البشير و”الإخوان” والسقوط الكبير

لم تعرف حركات "الإسلام السياسي" عصرًا ذهبيًا وضعها على "العتبات" النخبويّة منذ تفكك الإمبراطوريّة العثمانيّة، وذلك بمعزل عن صعودها الظرفي في أكثر من رقعة عربية لحدود ثمانينيات القرن الماضي. لذا، فقد بدت مع تفشّي الصحوة بداية "الربيع العربي" وكأنها قاب قوسين أو أدنى من "الخلافة"، خصوصًا أن انخراطها الكامل في المجهودات السياسيّة وحتى الحربيّة (تبعًا لساحة الإشتباك) كان مكثفًا وممنهجًا حدّ الانقضاض على الفراغ التاريخي المتاح. فقد أدى التفسّخ البنيوي في جزء أساسي من الأنظمة العربية "المحافظة"، إلى خلق فجوات ساد فيها الإسلامي المُنظم على الباقي المشتت بفعل "العسكرة" التاريخيّة للدولة وتداعيات ذلك على المجتمع. هكذا جاء "ربيع" "الإخوان" مقبلًا غير مدبّر، ومع زخم مرتكز إلى امتداد جغرافي عابر لحدود الوطن إلى فضاءات "الأمة"، خصوصًا أن "الرؤية العالميّة" للتنظيم الدولي كانت مبررًا لمناوراته، ومن ثم وسيلته للربط بين عناصر قوته المحليّة مع امتداده "الشرعي الديني" في أنقرة وامتداده التمويلي في الدوحة، ومنهما إلى فضاءات "الناتو" وباراك أوباما وحروب العلاقات العامة. وبطبيعة الحال، جاء التمهيد للصعود "الإخواني" عبر عقود من التبديد الممنهج للطبقة العربيّة الوسطى، كعلامة تجاريّة يملكها حصرا أشاوس الأنظمة المحافظة، فضلًا عن تثبيت الأحاديات المانعة لصناعة بدائل أو استثمار المتاح منها في معضلة الثنائيات ما بين "العسكرة" القائمة و"الأسلمة" الممكنة. وفي قلب "الربيع" بدت ساحات الثورات والانتفاضات والفوضى، وكأنها تمهد الأرض كي يرثها أبناء البنّا وأردوغان. من القاهرة إلى طرابلس فتونس، تدحرجت كرة المنجنيق حتى أضحى محمد مرسي شبه حاكم لأمر شمالي أفريقيا، مقابل جنوب متوسطي خاضع لهندسة "العدالة والتنمية" في سوريا وبعض العراق. فيما تولّت إيران مهمة أكثر حيرة واختلاطا، فكانت إلى جانب "الإخوان" في مصر وتونس والأردن والعراق (وما تزال) إضافة إلى اليمن في مرحلة ما قبل انقلاب "الحوثيين" في سبتمبر/أيلول من العام 2014، ثم انقلبت على بعضهم الآخر واشتبكت مع فرعهم السوري بشكل تطلب الاصطدام المباشر بحلفاء أساسيين كحركة "حماس" الفلسطينية (لسنوات عدة من الحرب السورية، حتى هزيمة المسلحين في مناطق دمشق وحلب). الانغماس "الإخواني" التام في الساحات السياسيّة التي هرعت الجماعة إليها يوم "الربيع" بدا اليوم كما لو كان حالة انكماش تتجاوز حدّة الواقع ما قبل الصعود. فالانحسار المتتالي لنخب "الإخوان" (الحاكمة) في العالم العربي، أظهر فقاعة إسلامية "إخوانيّة" عامت على بحار من الشرذمة المجتمعية وغياب الانتظام الحزبي (ومن ضمنه الإسلامي المختلف) وحتى النقابي في دنيا الجنرالات. "الإخوان المسلمون" يسجلون هبوطًا فاق الصعود، فالحجم والقوة وما بينهما من "موروث" دعائي، فشلوا معًا في قولبة بلدان "الصحوة" على شاكلة المنتج النهائي المراد من طنجة إلى أبوظبي. هزيمة "الإخوان المسلمين" عبر "الثورة" الثانية في مصر بعد 2011 لم تكن وحدها المنعطف الاستراتيجي البارز، لكنها كانت المقدمة الأمثل لإطلاق "ثورة مضادة" ناجعة في مردودها على البعدين القومي والوطني. إذ، بطبيعة الحال، جاءت إزاحة محمد مرسي ونظامه كخطوة فارقة في إعادة هيكلة جذريّة لمنطقة شمالي أفريقيا، بمعزل عن التجاوزات غير الدستودية وغير القانونية التي رافقتها. وبهذا، انخرط الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي (المنقلب على "الإخوان" والمتحالف مع السعودية والإمارات، أبرز خصوم "الإخوان" عربيا) في إعادة الهيكلة هذه، فأصبح رأس حربة التحالف الثلاثي في مواجهة الجماعة انطلاقا من مصر إلى ليبيا الجنرال حفتر وصولًا إلى تونس.
اهتزت جماعة "الإخوان" الليبيّة بفعل انقلاب تركيا الفاشل عام 2016، وتراجع الدعم بفعل أزمة أنقرة الاقتصادية، وتركيز التمويل القطري على تركيا
اهتزت جماعة "الإخوان" الليبيّة الداعمة لحكومة فائز السراج بفعل انقلاب تركيا الفاشل عام 2016، وتراجع الدعم بفعل أزمة أنقرة الاقتصادية، وتركيز التمويل القطري على تركيا. وبين هذا وذاك جاء انهيار توازن القوّة المفروض ليبيا، فبتنا أمام صراع متسارع بين نظام "إخواني" متداع مدعوم من "الناتو" (باستثناء أميركا وفرنسا)، في مقابل قوّة متقدمة مدعومة من النظام العربي المحافظ. هكذا، تنفّذ قوات الجنرال خليفة حفتر ما قد يفضي في نهاية المطاف إلى أفول عصر "الإخوان" في ليبيا، بعدما كانوا في مقدمة المتحالفين مع "الناتو" حتى إعدامهم للزعيم الليبي معمر القذافي، وتحولهم إلى نخبة حاكمة تعترف بها الأمم المتحدة. وإلى جانب مصر وليبيا، بدت تونس هي الأخرى وكأنها تعد العدة لمواجهة طويلة الأمد مع نخبة "إخوانية" حاكمة. وهي تشكل جزءًا من الإرث السياسي لـ"نهضة" تونس التي رتبت لمحاولة انقلاب وقتل بن علي في مايو/أيار عام 1991. وعليه، فإن الاشتباك لن يكون مكثفّا ومركزًا كما هو الحال في جبهات ليبيا، نظرًا لعدم امتلاك تونس ثقلًا استراتيجيًا يستدعي النموذج الليبي في الحدّة، وفي ظل إمكانية إحداث تغيير جذري من داخل الجهاز الحاكم المطعّم باتجاهات عقائدية وسياسية أخرى كنتاج لعملية سياسية هجينة لم يُطبق عليها "الإخوان" بشكل تام. لم تقف خسائر "الإخوان" عند استثمارات ما بعد "الربيع العربي"، بل وصلت إلى خزينتهم الاستراتيجيّة في المنطقة العربية والمتمثلة بالسودان. إذ إن الديكتاتور السوداني المخلوع عمر البشير، شكل طوال العقود الأربع الماضية الملاذ الآمن لإخوان الشمال الإفريقي، وحصنهم الحصين العابر إلى ساحات الانخراط. فكانت السودان أول من دعم "الإخوان" في مصر في ركوبهم الثورة وصولًا إلى السلطة، وأول من أدخل المقاتلين والسلاح من الصحراء السودانيّة إلى ليبيا إبان الثورة على القذافي. منذ توقيعه "اتفاقية نيفاشا" للسلام عام 2005 التي ألغت حكم الشريعة في الجنوب، بدا البشير وكأنه يعد الساحة لشمال خالٍ من التحديات السياسيّة. فقد شكلت فكرة سلخ السودان ووأد التمرد في الولايات والتخلي عن الجنوب بمثابة العبور إلى سلطة يوقّتها الموت فقط، وأرض خالية من تحديات "التنوّع"، وذلك بعد سنوات من العمل العقائدي والتوجيهي في المؤسسة العسكريّة. وفي المحصلّة، لم تنفع عمليات الأدلجة في الاستقطاب ولا خطب الجهاد في التحشيد، فعيب الإخوان "القومي" المتمثل بالتبعية لمرجعية خارجيّة موحدة، كان المقتل منذ الفشل في إنتاج خطاب وطني، ومعه عيب ملازم قوامه الانخراط الكامل في ساحات أرادها "الخليفة" بمعزل عن حسابات القوّة والواقع وارتداداته على الساحات الداخليّة.      
في عراق الجمود.. هل تعود "الخلافة" قبل الدولة؟

المواجهة بين إيران وأميركا تقدّم لـ"داعش" ما يكفي من "مناطق رخوة" بعدما كانت التسمية تلك حكرًا على..

عبد الله زغيب
عن اليمن: هزيمة الوحدة وانتصار المذاهب

"انقرضت" اليوم الدولة المركزية، وانقرضت معها التنظيمات العسكرية التي تقبل بالعودة إلى الوراء، مهما كان..

عبد الله زغيب
عن الخامنئي "السيّد" و"القائد".. والدولة العربيّة الوطنيّة

تبحث القيادة الإيرانية عن صفقة مع الأميركي تخرج الجميع من عنق الزجاجة، وتعيد إيران ثلاث سنوات إلى الوراء..

عبد الله زغيب

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة