طقوس العنف في أميركا

لا يحضر تاريخ العنف العنصري هذا وطقوسه الوحشية إلا نادراً في سرديّات التاريخ الأميركية السائدة، ويغيب عن كتب التاريخ المدرسيّة لأنه سيشوّش الأسطورة القومية عن أمّة، صحّحت مسارها، وتسير قدماً إلى مستقبل أفضل.

استخدم الكثيرون مفردة «lynching» لوصف قيام الشرطي الأبيض بقتل جورج فلويد في الخامس والعشرين من الشهر الماضي في مدينة مينيابولس، ومنهم شقيق فلويد. معنى الفعل «to lynch»  القاموسي هو: «الإعدام على الملأ، بدون محاكمة، يقوم به جمع من الغوغاء».  يستحضر استخدام المفردة تاريخاً طويلاً ومعقّداً (ومستمرّاً) من طقوس العنف الوحشي الذي مورس ويُمارس ضد جسد الإنسان الأسود، خارج إطار القانون، وباسمه أيضاً. يُجابهُ هذا الطقس هذه الأيام بتظاهرات احتجاجيّة وغضب شعبي عارم، غير مسبوق لأن حدوده تعدّت المجموعة المضطهدة ومن يناصرها لأسباب أخلاقية وسياسيّة هذه المرّة لتشمل الطيف بأكمله ولتتضامن معها جماهير خارج البلاد. لكن هذا الطقس كان، ولزمن طويل، طقساً احتفالياً تشترك فيه الجماعة. طقسٌ يرسّخ فيه العرق المتفوّق سيطرته على جسد الآخر، ويحرس حدود الفصل العنصري، وتراتبيته، ويعاقب كل من يحاول عبورها، أو يتجرأ على خلخلتها أوالتشكيك بها.

كان الإعدام شنقاً وحرقاً على الملأ عقوبة لكل من يحاول الهرب من العبودية أو التمرّد عليها. وتسبق الممارسة تأسيس الولايات المتحدة رسمياً. فمثلاً، في عام 1712، عاقبت السلطات البريطانية المُستعمِرة في نيويورك مستعبدين متمردين، بتصفيدهم وتكسير عظامهم ثم حرقهم ليكونوا عبرة للآخرين. رسّخ الدستور الأمريكي (الذي يعتبره الكثيرون وثيقة مثالية في عدالتها) ضمنياً، تراتبية التفوّق العرقي حين أقرّ في احتساب الناخبين أن المستعبد يعادل ثلاثة أخماس الحر. ولم تكن الحريّة التي وعد بها إعلان الاستقلال في جملة يحفظها الملايين وهي «الحياة والحريّة والبحث عن السعادة» تشمل غير الرجال البيض أصلاً. استمرّت مقاومة العبودية كمؤسسة وممارسة وحركات التمرد ضدها (والأمثلة كثيرة، منها تمّرد غابرييل بروسر في 1800، ودينمارك ڤيسي في 1822، ونات ترنر في 1831). وكان كل تمرد يُخْمَد ويُعاقب بوحشية. بعدما تمرّد المستعبَدون السود في لويزيانا  في عام 1811، زيّن المزارعون البيض الطريق إلى المزرعة برؤوس المستعبدين المقطوعة، وأقروا لاحقاً أن الذين قطعوا رؤوسهم لم يكونوا من المتمرّدين أصلاً.

نمت حركة تحرير العبيد بين عامي 1830 و 1860. وبحلول عام 1860 كان هناك أربعة ملايين مستعبد، نصفهم في ولايات الجنوب الأميركي. لم يكن الهدف الرئيسي للحرب الأهلية الأمريكية (1861-1865) إنهاء العبودية، التي تمسّكت بها ولايات الجنوب التي انفصلت عن الولايات المتحدة، بل كان الحفاظ على وحدة البلاد. لكنه تحول إلى هدف لاحقاً. وإذا كانت ولايات الشمال آنذاك تخلو من العبودية كمؤسسة، إلا أن ذلك لم يكن يعني البتة خلوها من قيم وممارسات العنصرية والتفرقة المتجذرّة.

