دولة الفساد في العراق... باقية وتتمدد

بعد كل كارثة، وما أكثرها، للأسف، في العراق «الجديد»، تحاول الطبقة السياسية المُطْبِقَة على رقبة البلاد، امتصاص الغضب الشعبي العارم، وتشتيته، أو تخديره، بسلسلة تصريحات وإقالات وتشكيل «خلايا» أو لجان، وبوعود بمحاسبة المسؤولين عن الكارثة ومعاقبة المقصّرين ومتابعة «الملف». ثم تتم التضحية بمسؤول، أو أكثر، من هذه الطبقة نفسها، لا لوعي متأخر أو حقيقي، أو نقد ذاتي، أو إدراك لفداحة الوضع، ولا لسواد عيون الضحايا وأهاليهم. بل هي أصلاً ذريعة وفرصة تُنتهز لتسجيل نقطة، أو ربح جولة، وإزاحة خصم أو عائق، في الصراع المحموم على الأرباح السياسية. هذه الأرباح التي تترجم دائماً إلى أرباح ماديّة طائلة في نظام سياسي-اقتصادي يتنفّس الفساد ويلتهم البلاد ومستقبلها، ويمزّق حياة البشر وأجسادهم أيضاً في حاضر يزداد قتامة. وكارثة العبّارة في الموصل، التي غرقت وأغرقت أكثر من مئة عراقي وعراقية في نهر دجلة ليست إلا آخر مثال مؤلم لما تقدم. سواء كان الأمر يتعلّق بالفساد والإهمال والاستهتار الذي يسمح بـ، بل يؤدي إلى، وقوع حادث كهذا، وانعدام الحد الأدنى والضروري من حيث توفّر وسائل الإغاثة، أو في تسلسل الأحداث وردود الفعل التي أعقبت الكارثة. فقد تمت إقالة محافظ نينوى نوفل العاكوب بعدما وجه رئيس الوزراء، عادل عبد المهدي، رسالة إلى البرلمان العراقي يطالب فيه بإقالته هو ونائبيه. واللافت أن العاكوب هذا شوهد وهو يبتسم ابتسامة عريضة أثناء المؤتمر الصحفي الذي عقده عبد المهدي في الموصل بعد الكارثة. إنها ابتسامة الاستهتار والاحتقار الكامل لحياة المواطنين التي لا قيمة لها في قاموس وحسابات الطبقة السياسيّة. وبما حياة المواطن بلا قيمة، فموته، هو الآخر بلا قيمة.
إذا كانت حركات الاحتجاج تقف بشجاعة ضد هذا النظام الفاسد لإيقاف تمدده وخرابه، فإن عدم ترجمة زخمها إلى عمل سياسي منظّم يطالب بتغيير جذري، يؤدي إلى تشتيتها في نهاية المطاف
كان الفساد المستشري والفشل الذريع في إدارة الدولة ومؤسساتها لسنين طويلة أحد العوامل الرئيسية التي أدت إلى سقوط الموصل وغيرها من المدن بيد "داعش". وقبل أشهر من بدء عمليات التحرير كتبنا أن الخطوة الأهم، بعد تحرير الموصل وغيرها من المدن العراقية، هي تنفيذ حملة إعمار شامل، والعمل على إعادة تأهيل المناطق المحررة، لكي لا تسقط من جديد في براثن الفساد والخراب. لكن المسؤولين عن إسقاط الموصل واحتلالها ما زالوا يحتلّون مواقعهم المتقدّمة في منظومة الفساد والإفساد الكبرى. وبعد مرور عشرين شهراً على تحرير الموصل ليس هناك أي إعمار. بل إن المناطق المحرّرة أصبحت ساحة مفتوحة للفساد ولعقد الصفقات المشبوهة واختلاس الأموال المخصّصة للإعمار وللاستحواذ على أراضي وأملاك النازحين والمهجّرين بطرق ملتوية. إقالة مسؤول أو أكثر وتشكيل لجنة تحقيق أو خلية لا يغير شيئاً في منظومة الفساد الكبرى التي تشترك فيها الميليشيات مع السياسيين. وإذا كانت ابتسامة العاكوب التي أشرت إليها والتي تم التقاطها بالصدفة قد أثارت وتثير كمّاً هائلاً من الغضب، فهناك ابتسامات أخرى لا نراها ولا يتم تصويرها دائماً. تلك الابتسامات بل الضحكات الدائميّة المرسومة على وجوه المستفيدين من منظومة الفساد الهائلة والقائمين عليها. وهم يضحكون لأنهم يعلمون أن «العملية السياسية» والتي تحيل إلى مرادفها الواضح وهو «العمليّة الفسادية» مستمرّة وأن دولة الفساد العراقية باقية وتتمدد. وإذا كانت حركات الاحتجاج والتظاهرات الغاضبة تخرج وتقف بشجاعة ضد هذا النظام الفاسد لإيقاف تمدده وخرابه، فإن عدم ترجمة زخمها وغضبها إلى عمل سياسي منظّم، في إطار حركة سياسية أو حزب يطالب بتغيير جذري يؤدي إلى تشتيتها في نهاية المطاف.
التسامح القاتل

التسامح القمعي يضمن للدولة سيطرتها وسلطتها في ضبط الحدود الداخلية بين الجماعات، وإبقاء المهمّش على..

سنان أنطون

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة