ويحدّثونك عن رميم!*
إن حياةً عفيّةً لقُطر عربي، لا تتوافّر إلا بانتمائه العضوي إلى "كومنولث" عربي، وهو بالتعريف: كونفدراليةٌ تعاهدية، وليس بالضرورة اتحاداً تعاقدياً... هو يتجاوز «الجامعة» بالمليان، وإنْ لا يَشترط أن يُدستَر بوحدة
إن حياةً عفيّةً لقُطر عربي، لا تتوافّر إلا بانتمائه العضوي إلى "كومنولث" عربي، وهو بالتعريف: كونفدراليةٌ تعاهدية، وليس بالضرورة اتحاداً تعاقدياً... هو يتجاوز «الجامعة» بالمليان، وإنْ لا يَشترط أن يُدستَر بوحدة
الثابت أن استئناف المشروع العربي، في شكل "كومنولث" يضمّ أقطار العرب، ما عاد هذيان حالم، بل حاجة بقاء يؤسس لنماءلم يكن القرن في عالمنا العربي مرتع سكينة للمُهيمن، بل حفل بسيلٍ من المقاومات ووسائل الدفع على طول مساره، كان أخطرها عليه وأصلبها عوداً لدينا وعدُ مشروع 1955 - 1970 العربي زمن عبد الناصر. لا يحتاج المرء غير أن ينكُش في الأرشيف الأميركي حتى يلمس ما رآه المُهيمن فيه من خطر، ولا سيّما عقب السويس - 1956. لقد رأى في وعده شبح قيام دولة كبيرة بموارد هائلة، وسوق واسعة، وموقع فريد، وتاريخ جسور، وإرادة نهوض. وعلى الرغم من أن عوائق هذا المشروع لم تدعه يبلغ حدّ التّجسُد، إلّا أن روحه ونضالاته كبحَت كل الروابط الأدنى. كان كُرد العراق يعرفون أن تقسيم العراق، ولو مغلفاً بفدرالية رثّة، حلمُ ليلة صيف. وكان أفارقة السودان لا يطمحون بأكثر من حكم ذاتي في الجنوب. وكان مَن في قبائل الجزائر أو أطلس المغرب لا يرطن بهوية مُفرنَسة. وكانت المذهبية في المشرق غافيةً في جِحر مكمور. وكان قبط مصر برِيئين من مظنّة التورط مع الخارج. هذا لجهة الداخل، أما لجهة الخارج، فكانت قوى الاستعمار القديم تُلاحَق بالسياط إجلاءً وطرداً من الأرض العربية، وكانت حتى قوة الاستعمار الجديد تحسب كل حساب لقوة المشروع العربي (حقبة 1958 - 1963 شاهدة)، بل وكانت إسرائيل «مضبوبةً» إلى حد كبير، ولقرابة عقد. وحتى حين تنمّرت وألحقت بالمشروع ضربة مروعة في حزيران/يونيو 1967، لحسابها وسيّدها الاستعمار الجديد، وقف أصحاب المشروع على أرجلهم من جديد وأحاطوها بزنّار نار: 1967 - 1970، ثم قاتلوها في أيام أربعة فائزة خلال حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973. نفذ مفعول هذا المشروع خلال عقد امتدّ من أواخر السبعينيات إلى أوائل التسعينيات... فلِت بعدها «الملقّ» ودقّ نفير الحرب والاحتراب، حتى صار أمر اليوم منذ عام 2011. والحاصل أن كُثُراً، بحسن نيةٍ أو بغيره، صاحوا، منذ أن نفذ المفعول، بأعلى صوت: يا قوم، سارعوا لنجدة الدولة القُطرية وترميمها وإلا تشظّت إلى جزيئات. غاب عنهم أن ما احترق كان بفعل انعدام الجدوى أياً كانت شرارة الحريق، وأن انتفاء شرطي الهيمنة: التجزئة والنهب، شرط لازبٌ لا لكبح الروابط الأدنى فحسب، هذه المرة، بل وتحنيطها إلى الأبد. ما معنى هذا الكلام، بالمباشر؟ معناه أن حياةً عفيّةً لقُطر لا تتوافّر إلا بانتمائه العضوي إلى "كومنولث" عربي (وهو بالتعريف: كونفدراليةٌ تعاهدية، وليس بالضرورة اتحاداً تعاقدياً... هو يتجاوز «الجامعة» بالمليان، وإنْ لا يَشترط أن يُدستَر بوحدة) على خلفية هوية عربية جامعة، وبهديِ استراتيجية أمنٍ قوميٍ عربيٍ واحدة، وبسعي التحلل من إسار منظومة النهب الدولية عبر إقامة سوق عربية كبيرة، وانتزاع اقتصادات المنطقة من فكّ نواظمها. بهذا يعود المجتمع العربي الكبير، ومكوناته القُطرية، إلى استئناف تطوره الطبيعي بما يعلي مشتركات "الكومنولث" فوق أي اعتبار، كونه الملاذ والرافعة. والثابت أن استئناف المشروع العربي، في شكل "كومنولث" يضمّ أقطار العرب، ما عاد "خرطفة" حالم، بل حاجة بقاء يؤسس لنماء... وذلك لكلٍ منها من جهة، ولها جمعاً من جهة أخرى. يثور السؤال هنا: هل الشرط الموضوعي متوافر للاستئناف، وهل من حَوامل أو نواقل له؟ أقول: لا يحتاج المرء مصباح "ديوجين" حتى يلحظ انحسار الغرب المهيمن وصعود الأوراسيات. ليست هذه تعاويذ أمل، إذ ينطق بذلك رموز الغرب أنفسهم (طالما أن الحديث عن انحسار، لا سقوط). إعراب هذا الحال يجيب بـ"نعم" عن شطر السؤال الأول. أما في محاولة الإجابة عن الثاني، فكلّ ما يمكن الجزم به أن منطقتنا العربية تميد، وما المَيد إلا باكورة انسلاخ درَن، وانبعاث تعاف. أين وكيف؟ ليس في الوسع تحديدهما. إن حياة وتطور قُطرٍ، وبقاء ونماء أمة، وانعتاقها من رسن الهيمنة، وتكسيرها منظومة النهب، وحصارها المشروع الإسرائيلي وإبطالها وظيفيته، وتحريرها أرضها وسماءها ومياهها، كلّها مشروطة بقيام ودوام "كومنولث"... عربي. *تنشر بالتزامن مع مجلة "المستقبل العربي" الصادرة عن "مركز دراسات الوحدة العربية"