العمالة الزراعية المُعوْلمة: الحصاد المُرّ

بحسب "منظمة العمل الدولية"، بلغ عدد العمال المهاجرين في العالم 164 مليون عام 2017، وتُشكّل الزراعة ركناً أساسياً في هذه العمالة، لكنها لا تنال حظها من التحليل الفكري والتضامن الطبقي.

"يقوم مزارعونا بجهد رائع في سبيل إطعام الأُمَّة في هذه الأوقات المليئة بالتحديات" وزير البيئة البريطاني جورج يوستيس.   في تصريح سابق لجريدة "ذي غارديان" البريطانية، حذِّر نِك مارستون، مدير جمعية الفواكه الصيفية البريطانية التي تُمثِّل مصالح الملاكين الزراعيين، من عدم قدوم العمال الزراعيين الى بريطانيا في ظل الحظر شبه الكامل للرحلات الجوية: "لن تتواجد الفواكه والخضار في المحال. حصاد الهليون والفاصوليا يبدأ خلال أسبوعين، الخِيار في أول نيسان/أبريل، البندورة على مدار السنة. وفي أيار/مايو، [سيأتي دور] الفواكه الطرية كالفراولة وتوت العليق. وما زال الخس في التربة منذ كانون الأول/ديسمبر." يعكس كلام مارستون عمق المأزق الذي يواجه القطاع الزراعي الموسمي للفواكه والخُضار. لم تبدأ هذه الأزمة مع تفشي جائحة فيروس "كورونا"، وإن كشفت الأخيرة هشاشة سوق العمل الزراعي المُعولم وفضحت مدى اعتماد الدول الثرية في غرب أوروبا وأميركا الشمالية على العمالة القادمة من الدول "غير النامية". ففي العام الماضي، شكل قاطفو الفواكه الآتون من خارج بريطانيا 98% من مجمل العاملين في القطاع. غالبية هؤلاء من بلغاريا ورومانيا. لكن الازدهار النسبي لاقتصاديات شرق أوروبا في السنوات الأخيرة ونيّة بريطانيا الخروج من الاتحاد الأوروبي (بريكزيت) أديا ببعضهم إلى البحث عن أسواق عمل أخرى. وقد دفع ذلك "حزب المحافظين" البريطاني، المؤيد لـ"بريكزيت"، في آذار/مارس من العام الماضي، الى إطلاق برنامج عمالة موسمية تجريبي. يسمح البرنامج للمزارعين البريطانيين (أي أصحاب المزارع) استقدام 2,500 عامل زراعي موسمي غير أوروبي. لا تعاني بريطانيا وحدها من حاجة متزايدة للعمالة الموسمية الأجنبية.  فقد أعلنت إسبانيا مؤخراً عن تسهيل تشغيل المهاجرين في قطاع الزراعة الغذائية لتأمين خطوط الإنتاج، بعد أن تبين أن كمية استهلاك الإسبان للغذاء أثناء الحظر المنزلي خلال أسبوع زادت بنسبة 17% عن العام الماضي. هكذا، فالعامل المهاجر هو من يزرع، والمواطن المقيم أو المستهلك العالمي هو من يأكل، والمزارع صاحب العمل هو من يجني الأرباح - وينال الثناء الحكومي "لإطعامه الأمة". باتت هذه المعادلة جزأ لا يتجزأ من بنية سوق العمل المعولم للدول الثرية بما فيها دول أوروبا الغربية وأميركا الشمالية. فبحسب منظمة العمل الدولية، بلغ عدد العمال المهاجرين في العالم 164 مليون (وفقاً لتقديرات عام 2017)، غالبيتهم (حوالي 70%) يهاجرون إلى الدول ذات الدخل المرتفع. وتستحوذ أميركا الشمالية وأوروبا مجتمعتين – وبالتساوي – على حوالي 50% منهم (مقارنةً بنسبة 14% في الدول العربية تتركز في دول الخليج).
العامل المهاجر هو من يزرع، والمواطن المقيم أو المستهلك العالمي هو من يأكل، والمزارع صاحب العمل هو من يجني الأرباح - وينال الثناء الحكومي لإطعامه الأمة
تُشكّل الزراعة ركناً أساسياً في هذه العمالة وتشهد نمواً ملحوظاً. لكنها، خصوصاً الموسمية منها، لا تنال حظها من التحليل الفكري والتضامن الطبقي لأسبابٍ عدة. يركز مثلاً الإعلام الغربي – وتباعاً العربي – على ظروف العمال المهاجرين إلى دولٍ تتمتع بسمعةٍ سيئةٍ فيما يخصّ حقوق الإنسان كدول الخليج العربي أو لبنان. وهنالك أيضاً طغيان قطاعاتٍ أخرى من العمالة المهاجرة، على طبيعة الأعمال التي تتولاها العمالة غير المدربة في دول المهجر الغربية، كقطاع الخدمات أو البناء، ناهيك عن اعتبار القطاع الزراعي في كثير من الأحيان خارج إطار سوق العمل التقليدي والقابل للتثوير، كالصناعة، حيث مهد البروليتاريا ومسرح العمل النقابي ورأس حربة الصراع مع رأس المال. وما غياب تصنيف الزراعة بين "زراعة تجارية" و"زراعة الكفاف"، أو غياب تعبير البورجوازية الزراعية مقابل مفهوم الإقطاع الرائج، أو ضبابية الفارق عند الكثيرين بين المزارع (صاحب العمل) والفلاح (العامل) سوى انعكاس لتهميش القطاع الزراعي عند الحديث عن العمالة الرأسمالية بشكل عام، وتلك في الدول الغربية بشكل خاص. وأخيراً، اكتسبت الهجرة الى الدول الغربية طابع الديمومة – أي الاستقرار في بلد المهجر – في ذهن المهاجر "الشرعي" أو اللاجئ – أقلّه إلى حين الحصول على جنسية بلد المضيف – وذلك طمعاً في حياةٍ أفضل وحيازة جواز سفرٍ يؤمّن له ولعائلته سلّة من الامتيازات والضمانات المعيشية. أي أن عمالة الهجرة الى الغرب كانت مرتبطة بسياق اجتماعي. لكن النيوليبرالية لم تألُ جهداً لفكّ هذا الارتباط.

