود". تشخيص الطبيب..

زينة حموي
من رسالةِ البرّانيين إلى أهل الأرض

هل كانت لحظةُ انفصالِ الروح عن الجسد مؤلمة أم مريحة في ميتةٍ كهذه؟ بماذا فكّر مَن غَدوا بلا صوت وماذا..

زينة حموي
"أنا ما قالتِ الكلماتُ"

يقتربُ الموعد المحدّد لتسليم النص. أتأمّل ما كتبتُه أمامي. أشعر بأنني لَحَنتُ في إجابتي وانحرفتُ عن..

زينة حموي

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة