الصين والشرق الأوسط والعالم الجديد

تمتلك الصين الكثير من المصالح الاقتصادية في العالم العربي، خصوصاً مع سياسة التسلل التجاري التي مارستها على مدى ربع قرن، استطاعت من خلالها رفع قيمة تبادلاتها من عشرة مليارات دولار أميركي عام 1990 إلى 220 ملياراً عام 2016.

ترجمة: بيسان طي   لا بدّ لأي قراءة للصين والشرق الأوسط أن تبدأ بالعودة إلى الصين نفسها لفهم تاريخها وسياساتها. علينا دوماً أن نتذكر أن الصين قبل 70 عام كانت بلداً فقيراً جداً. يومها كان 9 صينيين من أصل 10 يعيشون في الأرياف، حيث الحصول على الطعام أسهل مما هو عليه في المدن، وكان الناتج المحلي الإجمالي للفرد يساوي ما كان عليه خلال عهد سلالة "هان" المُعاصرة لعهد المسيح. في هذا السياق، تسلم ماو تسي تونغ الحكم. وفي جهد لمعالجة أوضاع بلاده، أطلق سياسة ما سُمي بـ"القفزة الكبيرة إلى الأمام". لكن هذه السياسة تسببت بالمجاعة لعددٍ مهولٍ من السكان، وأدت إلى وفاة ما بين 40 و50 مليون نسمة. في العام 1978، تسلّم السكرتير العام الجديد للحزب الشيوعي الصيني هوا جيو فينج مقاليد الحكم وأطلق برنامجاً اقتصادياً جديداً تحت عنوان "الإصلاح والانفتاح". فتح هذا البرنامج المجال أمام التصنيع وعملية تنمية متسارعة. بعد نحو 32 عاماً (عامي 2012-2013)، صارت الصين مصنع العالم، وتقدمت في التصنيف العالمي لتحتل المركز الثاني في الاقتصاديات العالمية بنسبة نمو بلغت 7.7 في المئة. ساهمت هذه السياسات في ترسيخ قوة الصين الاقتصادية وقدرتها على التوسع والتدخل خارج حدودها.

مصالح الصين مع العالم العربي

تمتلك الصين الكثير من المصالح الاقتصادية في العالم العربي، خصوصاً مع سياسة التسلل التجاري التي مارستها على مدى ربع قرن، استطاعت من خلالها رفع قيمة تبادلاتها من عشرة مليارات دولار أميركي عام 1990 إلى 220 ملياراً عام 2016. وللصين مصالح على مستوى العالم العربي يمكن تقسيمها تبعاً لمحاور عدة. ففي المحور الجيوسياسي، يُعد أمن الملاحة قضية مركزية للصين التي تعتمد على النقل البحري بغرض نقل معظم صادراتها ووارداتها، خصوصاً مع وقوع مضيقي هرمز وباب المندب، وهما اثنان من المضائق العالمية الأربعة، في دول عربية. وفي قطاع الطاقة، يُعد النفط العامل الاقتصادي الآخر الذي تعتمد فيه الصين على العالم العربي، حيث تأتي 46 بالمئة من واردات النفط من سبع دول عربية هي المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين والكويت وقطر وسلطنة عُمان، مع نسبة استهلاك تبلغ نحو أربعة ملايين برميل نفط يومياً. أما محور المصالح الأخير فيرتبط بعنوان قد يبدو مفاجئاً، ألا وهو البعد الديني. إذ تعتبر العلاقات الهادئة مع الدول المسلمة من أولويات السياسة الصينية لأسباب عدة. فثمة أعداد متزايدة من الصينيين الذين يزورون مكة المكرمة لأداء فريضة الحج، حيث ارتفع العدد من 20 ألف صيني عام 2017 إلى 42 ألفاً عام 2019، كما تعبر طريق الحرير الجديدة بلداناً يشكل المسلمون فيها نسبة 80 في المئة من السكان. أخيراً، تحتضن الصين بين سكانها، تحديداً في المنطقة الحدودية المحاذية لمنغوليا، أقلية الأويغور المسلمة التي يتراوح عدد أفرادها بين 20 مليون و25 مليون نسمة. ويعتبر أبناء هذه الأقلية أنفسهم مهمشين، وتخشى بيجينغ من مطالبهم الانفصالية أو إمكانية جرهم نحو التطرف.

مصالح العالم العربي مع الصين

 بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، تنبهت الدول العربية إلى المصلحة الكبيرة والأهمية البالغة التي تمثلها الصين. شكل الإفلات من قبضة الولايات المتحدة أول هذه المصالح بالنسبة للبعض، خصوصاً في ظل التدخلات الأميركية التي غالباً ما تقود إلى نتائج تصب في مصلحة السياسة الإسرائيلية. وفي الواقع، تبدو الصين بالنسبة إلى بعض الدول العربية نموذجاً مضاداً، فسياستها الخارجية تقوم على احترام السيادة الوطنية للدول ووحدة أراضيها، فضلاً عن الاعتراف بأنظمتها الحاكمة. تريح سياسات "العولمة المتناسقة" هذه التي تقوم على احترام "خصوصيات" الجميع الحكام العرب الذين لا يمكن اعتبارهم حماةً للديموقراطية. وفي ميلها للحوار والمفاوضات، وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى، واحترام القواعد الدولية، ورفض العقوبات أو الاشتراطات التي تُفرض دولياً على أي بلد، تبرز بيجينغ كلاعب مختلف عن القوى الغربية على الساحة الدولية. كما أنها تشكل بالنسبة للبعض فرصةً لتنويع أسواق الاستيراد ولجذب الاستثمارات الآسيوية. تفضل الصين الشراكات التجارية التي تعقد بين رابحين. وفي مجال العلاقات الثنائية، أسست ثلاثة أشكال من اتفاقيات التعاون. أولها وأقلها تعقيداً هي الشراكة التجارية الخاصة بين شركات صينية وأخرى أجنبية. ومن ثم هناك "شراكة التعاون والصداقة" التي تعقد من خلال الدولة الصينية أو بكفالتها. وأخيراً ثمة الشراكة الاستراتيجية الشاملة التي تؤسس لتعاون شامل يمس القضايا الإقليمية والدولية، وبالتالي فإن هذا النوع محصور بالدول الأهم بحسب الأهداف الصينية. رسمت بيجينغ عبر هذه الأدوات خطوات تواصلها مع الشرق الأوسط، ويمكننا تفصيل خريطة شراكاتها وفق كل دولة على حدة كما يلي.

الصين وإيران

وقع في أيلول/سبتمبر 2020 حدثان مهمان مستقلان عن بعضهما البعض. الأول كان تقيع اتفاق السلام المفاجئ بين الإمارات العربية المتحدة والبحرين من جهة وإسرائيل من جهة أخرى، فيما الثاني تمثل بإطلاق بيجينغ "شراكة استراتيجية شاملة" مع إيران. لم تكن تلك الشراكة مع إيران متوقعة بسبب حالة الضعف الشديد التي تسود إيران ومواجهة النظام هناك صعوبات في عملية إخماد التظاهرات الشعبية. كما أن العقوبات الأميركية أدت إلى إفراغ خزائن الدولة الإيرانية المالية، فيما طهران متورطة في الصراعات القائمة في الشرق الأوسط من اليمن إلى سوريا. وقد بلغت تكلفة الوجود العسكري في سوريا مثلاً نحو 16 مليار دولار أميركي. تبلغ قيمة اتفاق الشراكة بين الصين وإيران نحو 400 مليار دولار أميركي على فترة تمتد نحو 25 عاماً. ستُخصص نحو 200 مليار دولار لإفادة الصين من النفط والغاز التي ستقدمه طهران لها بسعر يقلّ عن الأسعار الحالية بنحو 32 في المئة. فيما ستُخصص 200 مليار دولار لإفادة إيران من استثمارات مباشرة تشمل مشاريع إنشاء مصانع صينية ومد سكك قطارات كهربائية بطول 900 كلم تربط بين طهران ومشهد، وسكك للقطارات السريعة تربط بين طهران وقم وأصفهان.    يفتح هذا الاتفاق المجال واسعاً للتحليل والنقاش، إذ قد يؤثر على كثير من التوازنات السياسية في المنطقة، خصوصاً في حال رفع العقوبات عن إيران. على الصعيد الاستراتيجي، ستتحول إيران إلى نقطة مركزية واستراتيجية ما بين تركيا وأوروبا، وستعبرها المنتجات الصينية على نحو أسهل باتجاه السوق الأوروبية. وعلى الصعيد الجيوسياسي، يضع هذا الاتفاق قواعد تعاون ثلاثي عسكري، خصوصاً في الجو والبحر، ما بين إيران والصين وروسيا. وقد عبّرت موسكو عن رغبتها بإطلاق تعاون عسكري مع طهران، ولم تخف الصين في المقابل رغبتها ببيع الأسلحة لطهران أيضاً. وفي النتيجة، سيكون لسلاحَي الطيران الصيني والروسي الحق باستخدام القواعد الجوية الإيرانية، بينما ستتمتع السفن الصينية والروسية بحق استخدام مرفأ شهبار ومرفأ بندر عباس الإيرانيين، اللذين قامت شركات صينية بتطويرهما. يعزز كل هذا من قدرة إيران التكتيكية للرد في حال تعرضها لضربات إسرائيلية أو أميركية. ومن المتوقع تجري في الفترة المقبلة مناورات عسكرية ثلاثية واسعة تشترك بها الصين وروسيا وإيران. ستخضع لا شك هذه المناورات لفحص دقيق من قبل الخبراء الدوليين، فهي ستشكل فرصة لتحديد شكل التعاون العسكري بين هذه الدول ومداه، خصوصاً أن هناك شك لدى بعض الخبراء بأن هذا التعاون قد يخفي غطاء نووياً صينياً تقوم طهران من خلاله بتعويض ما تُمنع من إنتاجه في هذا المجال.

الصين والمملكة العربية السعودية

إضافة إلى النفط والغاز، تمتلك المملكة العربية السعودية احتياطات مهمة من اليورانيوم في ثلاثة حقول في وسط البلاد وشمالها وغربها، وتقدّر بما يزيد عن 90 ألف طن من اليورانيوم الخام بحسب تقرير أعدّه "معهد بيجينغ لبحوث جيولوجيا اليورانيوم" بالتعاون مع "المؤسسة الصينية الوطنية النووية" و"هيئة المساحة الجيولوجية السعودية". تمكّن هذه الحقول التي استكشفها باحثون جيولوجيون صينيون السعودية من إنتاج وقود نووي يؤمن لها اكتفاءً ذاتياً ويفتح لها باب تصدير بعض الكميات منه أيضاً. يكتسب التعاون في ملف اليورانيوم ثلاثة جوانب. أولها الجانب الدبلوماسي، حيث سيعمق هذا التعاون من علاقات الصين مع أحد أبرز حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة. وثانيها الجانب التكنولوجي الذي سيساهم في تطوير الصين لعمليات تصنيع الوقود للمحركات وللأسلحة النووية، خصوصاً مع إعلان مسؤولين أميركيين أن الصينيين أطلقوا بالفعل ورشة بناء مصنع تحويل خام اليورانيوم إلى مادة "اليورانيا". آخر هذه الجوانب هو التجاري، حيث تبحث الصين عن تموين جديد من اليورانيوم الخام وعن مشترين جدد لمفاعلات نووية تقوم أيضاً هي بصيانتها، ما سيؤدي بطبيعة الحال إلى إطالة عمر العلاقات الصينية-السعودية وتمتينها.

الصين وسوريا

في نيسان/أبريل 2016، قامت الصين بإرسال فرقتين من قوات النخبة الخاصة إلى سوريا. كانت المهمة المعلنة رسمياً تدريب أفراد من الجيش العربي السوري في المجالات الطبية واللوجستية، لكن هاتين الوحدتين، "نمور سيبيريا" و"نمور الليل"، تشتملان على عديد 300 عنصر متخصصين في مهمات جمع المعلومات والتدخل ضد الإرهاب. ترتبط هاتان الوحدتان بشكل مباشر بالقيادة العليا في بيجينغ، ويرافقهما عملاء من "كينغباو"، أي دائرة الاستخبارات العسكرية الصينية. قد يعود السبب الرئيس لإرسال هذه المهمة إلى امتداد لهيب الحرب السورية ليلامس قبل حوالي شهر من ذلك التاريخ مجالات أمنية آسيوية، تحديداً إثر توقيف عدد من أعضاء "تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)" في ماليزيا وسنغافورة. علماً بأنه تبين أن أكثر من ستة آلاف مقاتل إسلامي انتقلوا من آسيا للمشاركة في الحرب السوريّة، بينهم بضعة آلاف من أبناء أقلية الأويغور المرتبطين بـ"داعش"، والذين تسللوا إلى سوريا عبر تركيا. يشكّل إرسال وحدات صينية للقتال في بلد أجنبي سابقة في التاريخ الصيني الحديث. ولكن علينا أن نتذكر أن انتقال هذه الوحدات جرى بعد تقديم بيجينغ دعماً دبلوماسياً لسوريا، عبر عمليات ضغط وتأثير (lobbying) في منتديات دولية عدة، ولكن أيضاً وبشكل خاص من خلال استخدام حق النقض (الفيتو) ثلاث مرات في مجلس الأمن الدولي ضد قرارات تهدف لإتاحة التدخل العسكري الدولي في سوريا. يترافق هذا التعاون الدبلوماسي والعسكري مع انطلاق استثمارات وعقود تعاون اقتصادي مهمة. وفيما يبدو أن الحرب في سوريا تشهد فصولها الأخيرة، فإن ملفات إعادة الإعمار صارت على الطاولة، حيث يبدو أن دمشق اختارت ثلاثة مرشحين لبعض المشاريع الكبرى: ستحظى روسيا بمشاريع استخراج النفط (off-shore)، فيما وقّع الصينيون عقود بناء مرفأ في المياه العميقة في منقطة تقع بين طرطوس واللاذقية، أما إيران فستقوم بمد خط مزدوج لسكة الحديد من شاطئ المتوسط عبر الأراضي السورية مروراً بالعراق حتى إيران.

الصين ولبنان

بدأت أولى التبادلات التجارية بين لبنان والصين في خمسينيات القرن المنصرم. وعلى الرغم من اعتراف لبنان بتايوان وافتتاح سفارة تايوانية في بيروت، إلا أن أول وفد صيني زار لبنان عام 1955 آتياً من سوريا، بعد المشاركة في معرض دمشق الدولي. منذ ذلك الحين، ثمة مشاريع ومساعدات وهبات صينية للبنان، لكن هذه المشاريع لم يجرِ تطويرها. على سبيل المثال، وهبت شركة "هواوي" الصينية معدات اتصالات الجيل الثالث لوزارة الاتصالات اللبنانية لإنشاء شبكة ثالثة للاتصالات، كما وهبت الصين آلات فحص (scanner) لمرفأ بيروت، وعقدت مؤسسة التلفزيون والراديو الحكومية الصينية اتفاقاً مع شركة تلفزيون لبنان. لكن لم تنتج هذه المشاريع أي شراكة حقيقية. من جهة ثانية، فإن أكثر من 10 آلاف لبناني يزورون الصين سنوياً من أجل القيام بأعمال تجارية، وذلك وفق إحصاءات السفارة الصينية، لكن لا نتائج كبيرة لهذا النشاط. إن المشروع الوحيد للتعاون الصيني-اللبناني الذي حقق بعض التقدم، هو مشروع بين شركاء لبنانيين وصينيين لتحويل طرابلس إلى مركز للعرض والترانزيت للبضائع الصينية المتجهة نحو دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وجنوب الصحراء الكبرى. تبنى فكرة المشروع تلك رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري عام 2002، وأنشأت الشركة عام 2005، لكن حرب إسرائيل على لبنان عام 2006 أوقفت المشروع. في المرحلة الحالية، ثمة حاجة في سوريا لإعادة إعمار المدن المدمرة، ويمثل موقع مدينة طرابلس الجغرافي نقطة مهمة يسمح للمدينة بالاستفادة من عملية إعادة إعمار سوريا التي تقدر تكلفتها بنحو 200 مليار دولار. يسمح المرفأ الذي يقع على بعد 35 كم من الحدود السورية للمدينة بالتحول إلى مركز لوجستي لإعادة الإعمار. وقد تقدمت الشركة الصينية Qingdao Haixi Heavy-duty Machinery Co. بعرض لتوسيع منشآت المرفأ، وما زال هذا العرض يخضع للدراسة في بيروت. أخيراً، أسرّ لي دبلوماسي صيني؛ "نحن للأسف نعرف الفساد، وثمة من يرتكبونه عندنا، لكن نسبة الـ20 في المئة التي يطلبها محاورونا اللبنانيون كعمولة، أمرٌ يشكل عائقاً كبيراً".

الصين والإمارات العربية المتحدة

أياً كانت الظروف الإقليمية، فإن دولة الإمارات تسعى إلى السيطرة على طرق التجارة في الخليج العربي، وهي لهذا تتجنب تصعيد التوتر مع طهران بشكل يهدد هذه الطرق. يدعم حكام الإمارات مشاريع "طريق الحرير الجديدة" أملاً بأن تنضم مرافئهم إلى النقاط التي تختارها الصين. لقد بات من الشائع مثلاً أن نسمع أن دبي تقدم نفسها على أنها هونغ كونغ جديدة. كما تُذكّر الإمارات على الدوام أنها من الدول المؤسسة لـ"بنك الاستثمارات الآسيوي" الذي أنشأ في بيجينغ عام 2013 بهدف منافسة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. اليوم يعيش حوالي 200 ألف مواطن صيني في الإمارات ويعمل فيها، وثمة نحو أربعة آلاف شركة صينية تنتشر في مختلف المدن الإماراتية.

الصين ومصر

تضاعفت التعاملات التجارية بين الصين ومصر خلال 15 سنة بشكل كبير لتنتقل من 610 مليون دولار عام 1999 إلى 6,24 مليار دولار عام 2014. وعبر مصر، وضعت الصين آليات دخولها إلى العالم العربي والإسلامي، فصارت تستخدم الهوية الإسلامية لدول آسيوية لتنفّذ عن طريقها تبادلاتها التجارية. لنأخذ ماليزيا كمثال، فقد وضعت السلطات الحاكمة الماليزية سياسة تجارية تهدف إلى تحويل البلاد إلى مركز دولي للمنتجات الحلال. وهكذا، في مقابل عمولة، ينقل رجال أعمال من الصين بضائعهم إلى ماليزيا حيث تخضع لتحول طفيف ويجري تصديرها بعدها إلى الشرق الأوسط موسومة بكلمة "حلال". من جهة ثانية، أكّد كل من الصين ومصر على دعم كل منهما لمصالح الآخر، فأعلن نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي دعمه للصين الموحدة، فيما دافعت بيجينغ عن "حق الشعب المصري باختيار حكامه" والسياسة التنموية التي يريدها، وهي في واقع الأمر أيضاً تدين مبدأ "مسؤولية الحماية"، أحد قواعد القانون الدولي العام الذي تبنته الجمعية العامة خلال قمة عُقدت عام 2005.

الصين وإسرائيل

منذ ما قبل منتصف القرن الماضي، كان ديفيد بن غوريون وموشيه ديان على قناعة بأن الصين ستنهض وبأن الغرب لن يكون سيد العالم إلى الأبد. ولهذا، قام بن غوريون الذي تسلم رئاسة الحكومة الإٍسرائيلية بالاعتراف بالجمهورية الشعبية الصينية في العام 1949. وكان المسؤولون الصينيون والإسرائيليون يرددون يومها أن حضارة كل منهما تعود لآلاف السنين. وعلى الرغم من ذلك، رفضت الجمهورية الشعبية الصينية لوقتٍ طويل أن تقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، وذلك في إطار دعمها للقضية الفلسطينية لغاية عام 1990، حيث انتهت تلك المقاطعة الدبلوماسية مع انطلاق عملية السلام. اليوم، يقدّر عدد الصينيين الذين استحصلوا على أذونات عمل في إسرائيل بنحو 10,600 صيني، معظمهم يعمل في قطاع الإنشاءات ويحلون محل اليد العاملة الفلسطينية. وفي مجالات أكثر أهمية، تمثّل إسرائيل المزود الأول للصين في مجال التكنولوجيات العسكرية المتطورة. كما تشكل الصين سوقاً مهماً للصناعات العسكرية والجوية الإسرائيلية. وقد ارتفعت التبادلات التجارية بين الدولتين من 52 مليون دولار في العام 1992 لتصل إلى ما قيمته 14 مليار دولار عام 2018. وترجع أسباب هذا النمو أساساً إلى الاستثمارات الصينية في الشركات الناشئة في إسرائيل، والمشاركة في تأسيس مراكز تنمية وتعاون علمي جامعي، وإقامة ورشات للبنى التحتية ولتطوير النقل والتجارة، خصوصاً عبر تشغيل محطة الحاويات في مرفأ حيفا وبناء مرفأ جديد في أشدود. الاتفاقيات المرفئية الجديدة بين "إسرائيل" والصين أدت إلى توتر العلاقات مع أميركا التي رأت في ذلك تهديداً لمجال أمنها، خصوصاً أن الأسطول السادس الأميركي له مرسى خاص في مرفأ حيفا. وعلى الرغم من محاولة ضغط شخصية قام بها الرئيس الأميركي دونالد ترمب على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في هذا الصدد، إلا أن العلاقة استمرت بالترسخ. لقد صارت الصين شريكاً أساسياً، بل استراتيجياً بالنسبة إلى إسرائيل، ولن تتمكن الولايات المتحدة من تغيير هذا المعطى. على أي حال، ثمة ظاهرة تتبلور بخفاء منذ شهور عدة، وتتمثل في انتقال مهندسين إسرائيليين من المؤسسات الأميركية للعمل في شركات صينية.

الصين تخلق عالماً جديداً

في 8 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، اعترضت 39 دولة تتقدمها ألمانيا في مقر الأمم المتحدة على انتهاكات حقوق الإنسان التي تُرتكب في مناطق شيانجيانغ حيث تعيش أقلية الأويغور المسلمة التي تعاني من سياسات الاعتقال والتلقين المكثفة. لكن مندوب الصين الدائم في الأمم المتحدة، متسلحاً بدعم 53 دولة تتقدمها دولتان ذات وزن خاص في العالم الإسلامي، هما المملكة العربية السعودية والإمارات المتحدة العربية، شجب كل تلك الانتقادات. فكيف وصلت الصين إلى هذه النقطة؟ منذ وصوله إلى رأس الحكم، أطلق الرئيس الصيني شين جي بينغ دبلوماسية المنتديات التي تهدف إلى إضعاف المؤسسات الدولية، ومنها بشكل خاص الأمم المتحدة. لهذا الهدف، فإن وسيلة العمل الصينية واحدة تقوم على تحديد حاجة صينية أولاً، ومن ثم تنظيم مؤتمر دولي حول موضوع هذه الحاجة، يُعقد دائماً في الصين، وتتم دعوة مشاركين من مختلف دول العالم إليه، وتتولى الصين تكاليف مشاركتهم وإقامتهم. ينتج عن هذا المؤتمر غالباً تنظيم مجموعات عمل أو تشكيل مؤسسة دولية جديدة تقدم معايير ومبادئ مغايرة لتلك التي تتبناها المؤسسات الدولية القائمة. هكذا ولدت مثلاً منظمة "بريتاكوم BRITACOM (The Belt and Road Initiative Tax Administration Cooperation Mechanism)" التي تعنى بآلية الإدارات المالية والقواعد الدولية لحل النزاعات عبر الحدود بين السلطات القضائية في الدول التي يعبرها طريق الحرير أو ما يعرف بمبادرة النطاق والطريق. انضمت 84 دولة و16 مؤسسة دولية إلى منظمة "بريتاكوم". وهناك أمثلة أخرى تشمل "المنظمة الدولية لتجارة الإنترنت عبر الحدود" و"المنتدى الدولي للتربية والتعاون في مجالات عمل الشرطة" و"منظمة مستقبل البريد" و"منظمة حرية وسائل الإعلام". ونلفت في هذا الصدد إلى منتديات التعاون حول حقوق الإنسان التي تشارك فيها 70 دولة، ويبدو أن هدفها إفراغ مضامين الإعلان الدولي لحقوق الإنسان وتبني مبادئ جديدة مكانه. يُذكر هنا أن الرئيس بينغ قال: "إن حقوق الإنسان يجب أن تُرفع بالنظر إلى الشروط الوطنية وحاجات الشعوب". بمعنى آخر، فلكل دولة، وفق هذا المنطق، أن تحدد "حقوق الإنسان الخاصة بها". يبقى القول إن هذا العالم "المصنوع في الصين"، يستأهل نقاشاً آخر.