حوار الأديان: من يحاور من؟

معظم الذين يتم انتدابهم لحوارات الأديان يمثلون سلطة دينية رسميّة، أو أكثريّة مهيمنة، ويصبح الأمر أكثر غرابة، وحتى سوريالية، حين تقام هذه الحوارات في بلدان تحكمها أنظمة استبدادية

تكاثرت في السنين الأخيرة مبادرات ومؤتمرات «الحوار» بين الحضارات وبين الأديان وأصبحت هناك مؤسسات ترعاه. نضع «الحوار» بين أهلّة لأنه يستدعي، في هذا السياق، مراجعة ونظرة نقديّة إلى جذور الفكرة والفرضيات التي تستند إليها. تبدو مفردة وفكرة الحوار، بحد ذاتها، إيجابية. بالذات في هذا الزمن الذي ترتفع فيه الجدران والحواجز التي تفصل بين الجماعات والمجتمعات والبلدان، على أسس عرقية وطبقية وهويّاتيّة. زمن تتعمّق فيه الخنادق وتتكاثر المتاريس، حقيقة ومجازاً، في حروب وصراعات دمويّة توظّف أطرافها، دولاً وأحزاباً وجماعات، خطابات تستعين بمفردات وسرديّات ورموز تحيل، بدرجات وطرق مختلفة، إلى هذا الدين أو ذاك، وهذه العقيدة أو تلك. 

لكن هذا «الحوار»، الذي يبدو وكأنه نقيض خطاب صراع الحضارات (والأديان) الذي أطلق عنانه بعد انتهاء الحرب الباردة، ويبدو أنه يهدف إلى نفيه أو دحضه، يشترك معه، أي مع خطاب صراع الحضارات، في فرضياته وأسسه المتهافتة. فالـ  «حضارة»، وإن استخدمت أحياناً كإطار عام، تظل إشكالية كمقولة تحليلية. فهي ليست كتلة متجانسة، عابرة للتاريخ والحدود. ولا يمكن اختزال التغيير، ولا التنوّع، الهائلين، جغرافياً وتاريخياً، ولا القوميات والطبقات والشرائح الاجتماعية وتواريخ هذه كلها، وحصرها بسهولة ومجّانيّة في كتلة هائلة اسمها «حضارة». كما لا يمكن تعيين الحدود بين «حضارة» وأخرى بالسهولة التي قد يتصورها المرء. أما فكرة «حوار الأديان» فلا تقل إشكالية ولا تهافتاً. فالحوار يفترض ويتطلّب، عملياً، أن يكون هناك من هو مخوّل بالحديث باسم هذا الدين أو ذاك. لا يتسع المجال هنا للتطرق إلى السجال المعقّد والمستمر بخصوص «الدين» كمقولة مهيمنة نظرياً. لكن يكفي أن نذكّر أن «الدين» أيضاً إطار عام، ينضوي تحت مظلته الملايين. ولكن هناك طيف من المذاهب والفرق والميول، والمعتقدات والممارسات، التي تتباين في كل دين. فكيف يتم اختزال وتسطيح كل هذا التنوّع في كل دين بحيث يمكن لشخص (أو حتى عدة أشخاص) أن يصبح ناطقاً رسمياً باسم الملايين. وحتى لو افترضنا إمكانية وجود تمثيل، شبه عادل، يحترم التنوّع، وهو أمر مستحيل، لوجود تراتبيات وأكثريّات، وجماعات مهمّشة، وأخرى مقصيّة، فإن هذا التمثيل أصلاً محصور بالمؤسسات الدينيّة الرسميّة. ومعظم هذه لا تتمتع أصلاً باستقلالية، وقد لا تمثّل، فعلياً، جموع المؤمنين بالضرورة. وذلك يعود لأسباب مختلفة تتعلق بتاريخها وبتركيبتها، وبتورطها في علاقات مساومة ومحسوبية مع السلطات السياسية. وغالباً ما تشكّل هي نفسها سلطة تحتكر تمثيل الدين، أو المذهب، وتحديد معانيه، وتقمع من يخالفها الرأي أو التفسير والممارسة.

وهكذا فإن معظم الذين يتم انتدابهم لحوارات الأديان هذه يمثلون سلطة دينية رسميّة، أو أكثريّة مهيمنة. ويصبح الأمر أكثر غرابة، وحتى سوريالية، حين تقام هذه الحوارات في بلدان تحكمها أنظمة استبدادية، لا تسمح قوانينها أصلاً بحرية المعتقد والرأي لمواطنيها، الذين تزج بهم في السجون وتعدمهم لاختلاف الرأي. كما ويكفّر مذهبها الرسمي، المذاهب والطوائف الأخرى. حين ترعى أنظمة كهذه مبادرات ومؤتمرات ومراكز «حوار الأديان»، يصبح الحوار فصلاً في مسرحية العلاقات العامة لتبييض الحروب، الخارجية والداخليّة.

(تنشر بالتزامن مع موقع "جدلية")