تأسّست منظمة "الكلو كلكس كلان" (الكي كي كي) الإرهابية عام 1865، وتم سن قوانين «جم كرو» للفصل العنصري التي كانت تشمل كل نواحي الحياة وتمنع الاختلاط وتقيد حركة السود

كتب آليكسس دي توكويڤيل في كتابه الشهير عن أميركا أنه وجد البغض العرقي أقوى في الولايات التي كانت قد أنهت العبودية رسمياً من تلك التي كانت ما تزال تمارسها. وإذا كانت السرديّة القوميّة الرسمية قد طوّبت آبراهام لنكون (1809-1865) وأسبغت عليه لقب «محرر العبيد»، فإن مواقفه وآراءه كانت متناقضة، والكثير منها صريحة في عنصريّتها. فمن أقواله «لا أهدف إلى إحلال المساواة السياسية والاجتماعية بين السود وبين البيض» و«هناك اختلاف جسدي بين العرقين سيمنعهما إلى الأبد من العيش سوية أو وفق مساواة اجتماعية وسياسية.» وكان لنكولن قد صرّح بأنّه يفضل ترحيل السود إلى أفريقيا بعد تحريرهم من العبودية. كما كان قد هدد الولايات التي أعلنت انفصالها عن الاتحاد بأن المستعبدين فيها سيصبحون أحراراً إن لم تعد إلى الاتحاد، ووعدها بتعويضات. ولمّا لم تستجب أصدر في 1863 «إعلان التحرير» الذي لم «يحرّر» المستعبدين في كل الولايات الأميركية، بل اقتصر على أولئك الذين كانوا يعيشون في الولايات المتمردة في الجنوب. حتى أن وزير الخارجية في حكومته آنذاك علّق ساخراً «ها نحن نُظْهر تعاطفنا مع العبودية بتحرير العبيد الذين ليسوا تحت سيطرتنا، بينما نبقيهم مصفّدين في أماكن نستطيع أن نحررهم فيها.” وكان بذلك يشير إلى تلك الولايات التي تمارس العبودية لكنها ظلّت مع الاتحاد ولم تعلن انفصالها، والتي لم يشأ لنكولن أن يثير غضبها. شجّع الإعلان السود الهاربين من نير العبودية على المحاربة في صفوف جيش الاتحاد الذي كان بحاجة ماسّة للجنود. بعد نهاية الحرب الأهلية عام 1865، أنهى التعديل الثالث عشر على الدستور العبودية رسمياً وقانونياً. وشرّع التعديلان الرابع عشر والخامس عشر حقوق المواطنة والتصويت للسود. لكن حصولهم على هذه الحقوق، نظرياً، لم يعقبه تحقيقها ممارسة فعلية على أرض الواقع.

بُعيْد الحرب الأهلية أصدر الجنرال شيرمان، بعد اجتماع بقادة ودعاة إنهاء العبودية، الأمر الميداني رقم 15 الذي وجّه بإعطاء كل أسود أربعين فدّاناً وبغل، كتعويض عن سنين العبودية ولإعطائهم فرصة للوقوف على أقدامهم اقتصادياً. لكن الرئيس السابع عشر، آندرو جاكسون (1808-1875) الذي تسلم الرئاسة بعد اغتيال لنكون، ألغى الأمر. ما اضطر السود للعمل في أراض يستأجرونها من البيض وضمن إبقاءهم مهمّشين اقتصادياً. كما أن فوز مرشحين سود بمناصب تمثيلية في الانتخابات في الجنوب في الحقبة المسمّاة «إعادة البناء» (1865-1877) أدى إلى تأجيج غضب العنصريين. فتأسّست منظمة "الكلو كلكس كلان" (الكي كي كي) الإرهابية عام 1865. وتم سن قوانين «جم كرو» للفصل العنصري التي كانت تشمل كل نواحي الحياة وتمنع الاختلاط وتقيد حركة السود وتبقي السيطرة والتفوق الاقتصادي والقانوني للبيض.

ازدادات عمليات الإعدام على الملأ التي كانت أداة لتطبيق هذه القوانين وإرهاب من يفكّر بمخالفتها أو مقاومتها. بلغ مجموع جرائم الإعدام بدون محاكمة وعلى الملأ (الموثقة) 4048 في 12 ولاية بين 1877 و1950. ومع أنها كانت معروفة قبل ذلك في الغرب الأميركي كعقوبة رادعة ضد البيض وغيرهم من المكسيكيين والسكان الأصليين، وأنها مورست ضد عدد من البيض في ولايات أخرى، إلا أنها استهدفت السود بالذات في الجنوب الأميركي بعد الحرب الأهلية. إن مراجعة لتاريخ هذه الإعدامات وتفاصيلها تبيّن أن الهدف منها كان إرهاب السود ومنعهم من محاولة تحقيق أي مساواة، حتى لو كانت رمزيّة، في أي مجال. علي سبيل المثال، في عام 1882 أُعدم جاك ترتر لأنه قام بتنظيم السود ليصوتوا في الانتخابات.  في عام 1919، أُعدم وليام لتل، جنديٌ عائد من الحرب العالمية الأولى، لأنه رفض أن ينزع بدلته العسكرية. وهناك حالات أُعدم فيها رجل أسود لأنه لم يخاطب الأبيض باحترام. وفي أحيان كثيرة كانت محض شبهة أو إشاعة كافية لعقوبة الإعدام. في حالات كثيرة كان جمع الغوغاء يتجه إلى السجن الذي يُحتجز فيه المتهم والذي يتواطأ حراسه من أفراد الشرطة المحلية بترك الأبواب مفتوحة لكي يقتاد الجمع فريسته إلى موضع الإعدام تحت شجرة أو جسر. في كثير من الحالات التي هرب فيها المتهم أو أخفق الجمع في العثور عليه، كان يقتاد زوجته أو أمه لإعدامها بدلاً منه. ربع الإعدامات تقريباً كانت عقاباً على اختلاط (فعليّ، أومشكوك به) بين رجل أسود وامرأة بيضاء. في 1904 أُعدم رجل في ريڤسڤل، ولاية جيورجيا، لأنه طرق الباب على امرأة بيضاء. في 1916، أعدم رجال بيض جيف براون في كادربلف، ولاية ميسيسيبي، لأنه اصطدم بامرأة بيضاء وهو يركض محاولاً اللحاق بقطار ليستقله. وكانت هذه الإعدامات تنفّذ بأساليب وحشيّة فتُعذب الضحيّة وتُحرق ويُمثّل بالجثة وتؤخذ قطع منها وتوزّع كتذكارات. وكل هذا يجري في جو كرنڤالي بحضور جموع غفيرة تصل إلى المئات وحتى الآلاف أحياناً، وتصطحب العوائل أطفالها للفرجة. وأحياناً يتم الإعلان عن الإعدام المُخطط له مسبقاً في الجرائد المحليّة. ويلتقط مصور محترف صورة للجثة المعلّقة وتباع نسخ مطبوعة منها فيما بعد كبطاقات بريديّة.

اختفت الإعدامات على الملأ أثناء الحرب العالمية الثانية، لكنها العنف ضد السود بدأ يأخذ أشكالاً أخرى مثل إلقاء القنابل على الكنائس والبيوت وإطلاق الرصاص أثناء المرور بسيارة

في 1893 حضر 10 آلاف شخص للتفرّج على تعذيب وحرق مراهق (هنري سمث، 17 سنة) على مسرح بارتفاع عشر أقدام في باريس، تكساس. في 1919، حضر عشرون ألفاً حرق ويلي براون في ولاية نبراسكا. ودفع هذا العنف الممنهج وقوانين جم كرو العنصرية ستة ملايين مواطن أسود للهجرة من ولايات الجنوب في النصف الأول من القرن العشرين. أثارت أخبار وصور هذه الإعدامات الحنق خارج الجنوب. فنظمت الجمعية القومية لتقدّم الملونين، التي تحارب العنصرية عام 1935، معرضاً في نيويورك تحت عنوان «تعليق فنّي على الإعدام» ومن الأعمال التي تضمنّها لوحات لجوليوس بلوخ (1888-1966). في عام 1939 سجّلت بيلي هوليداي (1915-1959) أغنية «ثمر غريب» التي كتب كلماتها ولحّنها الشيوعي آبل ميروبول عام 1937:

أشجار الجنوب تحمل ثمراً غريباً

دمٌ على الأوراق ودمٌ على الجذور

أجساد سوداء تتأرجح في نسيم الجنوب

ثمرٌ غريبٌ يتدلى من أشجار الحور

مشهد ريفيّ للجنوب الشهم

العيون بارزة والفم المعوج

عطر الماغنوليا العذب والمنعش

تعقبه، فجأة، رائحة الجلد المحترق

هنا ثمر لتقطفه الغربان

ليتجمع عليه المطر وتمتصّه الريح

لتفسده الشمس وتسقطه الأشجار

إنّه ثمر غريب ومرّ.»

اختفت الإعدامات على الملأ أثناء الحرب العالمية الثانية، لكنها عادت للظهور من جديد، وتزايدت بالذات بعد قرار المحكمة العليا الحاسم «براون ضد مجلس التعليم» عام 1954 الذي قضى بأن سياسات الولايات التي تصرّ على تطبيق الفصل العنصري في مدارسها غير دستورية. وبدأ العنف الغوغائي ضد السود يأخذ أشكالاً أخرى مثل إلقاء القنابل على الكنائس والبيوت وإطلاق الرصاص أثناء المرور بسيارة (هكذا تم اغتيال العديد من نشطاء وقادة حركة الحقوق المدنية من السود). وإذا كانت الإعدامات الغوغائية قد تولّت تجريم ومعاقبة السود بقسوة خارج الأطر القانونية لمدة طويلة، فإن العنصرية البنيويّة والمؤسساتية في القانون والقضاء والشرطة، وفي الممارسات والأعراف المجتمعيّة، أمعنت في تجريم السود بنسب أعلى بكثير. وسمحت عنصريّة القانون بانتقال طقوس العنف الذي كان ينفذّه الغوغاء بتعليق الضحية من شجرة وإعدامها أمام جمع يتفرّج في الهواء الطلق، إلى داخل السجون، حيث ينفّذ ممثلو الولاية أحكام الإعدام الجائرة ضد رجل مقيّد إلى كرسي، أمام جمع يجلس ويتفرّج ولكن في قاعة.

لا يحضر تاريخ العنف العنصري هذا وطقوسه الوحشية إلا نادراً في سرديّات التاريخ السائدة، ويغيب عن كتب التاريخ المدرسيّة لأنه سيشوّش الأسطورة القومية عن أمّة، صحّحت مسارها، وتسير قدماً إلى مستقبل أفضل. وتغيب بذلك رواية الضحايا في الذاكرة الجمعية السائدة وتنقطع فيها الصلة التي تربط ضحايا الماضي بضحايا الحاضر. لا يجد المرء قطعاً أو إشارات ولو بسيطة في الغالبية العظمى من الأمكنة التي شهدت طقوس العنف الجمعي. بينما تنتشر تماثيل قادة الجيش الكونفيدرالي الذين حاربوا من أجل إبقاء العبوديّة. وتحمل عشرات الشوارع والبنايات والقواعد العسكرية أسماءهم بخفة. وما زال الكثير من البيض يرفعون علم الكونفدرالية اعتزازاً بما يرمز إليه من تفوّق عرقيّ وحنين إلى حقبة كان السيّد (الأبيض) سيّداً فيها.  ليست مفاجأة أن يطالب المتظاهرون بإسقاط هذه التماثيل والرموز وشطب هذه الأسماء لأنها جزء من ترسانة العنصرية الرمزيّة التي تخنق الحاضر وتمعن في إهانة الضحايا.

يقال إن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، لكن السود في معظم الأحيان مدانون... حتى إشعار آخر. وأنا أكتب هذه السطور نفذ اثنان من رجال الشرطة في أتلانتا في ولاية جورجيا حكم الإعدام بريشارد بروكس بطلقتين في ظهره لأنه حاول الهرب بعد أن ألقي القبض عليه لأنهم وجدوه نائماً في سيارته وقد تجاوزت نسبة الكحول في جسده الحد القانوني. بدون محاكمة وعلى الملأ.

تنشر بالاتفاق مع «جدلية»