مارينا تسفيتايفا: حياة ضاجّة وشعر متفرّد
كانت تسيفيتايفا رصينة في مواقفها السياسيّة، فلم تأبه بآراء أدباء المنفى الغاضبة، وكتبت مقالاً عن شاعر الثورة العظيم مايكوفسكي بعد انتحاره، ومجّدت بشعره، بعيداً عن اختلاف مواقفهما السياسيّة
كانت تسيفيتايفا رصينة في مواقفها السياسيّة، فلم تأبه بآراء أدباء المنفى الغاضبة، وكتبت مقالاً عن شاعر الثورة العظيم مايكوفسكي بعد انتحاره، ومجّدت بشعره، بعيداً عن اختلاف مواقفهما السياسيّة
في العام 1922، في عهد تروتسكي وستالين، رُحِّلَتْ مارينا من وطنها في سفينة أُطلق عليها اسم "سفينة الفلاسفة"يبرز جهد المترجم وبراعته في تنسيق اختياراته في فصول شيّقة عميقة وشاملة، توجز مسار حياة تسيفيتايفا (1892- 194)، منذ طفولتها الآمنة، الغنيّة بالكتب والشعر والتمرّد. فقد كانت سيّدة الـ "لا" لكلّ "نعم" خائفة خانعة، برأيها! مروراً بما كابدته مع اندلاع ثورة أكتوبر العظيمة، من مآس وبؤس في وطنها وفي المنفى، وبمؤلّفاتها، وآراء الأدباء والنقاد في شعرها، وصولاً إلى وفاتها. وأدرج عديداً من قصائدها وفق تسلسلها الزمني، أردفها بملحقين، لمقتطفات من دفاتر يوميّاتها، ومن كتابها" معالم أرضيّة"، شذرات لا تقلّ أهمّية عن مضامين شعرها عمقاً وإدهاشاً، ثمّ قصّة لقائيها الوحيدين بالشاعرة آنّا آخماتوفا! في العام 1922، في عهد تروتسكي وستالين، رُحِّلَتْ مارينا من وطنها في سفينة أُطلق عليها اسم "سفينة الفلاسفة"، مع أدباء آخرين وغيرهم من أصحاب الأدمغة، المؤيّدين للجيش الأبيض، وذلك لنفيهم عوض قتلهم! رحلتْ تسيفيتايفا بقلب يمزّقه الألم هرباً من القمع الذي أخرس بمختلف الأساليب الذين اختاروا البقاء في الوطن، وللخلاص من شظف العيش والعوز بعد استيلاء البلاشفة على إرث أبيها ومستحقّاتها المصرفيّة الشهريّة، ثمّ من الإحساس القاتل بالغربة الذي لاحقها حتى آخر أنفاسها. قضت في المنفى سبعة عشر عاماً، كان أغلبها في باريس. كانت تسيفيتايفا رصينة في مواقفها السياسيّة، فلم تأبه بآراء أدباء المنفى الغاضبة، وكتبت مقالاً عن شاعر الثورة العظيم مايكوفسكي بعد انتحاره، ومجّدت بشعره، بعيداً عن اختلاف مواقفهما السياسيّة، لتبدو مغامرتها تلك، أشدّ مجازفة مما فعلته سابقاً مع النظام القيصري المؤازرة له، في تحميله مسؤوليّة موت الشاعر بوشكن، وذلك في دفعه إلى مبارزة لقتله، وسيلة القيصر المعهودة للتخلص ممّن يخالفه! يقول الناقد تروايّا:" إن حبّ كلمة الحق قتلَ في تسيفيتايفا حبَّ الكلام الصاخب". في سنّها السابع عشر، نشرت أوّل كتبها "ألبوم المساء". وقد جذب اهتمام شاعرين كبيرين؛ بريسوف مؤسس المدرسة الرمزيّة في الشعر، الذي كتب عنه:" بداية واعدة جدّاً...باذخة لكنّها قليلة الأهمّيّة...". ثمّ الشاعر غوميلوف الذي كتب:" كثير هو الجديد في هذا الكتاب... فقد اكتشفت الشاعرة هنا غريزيّاً كلّ القوانين الأهمّ في الشعر...". كانت تسفيتايفا شديدة الثقة بموهبتها، فلم تأبه بأيّ نقد يقلّل من شأنها، غير أنّها، في مناسبة أخرى، ستهجو بريسوف شعراً:" نسيْتُ أنّ قلبكَ ليس أكثر من سراج/ وليس نجمة/ أنّ شعركَ من الكتب/ ونقدكَ من الحسد/ أيّها العجوز باكراً، مرّة أخرى/ للحظة بدوتَ لي شاعراً عظيماً.../
في أواخر حياتها، كتبت: كلّ ما في الأمر أن نحبّ، أن ينبض القلب فينا – لو تحطّم نثرات!"شعركَ من الكتب"! اتهامّ حسّاس وجرئ من شاعرة شابّة لشاعر كبير القدر! كانت مارينا تدرك أنّ شعرها مستقلٌّ ومتميّزٌ، فلم يكن من الكتب، ولا يتبع أي تيّار شعري، هي التي جاءت شاعرة إلى وسط حشد من عمالقة الشعر الروسي: بلوك، غوميلوف وزوجته آنا أخماتوفا، كوزمين، وبريسوف، وغيرهم! تقول في مذكراتها:" دائماً كنت أعرف كلّ شيء، وذلك منذ الطفولة. دائماً كان عندي معرفة فطريّة". تؤمن بأن الإلهام يوحى به لها، وكأنّما يُملى عليها! كانت تمطر الشعر وتنزفه، آخّاذاً بغموضه، وحاملاً صرخات كلّ من لا يستطيع إخراج الصرخة بنفسه. أصدرت كتباً شعريّة عديدة. وكتبت المسرحيّات الغنائيّة، والنثر، لها رواية واحدة، النقد، والمقالات. ترجمت عن الفرنسيّة وإليها. وخلّفت دفاتر يوميّات كثيرة، ومراسلات هامّة تبادلتها مع أصدقائها الشعراء: بلوك، فولشن، ريلكه، وغيرهم. في إحدى حواراتهما حول دور الشعر في زمن الثورات، كتب لها باسترناك أنّه:" لا يعدّ الشعر الفعل الأنجع في زمن الحروب والثورات الذي يتطلب مؤرّخاً أو كاتباً ملحميّاً." فكتبت مارينا له:" إنّي لا أفهم عزمك على هجر الشعر. فماذا بعد؟ هل تلقي بنفسك عن جسر في نهر موسكو؟ إن الشعر، يا صديقي الغالي، مثل الحبّ، يظلّ معك إلى أن يهجرك هو... فأنت عبد عند الشعر". لم يهجرها الشعر أبداً، رغم المآسي والفجائع. ففي العام 1906 توفيت أمها شابّةً، وفي العام 1940 أُعدم زوجها الصحفي والسياسي إفرون، وبين العامين دام الموت يطوف حولها: وفاة أبيها، وفاة طفلتها إيرينا (3 سنوات) جوعاً في المأوى، ثمّ المنفى، انتحار يسينين ومايكوفسكي، إعدام ماندلشتام وغوميلوف، موت غوركي الإشكالي، وفاة بلوك بعد منعه من السفر للعلاج خارج البلاد، واعتقال شقيقتها الوحيدة أناستاسيّا وابنها. تلاه اعتقال ابنتها أرديانا ونفيها إلى معسكر الاعتقالات. باكراً عرفتْ تسفيتايفا أنّ:" الأرض ليست كلّ شيء". وأنّ:" الحياة ليست كلّ شيء". فأرادت كلّ شيء: الشعر، الحبّ، الصداقة، الوطن، الحياة والموت، أيضاً! في الثامنة عشرة من عمرها، كتبت:" آهٍ، قُدّر لي الموت، ما دامت الحياة/ مثل كتاب أمامي./ أنت حكيم، لن تقول لي بحدّة:/" اصبري، لم يأتِ أجلُكِ بعد"./ أنتَ من وهبتني الكثير الكثير!/ أتعطّش للطرق دفعة واحدة". وكتب زوجها الصحفي والسياسي إفرون:" كانت تسعى إلى الموت. لقد انسحبت الأرض من تحت قدميها...". عاشت غراميّات عاصفة، مع الرجال والنساء. كتبت للشاعر فولشن:" لسْتُ للحياة. كل شيء عندي – حريق! أستطيع أن أقيم عشر علاقات معاً. يا للـ "العلاقات"! وأن أؤكد لكلّ واحد منهم من أعمق أعماقي أنّه الوحيد". وفي أواخر حياتها، كتبت:" كلّ ما في الأمر أن نحبّ، أن ينبض القلب فينا – لو تحطّم نثرات! إنني دائماً أتحطّم نثرات، وما أشعاري إلّا نثرات قلبي الفضيّة بالذات". في 31- آب/ أغسطس- 1941، لم تعد تتحمّل، فشنقت نفسها بالحبل الذي أعطاها إياه باسترناك سنة (1939) في باريس لحزم أمتعتها حين عودتها إلى الوطن! ويا للعودة!