عن المُقدّس وحُرّاسه في العراق

ليست المشكلة مع مفهوم المقدّس بحد ذاته. فهو جزء من تكوين الإنسان العاطفي ومن محيطه الثقافي والمجتمعي. المشكلة هي مع حرّاس المقدّس الذين يستغلّون رمزية المقدّس ويضيفونه إلى ترسانتهم لتضخيم وترسيخ سلطتهم الاجتماعية، ولتوسيع دائرة نفوذهم السياسي.

أثار حفل افتتاح بطولة غرب آسيا بكرة القدم في ملعب كربلاء في آخر الشهر الماضي عاصفة من الجدل حول المُقدّس، وحضورِِه في الحيّز العام، وسلطةِ حرّاسه «الرسميين» في العراق. كان الحفل متواضعاً وبسيطاً بإمكانياته ومستواه الفني بالمقارنة مع حفلات مشابهة في المنطقة. وظهرت مجاميع شكّلت أعلام الفرق المشاركة، كما تخلّلته رقصات تعبيرية قامت بها ثلاث فتيات يرتدين ملابس طويلة بألوان العلم العراقي. وأثار هذا، وظهور امرأة تمشي على أرض الملعب وهي تعزف لحن «موطني» على آلة الكمان أثناء نشر العلم العراقي في قلب الملعب، أثار الجدلَ لدى الكثير من الحضور والمشاهدين، والجدلَ لدى غيرهم. أجّجت هذه اللحظة مشاعر الحضور في الملعب، فترقرقت الدموع في المحاجر وتصادت الألحان مع كلمات النشيد التي رددها الجمهور، ورفرفت الأعلام العراقيّة في المدرّجات.

لكن عدداً من الجهات والشخصيات عبّرت عن استهجانها، أو تحفظها عما رأته تجاوزاً لحرمة المدينة. ومن بين هؤلاء محافظ كربلاء والوقف الشيعي، الذي اعتبر الحفل انتهاكاً صارخاً تجاوز الحدود الشرعية. أما نوري المالكي، الأمين العام لـ"حزب الدعوة"، الذي لم يحاسَب إلى اليوم على كارثة سقوط الموصل، فقد استنكر وأدان «بشدة» ما جرى، معتبراً إياه تجاوزاً على حرمة المدينة. وطالب، كبير المقصرّين، ويا للمفارقة، بفتح "تحقيق عاجل لمحاسبة المقصرّين». واصطف آخرون وراء المالكي ووراء آخرين هبوا دفاعاً عن القدسية. وفي الوقت ذاته، عبّر كثيرون من خلال وسائط التواصل الاجتماعي عن فرحتهم بحفل الافتتاح، الذي عدّوه عودة للحياة والفرح إلى البلاد، واستهجنوا ردود فعل المستهجنين. ووُجِهت تحيات الإعجاب والدعم لعازفة الكمان من الذين تصوروها رمزاً للمرأة العراقية المتحررة. لكن المضحك المبكي أن العازفة لم تكن مواطنة عراقية، بل فنّانة لبنانية اسمها جويل سعادة. ذلك لأن الشركة التي تم التعاقد معها لتنظيم حفل الافتتاح شركة لبنانية. والمحزن، وإن لم يكن مفاجئاً، ألا شركة أو مؤسسة في عراق اليوم يمكن أن تضطلع بتنظيم حفل افتتاح ناجح.

حتى غير المتدينين وغير المؤمنين، لديهم رموز مقدسة يدافعون عنها، وإن كانوا يفتقرون في معظم الأحيان إلى مؤسسات أو سلطات أو تقاليد راسخة تدعم حملاتهم الدفاعية

وكان مجلس محافظة كربلاء قد أقرّ قانون قدسية كربلاء عام ٢٠١٢ وبدأ بتطبيقه أواخر عام ٢٠١٧، مع أنه ليس قانونياً بحسب الدستور العراقي. فظهرت لافتات في المدينة تحذر من ممارسات ليست موجودة فيها أصلاً وأخرى من غير المنطقي منعها، مثل عرض الملابس النسائية في المحلات. وأثارت اللافتات ومنطق القانون استياء واستهجان الكثير من المواطنين في المدينة.

ونعيد طرح السؤال الذي طُرح آنذاك: أيحتاج المقدّس، أصلاً، إلى قوانين لحمايته؟ لا يتطلب احترام الأماكن المقدسة قوانين صارمة. فهذا يكاد يكون مفهوماً ضمناً، ومقبولاً ضمن ثقافة المكان وذاكرته وممارساته، حتى من أولئك الذين لا يتبعون نفس الدين أو المذهب. ليست المشكلة مع مفهوم المقدّس بحد ذاته. فهو جزء من تكوين الإنسان العاطفي ومن محيطه الثقافي والمجتمعي. حتى غير المتدينين وغير المؤمنين، لديهم رموز مقدسة يدافعون عنها، وإن كانوا يفتقرون في معظم الأحيان إلى مؤسسات أو سلطات أو تقاليد راسخة تدعم حملاتهم الدفاعية (أو الهجومية، حين يكون المقدس العلماني مدعوماً من نظام سياسي في حربه وقمعه «المقدس» لحركات سياسية تستخدم الخطاب الديني).

المشكلة هي مع حرّاس المقدّس وليست مع المقدّس. هؤلاء الحرّاس الذين يستغلّون رمزية المقدّس ويضيفونه إلى ترسانتهم لتضخيم وترسيخ سلطتهم الاجتماعية، ولتوسيع دائرة نفوذهم السياسي، وبالتالي لجني الأرباح الطائلة من إشهار سلاح الدفاع عنه المقدّس. إن (التظاهر بالـ) الخوف على المقدّس وتصويره بهذه الهشاشة يصرف الأنظار عن الخراب الذي أحاقه حرّاس المقدّس بالبلاد، وتشويههم لقيم العدالة الاجتماعية التي يربطها الكثيرون بتلك الرموز المقدّسة. ليس من الصعب أن يلاحظ المرء التناسب الطردي بين تصاعد نبرة خطاب القدّْسية، والدفاع عن المقدسات من جهة، وبين الفساد والخراب في العراق من جهة أخرى. تتراكم النفايات، وتنهار البنية التحتية، وينتشر الفقر والجوع (أنا مش كافر، بس الجوع كافر!) والأميّة، وتهان كرامة المواطن كل يوم، وينخر الفساد كل مفاصل الحياة، بينما يزداد حرّاس المقدّس غنى وعافية وسطوة.

يحرسون المقدّس/ات وقد دنسوا العراق وكفروا به.

  تُنشر بالتزامن مع موقع "جدليّة"