العمالة خارج سياقها الاجتماعي

تعكس منظومة التجنيس تلك التي اعتمدتها الدول الغربية، خصوصاً دول المستعمرات الاستيطانية ككندا والولايات المتحدة وأستراليا، العقد الاجتماعي الذي رسّخته دولة الرعاية الاجتماعية في القرن الماضي داخل المنظومة الرأسمالية. يقوم المهاجر بواجباته تجاه تنمية اقتصاد البلد المضيف بحسب حاجيات الأخير ويدفع الضرائب ويتقيد بالقانون لسنوات معينة مقابل منحه المواطنة وما تتضمنه من حقوق وامتيازات له ولذريته. لم تَخلُ تلك العملية من استنسابية في قبول طلبات الهجرة (كتفضيل العمالة المتعلمة – ما يُعرف بنزيف الأدمغة)، والإقصاء المجتمعي أو التمييز العنصري والديني بعد الهجرة. لكنها حافظت على حد أدنى من الميثاقية التي ربطت الهجرة بالمواطنة. باتت هذه المنظومة أكثر تعقيداً وإجحافاً بحقّ العمالة المهاجرة نتيجة التحولات النيوليبرالية للاقتصاد الرأسمالي الغربي. أضحى سوق العمل أكثر انفصالاً عن السياق الاجتماعي للإنتاج وانحسرت المواطنة بشكل متزايدٍ ضمن المفهوم القومي أو العرقي الضيق (الأميركي الأبيض مثلاً) الرافض لاندماج الآخر (المكسيكي مثلاً) بالتلازم مع حاجة الأول المتزايدة لقوة عمل الأخير. وأتت التطورات التقنية في مجال سرعة وكلفة النقل وقوننة الدخول والخروج لتُسهِّل عملية الفصل تلك بين العمالة وسياقها الاجتماعي. ليس صدفة إذاً أن تشهد العمالة الموسمية الزراعية نمواً مطرداً بالتزامن مع صعود خطاب الكراهية للمهاجرين، وتصبح مختبراً لآليات الاستغلال الرأسمالي المُعوْلم في القرن الواحد والعشرين.

 آليات الاستغلال الموسمي

بحسب دراسة نشرتها منظمة العمل الدولية، يقع العمال الموسميون الزراعيون في الدول الصناعية في أسفل سلم الأجور رغم الجهد الشاق الذي يتطلبه عملهم. تجتمع عوامل تكنولوجية واقتصادية اجتماعية عدة لتجعل من قطاع الزراعة الموسمي – المرتبط بزراعة الفواكه والخضار والمزروعات البستانية كالورود – عُرضة للاستغلال الطبقي. تقنياً، ما زالت هذه الزراعات عصية على المكننة مقارنة بالحبوب نتيجةً لسرعة تلف الأولى أو عدم نضوج المحصول دفعة واحدة مما يتطلب حصادا باليد – أي أيدٍ عاملة مكثفة. في المقابل، أدى تطور قطاع النقل وانخفاض تكلفته الى تحول في دورتي الاستهلاك والعمل على حد سواء. على الصعيد الاستهلاكي، حتى الماضي القريب، ظلّت الخضار والفواكه الى حدٍ بعيدٍ تُستهلك بالقرب من مركز الإنتاج بخلاف الحبوب القابلة للتخزين. لكن ساهمت تقنيات التبريد والشحن السريع الحديثة في خلق سوقٍ عالمي للخضار، ما زاد من نسبة الزراعة التجارية وتجارتها بالجملة. أما على صعيد دورة العمل، فقد بات نقل العمال من وإلى موطنهم الأصلي أقل كلفة، وساعدت تقنيات المراقبة والتجسس على ضبط حركة العمال وضمان بقائهم خارج منظومة الهجرة الدورية التي تفضي إلى المواطنة. وهو ما لم يُخفِه وزير الغذاء البريطاني ديفيد رتلي عندما قال أن حكومته ستستخدم برنامجها التجريبي للزراعة الموسمية من أجل فحص مدى فعالية نظام الهجرة في سد نقص اليد العاملة من دون تقويض نظام مراقبة الهجرة المتين وبأقل تأثيرٍ عل المجتمعات المحلية والخدمات العامة. وتتعاقد الحكومة البريطانية مع المجتمع المدني، بما فيها مؤسسات الإحسان مثل جمعية كونكورديا، لتجنيد العمالة الموسمية تحت غطاء التبادل الثقافي والمنفعة المتبادلة. ويعد التجنيد عبر وسيطٍ إحدى آليات الاستغلال؛ فالوسيط يعلم ظروف العمال في الوطن الأم مما يعزز من قدرته على التفاوض ودفع المهاجر الى القبول بأضعف الشروط. وفي غياب حركة نقابية في هذا القطاع، يحتكر كل من الوسيط والدول "المضيفة" وأصحاب المَزارع عملية تصميم وتنظيم سوق العمل، فيما يخفف سلخ العامل عن بيئته الثقافية والعائلية الأصلية من قدرته على الصمود في وجه الاستغلال الذي يلاقيه خاصة إن أراد العودة في الموسم المقبل. إن سهولة استبدال العمالة الموسمية نظراً لقلّة المهارة المطلوبة واعتبارها "مقطوعة من شجرة" دفعت مارستون نفسه، رئيس جمعية الفواكه الصيفية المذكور أعلاه، الى البحث عن بدائل من خارج القطاع. لم يخطر على بال مارستون حثّ الشباب الإنكليزي القيام بالمهمة. بل اعتبر أن هناك العديد من مواطني أوروبا الشرقية المقيمين حالياً في بريطانيا ممن قد يقومون بالمهمة وهم "صغار السن نسبياً ومن دون ارتباطات ويريدون عملا ذي أجرٍ معقول وشروط عملٍ معقولة". قد تبدو هذه الشروط معقولة بل ومغرية مقارنة بشروط العمل في البلد الأم، لكن المقارنة مغلوطة. فسوء شروط العمل في البلد الأم هي في كثير من الحالات نتيجة مباشرة للتبعية الاقتصادية للدول "المُضيفة". والأهم أن معقولية الشروط تعتمد على مطابقتها لشروط سوق العمل في البلد الصناعي، وهي مطابقة ما زالت بعيدة المنال، كما يعي العمال المهاجرين، مما حدا بعضهم ممن يعمل تحت أسوأ الظروف الى الانتفاضة على واقعهم كما كانت حال قاطفي البرتقال في إيطاليا عام 2010.

الانتفاضة التعاونية والسيادة الغذائية

شكلت انتفاضة قاطفي البرتقال في بلدة روزارنو جنوب إيطاليا – والتي اندلعت عام 2010 ردا على ظروف العمل المزرية والمعاملة العنصرية – منعطفا في تاريخ عمالة الهجرة في ذلك البلد. ففي عام 2014، قام مشاركين بالانتفاضة ، وجُلَّهم أفارقة، بإنشاء تعاونية زراعية في ضواحي روما. عقد العمال اتفاقيّات مع أصحاب المزارع لاستئجار المعدات والأرض بدلا من بيع قوة عملهم. بعد مضي خمس سنوات، صارت التعاونية تلتزم 6 هكتارات من البساتين وتنتج 200 ليتر من اللبن أسبوعيا. يقوم الأعضاء بإدارةٍ ماليةٍ رشيدةٍ للتعاونية بشكلٍ يسمح بالادخار لتأمين مدخولٍ مستقرٍ في المستقبل وتقاسم ما يبقى. وفي ظلّ جائحة كوفيد-19، ضاعفت التعاونية من جهودها في سبيل إطعام أكبر عدد ممكن من المواطنين، مما أظهر مساهمة عمالة الهجرة في دعم المجتمع الإيطالي رغم ما تعرض له المهاجرون من استغلال. يُقدم النموذج التعاوني هذا بديلاً عن الوصفات المنشورة برعاية منظمة العمل الدولية، والتي لا تتخطى محاولة تحسين شروط العمل بدلا من تحرير العمال من العمالة المأجورة. لكن النموذج التعاوني أيضا له حدوده، فهو يعمل على نطاقٍ ضيقٍ ضمن الدول "المضيفة"، ولا يعالج جذور المشكلة المتمثلة في السياسات الاستعمارية. تتجدد هذه السياسات على الدوام وتقوم بنهب الموارد الطبيعية والإفقار والتهجير عبر مصادرة الأراضي الزراعية في البلاد الأم لصالح كبار الرأسماليين. كما إنها تشجع على اتباع سياساتٍ زراعيةٍ تعطي الأولوية لحاجات الاستهلاك في الدول الصناعية بدلاً من حماية الأمن الغذائي للمجتمعات الزراعية، والعمل على تفعيل سيادتها الغذائية، أي حقها في تقرير نظامها الغذائي والإنتاجي. تتبنى هذه المطالب اليوم جمعيات مثل أطاك في المغرب العربي، يمكن البناء عليها في سبيل مقاومة آثار العولمة على الطبقة العاملة في المهجر والمنبت.
الحرب واستجداء الغرب

لن يكون فك الارتباط بالغرب عملية سهلة أو سريعة. لكنّ البحث عن بدائل ولو بعد حين، وفي ظلّ ظروف صعبة، يبدأ..

هشام صفي الدين
العلاقات السورية - اللبنانية: أي مصير؟

التناقض الأساسي بين لوازم مواجهة الاستبداد المتمثل بالنظام السوري ولوازم محاربة الاستعمار الاستيطاني..

هشام صفي الدين

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة