أنا التي سرت في جميع شوارع بيروت

حين أمشي في شوارع بيروت، أبحث عن الطرق الأوضح، أو الأقصر، التي تربط المناطق بعضها ببعض. فأرسم خرائط في مخيلتي، وأبحث عن الروابط وأعيد رسم خريطة المدينة من جديد، وأكتشف أمورًا كثيرة تحدث في هذه المدينة في السرّ، أو في الخفاء. المشي، أيضا، اكتشاف.

أمشي منذ زمن بعيد. على الأرجح أني سرت في جميع شوارع العاصمة بيروت. وعلى الأرجح أني ركضت مئة مرة أو أكثر على الكورنيش البحري. لا أذكر تمامًا كيف بدأت علاقتي بالمشي، لكني أذكر أن أخي قال لي يومًا إن المشي سحر، فأدركته. حين أمشي في شوارع العاصمة، أبحث عن الطرق الأوضح، أو الأقصر، التي تربط المناطق بعضها ببعض. فأرسم خرائط في مخيلتي، وأبحث عن الروابط وأعيد رسم خريطة المدينة من جديد، وأكتشف أمورًا كثيرة تحدث في هذه المدينة في السرّ، أو في الخفاء. المشي، أيضا، اكتشاف. وأنا أمشي وحيدة، من دون رفيق أو رفيقة تؤنساني. المشي علّمني كلمة الأنس. فحين أمشي وحيدة، أنتبه إلى أن الطريق يطول في بعض الأحيان، وأني أبذل مجهودًا أكبر في أن أخطو خطواتي، فأبطئ أو أسرع الخطى بحسب المزاج. غير أنه حين يصدف أن أترافق مع أحدهم في المشي، أشعر أن قدميّ أكثر التصاقًا بالأرض، وأني أكثر صلابة، وأقل وحدة، وأن الطريق ليس بطويل. وللملاحظة، فأنا منذ زمن بعيد، أشعر أني غير ملتصقة تمامًا بالأرض، وأن هناك مسافة بيني وبينها، ولا أعرف إن كنت أمشي، في محاولة مني أن أحشو هذه المسافة، أو أن أقترب من الأرض أكثر. أنتبه الآن إلى أني أكتب أكثر حين أمشي. لا أعرف، تمامًا، ما العلاقة بين المشي والكتابة، ربّما الإيقاع. الكتابة إيقاع، والمشي إيقاع، وأنا أتأرجح بين الإيقاعين، وأمشي. المدينة التي أعرفها حين أمشي تختلف عن المدينة التي يعرفها ربما أصدقائي. أنا أصادف وردة جميلة، أو صورة، أو خربشة. أصادف وجوهًا، أو زمنًا مرّ، أو انتظارًا أو عناقًا على حين غرّة، وأنا أمشي أتذكّر حادثة، أو صوتًا، أو صدفة. وأنا أمشي، أراقب أيضًا حركة الحياة. أشعر بها. لا أحب المشي في طبيعة هادئة، أو في مساحات فارغة، بل أحب الحركة. الحركة حياة فيها شيء من عدم الثبات، فيها شيء من الطمأنينة بأن الأمور تتحرك، وأن أحدهم يجرّ عربة وينادي، أو أن الأولاد أنهوا حصصهم الدراسية وخرجوا الى الحياة.
بالرغم من كل شيء، أنا أستأنس حين أمشي في مدينتي، بينما أشعر بالوحشة في مدن أخرى
وحين أمشي، أفكّر أن الحياة تخبئ لنا الكثير، وهذا ما تردده أمهاتنا مرارًا وتكرارًا "ما حدا بيعرف". وأنا لا أعرف أيضًا لماذا الأمهات قدريات أكثر منّا، وكأنهن يمتلكن السّر أو السحر، أو القدر. وأنا أمشي، أتمرّن على تقبّل القدر. لست قدرية بما يكفي. ربما أجادل الحياة كثيرًا، وأنا والحياة في جدل مستمرّ، غير أن الحياة لا تمنحني أجوبة بسرعة، فأتدرب معها على الصبر، حتى يأتيني الجواب سريعًا أو بطيئًا، أو بعد برهة، أو في الغد القريب أو البعيد. عندما كنت أصغر سنّا، كنت أكثر ميلًا لمفاهيم غير ملموسة، لا يمكن وصفها أو التقاطها، غير أن المشي ساعدني على أن ألتقط الكثير من المشاعر، أو المفاهيم المبهمة، فأصبحت أكثر وضوحًا. يجعل المشي الحب او الفرح أو الحزن أو الغضب مشاعر ملموسة، يمكن التقاطها. يجعلني ألتقط الحبّ بين يدي، أو يساعدني على أن يتسرّب الغضب من جسدي، أو أن أستأنس للحزن بدل أن يبقى الحزن موحشًا. أدرك جيدًا أن مدينة بيروت ليست صديقة للمشاة، فلا أرصفة، ولا أمان، ولا معايير سلامة، ولا جسور للمشاة عند تقاطع الطرق، ولا التزام بالاشارات الضوئية. وألاحظ جيدًا أن سائقي التاكسي في بيروت لا يدركون أن هناك مارة يرغبون في المشي فحسب، وهم ليسوا بانتظار سيارة اجرة، فلا يجد سائقو التاكسي في الأشخاص الذين يمشون في شوارع هذه المدينة سوى ركاب، يريدون أن يتصيدوهم باسرع وقت ممكن، فأنا بالنسبة إلى هؤلاء السائقين مجرد ٢٠٠٠ ليرة متنقلة. وبالرغم من ذلك، فأنا أستأنس حين أمشي في مدينتي، بينما أشعر بالوحشة في مدن أخرى. ربمّا بيروت أصبحت تعرفني، تعرف أني أمشي، منذ زمن بعيد، في محاولة مني في أن أبعد هذه الوحشة عن جسدي.