ومضات من ذاكرة الحرب السورية

علمتُ مما جمعته من معلومات متناثرة هنا وهناك أن الصفير الصادر عنها يُعد مؤشراً على أنها ستسقط في مكان بعيد عني. هكذا أمضيت سنوات عديدة في هروب دائم من الهاون، فما إن أسمع صفيرها حتى تبدأ خطواتي بالتسارع تلقائياً لظني أنها لن تستطيع اللحاق بي.

امتزجت تجربة الحرب في دمشق بخليط من لحظات التيه والحزن، والخوف من الموت العشوائي، والفرح المنفلت من ثنايا المجهول. وعلى الرغم من أن دمشق التي ولدتُ وعشتُ فيها لم تشهد دماراً كما حدث في معظم المدن السورية، إلا أنها كانت تموت في داخلي، وكانت هذه أولى التحولات التي أشعر بها خلال الحرب. رحل محمد في ذلك الوقت بدأت الخسارات تتوالى، يحضرني منها اعتقال محمد، شقيق صديقي بشار. كان محمد في السادسة عشر آنذاك، بالتحديد عام 2012. كان فتى خجولاً يهوى كرة القدم، ولم يكن يُعرف عنه نشاط سياسي، ومع ذلك اعتُقِل. لم تنفع جميع المحاولات التي أقدم عليها بشار لإخراج شقيقه. كل الاتصالات التي أجراها مع عناصر أمنيين والوعود التي تلقاها تناثرت هباء في الهواء. وبين ما حصل عليه من أخبار، أفادت بأن محمد نُقل إلى سجن صيدنايا، وأخرى أكدت له أنه ما زال حبيس جدران الأفرع الأمنية، كان يزداد شعوره بالعجز. تحمّل مشقة المصيبة لوحده، فهو لم يجرؤ أن يخبر والديه بما حدث. اكتفى بالقول: "إن محمد محتجز في مخفر الشرطة على خلفية مشكلة عرضية، وسيخرج خلال فترة وجيزة". بعد مرور أكثر من عام على دوامة البحث غير المجدية، تسلم بشار من مستشفى تشرين العسكرية أغراض شقيقه والبيان الطبي الذي جزم بطريقة محبوكة، ومن دون أن يترك لأهل الضحية أي فسحة للتحقق، أن نوبة قلبية كانت سبب الوفاة، ولم يكن محمد قد تجاوز السابعة عشر. رحل محمد وكأنه لم يكن. رحل ولم يسمع أحد صراخه المكتوم. لم يتسنَ له أن يحكي عن أحلامه الميتة وآلامه المحققة. لم يحظَ بقبر، ولم يبكيه أحد، فقد غُيّب جسده مع أجساد كثيرة قضت بالطريقة نفسها في مقابر جماعية لم يُعرَف طريق لها. لم يكن محمد الأول والأخير في دوامة الاعتقالات والاختفاء التي طالت آلافاً من الشبان من جميع الأطراف المتنازعة. عن يوميات الهاون والسيارات المفخخة لم تتوقف التحولات عند هذا الحد، فالانكسارات وموت بعض الأحاسيس الداخلية بفعل القهر والعجز المرافقين للحرب، تزامنت مع خوف تملكني بشكل ظاهري ومستتر. الخوف من أن أصاب بشظايا قذيفة هاون تبتر أجزاء من جسدي ظل هاجساً لا يفارقني. ففي مكان سكني بمدينة دمشق القديمة شهدت نوبات عنف الفصائل المسلحة المتمركزة في الريف الدمشقي، التي كانت ترد على عنف النظام بوابل غير منقطع من القذائف الصاروخية. مع مرور الوقت، أصبح لدي من الخبرة ما يكفي لأن أتجنب قدر المستطاع سقوط القذائف بالقرب مني، وعلمتُ مما جمعته من معلومات متناثرة هنا وهناك أن الصفير الصادر عنها يُعد مؤشراً على أنها ستسقط في مكان بعيد عني. هكذا أمضيت سنوات عديدة في هروب دائم من الهاون، فما إن أسمع صفيرها حتى تبدأ خطواتي بالتسارع تلقائياً لظني أنها لن تستطيع اللحاق بي، وفي أحيان كثيرة عندما كان يشتد القصف العشوائي، كنت أجري في الشوارع من دون أن أحدد لنفسي وجهة واضحة. واظبت على اتباع هذه الإجراءات التي ظننت أنها ستقيني من شر شظايا الهاون، إلى أن أدركت في ما بعد أن الحظ وحده هو الفيصل. حدث ذلك في واحد من أيام الخميس في شهر شباط عام 2013. فبعدما وصلت إلى مكان العمل القريب من جامع الإيمان في حي المزرعة، دوى صوت انفجار هائل حطم زجاج نافذتين، وجعلني أتسمّر مع زملائي في زاوية واحدة من زوايا الشركة. بدأت سيارات الإسعاف تتوافد إلى المكان. سمعت أصوات بعض رجال الأمن يحذرون الناس من النزول إلى الشارع. لا أعرف لماذا انتابتني في تلك اللحظة فكرة الخروج إلى مكان مفتوح. كان فضولي يدفعني إلى معاينة كل شيء بعيني المجردة، وأطبع المشاهد في ذاكرتي الخاصة. خرجتُ عندما أصبح الخروج متاحاً. كانت فرق من الشرطة وقوات الأمن تطوّق المكان وأصوات منبعثة من أجهزة اللاسلكي تلعلع في الأجواء. رأيت نُتفَ أشلاء متناثرة على الأرصفة وفوق بساط العشب الأخضر الملاصق لموقع التفجير. لم يستوقفني مشهد السيارات المتفحمة بل شدّت انتباهي قطع خبز مكوّمة تحت شجرة كبيرة، تفصل بينها بقع من الدماء الطازجة. بدأتُ أصوغ حكايات في رأسي المشدوه من هول ما أرى. قد تكون قطع الخبز هذه لأمّ كانت في طريق عودتها إلى المنزل لتطعم أطفالها. أو ربما كان شاب في مقتبل العمر يحملها أثناء خروجه من إحدى الورش حيث يعمل، ولم يوفق في اختيار توقيت مروره، ففوّت عليه تناول الفطور مع بقية العمال في الورشة. توقفت عن نسج الفرضيات وقلت في نفسي: ما الفائدة الآن؟ من كان يحمل أرغفة الخبز تناثر مثلها قطعاً. عندما تجاوزت مكان التفجير وصولاً إلى الشارع المقابل له، تغير المشهد عن بكرة أبيه. بين مشهدي الموت والحياة كان يفصل حاجز اسمنتي، لا أكثر. أناس على ميسرة المنصف ذهبت حياتهم هباءً، فيما يَمضي آخرون من جهة الميمنة إلى همومهم وأشغالهم اليومية. أذكر أن شاباً ذا شعر أسود مرّ بجانبي كان يحمل ملفاً به أوراق. كان الهدوء بادياً على محيّاه وفي خطواته. لم يلتفت لمعاينة آثار التفجير. لم يكترث. تجاوزتني امرأة ترتدي عباءة سوداء من رأسها حتى الكاحلين، تجر أمامها طفلين صغيرين. توقفتْ لتشتري لهما الكروسان من محل يبيع المخبوزات. لملمتُ ذهولي ومضيت وفي رأسي سؤال واحد: "ألم يرَ أحد غيري ما حدث؟".