“حزب الله” بعد التجربة السورية

مثّلت الحرب السورية فرصة لـ“حزب الله” لاكتساب تجربة القوات الخاصة الروسية في الميدان، خصوصاً في ما يتعلق بوسائل جمع المعلومات، والتنسيق مع باقي القطعات، والاستعانة بالطيران المسيّر، ورصد الإحداثيات بغرض طلب وتوجيه المساندة النارية عن بعد. وهذه يُتوقع أن تلعب دوراً محورياً في أي مواجهة مستقبلية مع إسرائيل.

أعلن أمين عام “حزب الله” الأسبوع الماضي أن الحزب قد سحب قواته من سوريا، بعدما انتهت الحاجة لها. مشاركة الحزب الرسمية في الحرب السورية امتدت إذاً حوالي 6 أعوام، وذلك باعتبار معركة القصير، التي انطلقت في أيار 2013، البداية الرسمية للمشاركة الواسعة النطاق لمقاتلي الحزب في الحرب السورية. شهد الأسبوع الماضي أيضاً تبادلاً للتهديدات وتوجيه معادلات الردع، وذلك في الذكرى الثالث عشرة لحرب تموز 2006. يمثل هذا إذاً فرصة مناسبة لمراجعة ما اكتسبه “حزب الله” في تجربته السورية من الناحية العسكرية وانعكاسات هذه التجربة على المواجهة المحتملة مع الجيش الإسرائيلي. هل للتجربة السورية تأثير مباشر على الحرب مع إسرائيل؟ تطورت قدرات “حزب الله” منذ أن بدأ مواجهاته مع إسرائيل بُعيد الغزو الإسرائيلي للبنان صيف 1982. اهتمام الباحثين والمراقبين غالباً ما يتركز على المنظومة الصاروخية للحزب، خصوصاً بعدما أظهرت مواجهات عسكرية عدة في الشرق الأوسط أن هذه الصواريخ باتت تشكل تحدياً حقيقياً ومعقّداً للقدرات العسكرية لأي جيش تقليدي. أطلق “حزب الله” الصواريخ لأول مرة على شمال إسرائيل رداً على اغتيالها أمينه العام السابق، عباس الموسوي، في 16 شباط 1992، لتزداد وتيرة استخدام الصواريخ منذ ذلك الحين. فخلال عملية “عناقيد الغضب” أطلق “حزب الله” بالمتوسط 55 صاروخاً في اليوم، وفي حرب تموز 2006، أطلق بالمتوسط 130 صاروخاً في اليوم. في الحرب المقبلة٬ من المتوقع أن يبلغ هذا المتوسط 1000 إلى 1500 صاروخ، وذلك في ضوء أن “حزب الله” بات يمتلك أكثر من 100 ألف صاروخ، وأن المواجهة ستستمر أسابيع عدّة. ولكن هذا التركيز على الجانب الصاروخي يخفق في فهم موقع الصواريخ في الاستراتيجية العسكرية لـ”حزب الله”؛ فهناك نزعة لاعتبار الاستراتيجية الصاروخية هي الاستراتيجية الرئيسية للحزب. في الحقيقة، استخدمت الصواريخ بوصفها جزءاً مكملاً للاستراتيجية العسكرية القائمة على الاشتباك المباشر. في مرحلة ما قبل الانسحاب الإسرائيلي، أيار 2000، كان استخدام الصواريخ محدوداً للغاية، واقتصر على الرد في حال استهداف إسرائيل للمدنيين في جنوب لبنان، في حين أن العمليات العسكرية للحزب لم تتوقف. بعد الانسحاب تطور دور الصواريخ ليصبح ورقة ردع لمنع الاستهداف أساساً. معادلة الردع واضحة: قصف المنشآت التحتية والسكنية في لبنان سيقابل بقصف صاروخي على المدن والمواقع الاقتصادية الإسرائيلية.
إذا قررت إسرائيل ألا تستهدف البنى التحتية اللبنانية، وأن تركز على القتال البري في جنوب لبنان فقط، سيكون من مصلحة “حزب الله” أن يتجنب استخدام صواريخه
دراسة توازن الردع في الحروب تقول إن هذه التوازنات لا تمنع الحرب ولكنها تغير من مسار وتنفيذ الحرب. المثال الأشهر والأقرب هو ما يعرف بـ «حرب المدن» بين العراق وإيران عندما لجأ الطرفان إلى استهداف التجمعات السكنية والمنشآت المدنية في عمق الطرف الآخر، بين 1985 و1988. ولكن هذا الفصل من الحرب العراقية الإيرانية توقف في شباط 1988. وبالرغم من أن العراق شن سلسلة من الهجمات العسكرية الاستراتيجية، قلب فيها موازين الحرب، بين نيسان وأواخر تموز 1988، لم تقم إيران باستهداف المدن العراقية وذلك لسببين: الأول، بديهي، وهو أن العراق كان سيرد بالطبع، والثاني وهو الأهم، وهو أن هذا الاستهداف لم يكن ذلك ليغير مسار ما كان يحصل على الحدود. العراق بدوره لم يستخدم الصواريخ في استهداف المدن الإيرانية لأن ذلك لم يكن لينعكس إيجاباً على تقدمه على الجبهة. ماذا سيحصل إذا ما اندلعت الحرب المقبلة بين إسرائيل و”حزب الله”، وقررت إسرائيل ألا تستهدف البنى التحتية اللبنانية، وأن تركز على القتال البري في جنوب لبنان فقط؟ وفقاً للمنطق العسكري البارد سيكون من مصلحة “حزب الله” أن يتجنب استخدام صواريخه بالطريقة التي وصفها، وأن يركز من جانبه على الاشتباك البري، وقد يستخدم صواريخه في استهداف القوات الإسرائيلية المهاجمة، أو في نقاط تحشيدها وإمدادها. وهذا يشير إلى أن السلاح الصاروخي سيبقى مكملاً للاستراتيجية العسكرية وليس الاستراتيجية بكليتها، وأن أي خبرة إضافية في إدارة المعركة على الأرض ستنعكس مباشرة على مسار المواجهة المقبلة. الاشتباك العسكري في 2006 في آخر مواجهة عسكرية واسعة بين إسرائيل و”حزب الله”، خاض مقاتلو الحزب الحرب باستراتيجية دفاعية. إذ انتشروا على شكل تجمعات صغيرة لم يزد عديدها بالمتوسط عن 5 مقاتلين، وفي بعض الأحيان مقاتلَين اثنين فقط، واتخذوا من نقاط محصنة ومموهة بشكل متقن، ومزودة بما يكفي من المؤن والذخائر، مواقعَ لاستهداف القوات الإسرائيلية المتقدمة بنيران الرشاشات والقناصات والصواريخ المضادة للدبابات. قدّرت إسرائيل عديد مقاتلي الحزب المشاركين في الحرب يومها بحوالي الألف، ولم يكن كل هذا العدد منتشراً على الخطوط الأمامية. مقاتلو الحزب انتشروا في منطقة يعرفون جغرافيتها بشكل جيد، ويعرفون ما تمليه طبيعتها على الجيش الإسرائيلي لجهة الطرق التي ينبغي استخدمها، وهو ما ساعدهم على تنفيذ كمائن محكمة، وبكلفة منخفضة. فعلى سبيل المثال، في 12 آب 2006، تقدم رتل من 24 دبابة ميركافا 4 تابعة للواء 401 في وادي السلوقي، قبل أن يكتشف قائد الرتل أن الطريق مغلق بسبب بناء منهار، وعند محاولة الرتل العودة، انفجرت عبوة ناسفة استهدفت الدبابة الأخيرة، وعلق الرتل. وانهمرت الصواريخ المضادة للدبابات. اعترف الإسرائيليون بإصابة 11 دبابة من أصل 24. ولا يوجد ما يوحي بأن عديد مقاتلي الحزب الذين شاركوا في الكمين وصلوا إلى 20 في الحد الأقصى. صحيح أن مقاتلي الحزب التزموا تكتيكاً دفاعياً يعتمد على البقاء في نقاط محددة ورصد تقدم القوات الإسرائيلية للاشتباك معها، إلا أن هذا التكتيك تطلب أيضاً مستوى عالياً من التنسيق مع قيادة الحزب ومع النقاط الأخرى. وعند إدارة هذه الشبكة من المواقع، تلعب الاتصالات دوراً حيوياً. ونظراً للتقدم التقني الإسرائيلي في المجال الإلكتروني، كان الخيار الأسلم للحزب هو الاعتماد على الشبكات السلكية، فهي أقل تأثراً بالتشويش ويصعب اختراقها أو التنصت عليها. وهكذا امتدت شبكة الاتصالات وتفرعت في جنوب لبنان. من راقب مجريات الحرب في تموز 2006 يتذكر على وجه الخصوص التزام مقاتلي الحزب في مواقعهم المنتشرة في جنوب لبنان بوقف إطلاق الصواريخ الذي حصل نهاية تموز لمدة 48 ساعة، واستئنافهم إطلاقها بعده مباشرةً، ثم الالتزام بقرار وقف إطلاق النار في نهاية الحرب. فضلاً عن أن معدلات الإطلاق وضراوة القتال قد تصاعدت خلال الحرب، ما يعني أن مستويات التنسيق والقيادة بقيت صامدة، وهذا في أحد جوانبه اعتمد على استقرار شبكات الاتصال السلكي. انعكاسات التجربة السورية: الخروج من الأنفاق هناك فوارق رئيسية بين تجربة تموز 2006 والتجربة السورية. فبالرغم من أن “حزب الله” لم يقاتل في سوريا ضد جيش تقليدي متقدم تقنياً أو يتمتع بغطاء جوي، إلا أن هناك العديد من النواحي التي ستنعكس على أدائه في الحرب المقبلة مع إسرائيل. بدايةً، في سوريا، لم يقاتل الحزب ضمن بيئة حاضنة تحميه. هنا الفارق بين أن تقاتل وأنت مطمئن إلى أن العدو سيأتي من جهة واحدة وبين أن تقاتل في حالة ترقب واستنفار دائم، وهذا ما سيكون له انعكاس مباشر في حال قرر مقاتلو الحزب اختراق الحدود. في 2006، قاتل الحزب على شكل فرق صغيرة منتشرة بشكل متباعد، بما إجماليه بضع مئات. في سوريا، قدر مراقبون عدد مقاتلي حزب الله بحوالي 8000. شارك المقاتلون في المعارك على شكل فصائل وسرايا من المقاتلين. وإن كان المقاتلون اكتسبوا خبرات فردية، فإن الجزء الأهم من التجربة هو التغييرات البنيوية وفي العقيدة القتالية والمبادئ العملياتية للحزب. تمثل التجربة السورية، خصوصاً منذ معركة القصير، مرحلة الانتقال من الدفاع إلى الهجوم. هو الخروج من الأنفاق للمساحات المكشوفة وحروب المدن. وما يعنيه ذلك من الحاجة لتطوير قدرات قيادة وسيطرة أكثر فعالية. المقاتلون انتشروا على مساحات شاسعة، وبات هناك متطلبات لوجستية كبيرة. في 2006، كان المقاتلون يطبقون بشكل رئيسي مجموعة من السيناريوهات التي استعدوا لها، مع تدخل محدود من المستويات الأعلى في التوجيه. ولكن في سوريا، كان هناك حاجة للحصول على توجيه دقيق وتواصل لحظي بين القيادات الميدانية وجميع الوحدات المنتشرة. مستوى عمليات القيادة والسيطرة بات أعلى وأكثر تعقيداً. شبكات الاتصالات السلكية لم تعد ذات فائدة. باتت هناك حاجة للاعتماد على شبكات الاتصال اللاسلكي المشفر، والبعيد المدى في بعض الأحيان، وكذلك على الطيران المسير، وما يعنيه ذلك من مخاطر التعرض للتشويش أو الاختراق. هي تجربة تُقاتل فيها ويكون أغلبُ عناصر المعركة ضدّك.
التغيير الأهم في التجربة الإسرائيلية هو إدراك أن دور المدرعات في الحرب المقبلة سيكون ثانوياً ومسانداً
الجزء الأهم من تجربة “حزب الله” جاء اعتباراً من خريف 2015 بعد دخول القوات الروسية إلى سوريا. وبالرغم من أن روسيا تمتلك عقيدة قتال تقليدية، إلا أن مشاركتها في الحرب السورية استخدمت ما يمكن وصفه بـ”الحرب الهجينة” التي تركز على استخدام القوات الخاصة الروسية، فيما ندر استخدام الدبابات مثلاً. وهذا مثل فرصة لـ”حزب الله” لاكتساب تجربة القوات الخاصة الروسية في الميدان، خصوصاً في ما يتعلق بوسائل جمع المعلومات والتنسيق مع باقي القطعات والاستعانة بالطيران المسيّر ورصد الإحداثيات بغرض طلب وتوجيه المساندة النارية عن بعد. وهذه يُتوقع أن تلعب دوراً محورياً في أي مواجهة مستقبلية مع إسرائيل. إسرائيل من جانبها تستعد، بطبيعة الحال، للحرب المقبلة. وبالرغم من أن الجيش الإسرائيلي ركّز على تطوير قدرات سلاح المدرعات لديه لتجنب الخسائر التي أُلحقت به في حرب تموز، إلا أن التغيير الأهم في التجربة الإسرائيلية هو إدراك أن دور المدرعات في الحرب المقبلة سيكون ثانوياً ومسانداً، فيما ستُخاض الحرب نفسها من قبل سلاح المشاة وألوية القوات الخاصة، التي تم بالفعل تعزيزها وتوسيعها. وهكذا، بالرغم من أن الاستعداد للحرب مع إسرائيل لم يكن حاضراً بالضرورة خلال التجربة السورية لـ”حزب الله”، إلا أن الخبرات المكتسبة هناك ستنعكس مباشرة على مسار الحرب المقبلة.
الاقتصاد السياسي للبنى التحتية في سوريا: الكهرباء مثالًا

يتركّز النقاش السوري على مدى توفّر المواد الأولية اللازمة لتلبية المتطلبات المباشرة للسوريين، خصوصًا..

محمد صالح الفتيح
الآثار الاقتصادية العميقة للحرب الروسيّة - الأوكرانيّة

قد تتمكن القيادة الروسية من الحد من الانكماش الاقتصادي. لكن الحفاظ على النفوذ في الخارج يحتاج إلى قدرات..

محمد صالح الفتيح

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة