الحرب على غابات سوريا
يمكن إدراج الحرائق التي اندلعت في أحراش الساحل السوري تزامنًا مع المجازر الطائفية في سياق طويل من إضرار الحرب السورية بالغابات والأحراش. يُلقي هذا التقرير الضوء على السياق المذكور وعلى إمكانية عكس هذا الاتجاه.
يمكن إدراج الحرائق التي اندلعت في أحراش الساحل السوري تزامنًا مع المجازر الطائفية في سياق طويل من إضرار الحرب السورية بالغابات والأحراش. يُلقي هذا التقرير الضوء على السياق المذكور وعلى إمكانية عكس هذا الاتجاه.
انتشرت في الأيام الأخيرة مقاطع فيديو تُظهر حرائق كبيرة نالت ــــ وما زال بعضها ينال ــــ من أحراش مناطق الساحل السوري وغاباته، التي شهدت وقوع مجازر بدءًا من السادس من آذار/مارس 2025.
يُظهر مقطع فيديو منتشر، التقطه شخص من الفصائل المسلحة، أحد الأحراش في القرداحة بريف محافظة اللاذقية، تقف إلى جانبه مجموعة من المسلحين أضرموا النيران فيه محتفلين.
وقبل النَيل من الغابات، قامت بعض الفصائل بحرق منازل وسيارات بحسب شهادات كثيرة من الأهالي وفيديوهات نشرها مسلحون يستعرضون أفعالهم.
لا تشكّل الحرائق الحالية هذه تهديدًا بيئيًا بالدرجة الأساس، إذ إن الأحراش والغابات في الساحل السوري أصبحت اليوم ملجأ لأعداد غير معروفة ـــ حتى اللحظة ـــ من سكان المناطق التي تعرضت للمجازر. وما زالت عائلات بأكملها تختبئ هناك، دون القدرة على معرفة مصيرها.
لكن حرائق الغابات واختفاءها ليست مسألة جديدة في سوريا، ولا كانت يومًا مفصولة عن الأحداث السياسية والعسكرية منذ مطلع الحرب السورية وما شهدته من معارك واعتداءات وتأزم في الحالة الاقتصادية في أنحاء البلاد. وقد شاركت الأطراف المنخرطة في النزاع كافة في عملية إزالة الغابات، معظمها بشكل متعمّد رعته "مافيات"، بعضها كان على صلة بالنظام السابق، وبعضها على صلة بـ"هيئة تحرير الشام" وسائر فصائل المعارضة حينذاك.
كأنّ مدينة برشلونة الإسبانية وضواحيها ـــ إحدى أكبر المناطق الحضرية في أوروبا ـــ انمحت كاملةً خلال تسع سنوات من الحرب السورية. هذه مساحة الغابات التي دُمّرت في سوريا بين عامي 2011 و2019.
ليسَ التغير المناخي ـــ الذي يهدّد العالم بأسره ـــ مسؤولًا وحيدًا عن ذلك، بل المعارك والحالة الاقتصادية السيئة أيضًا، فضلًا عن الحرائق التي تركت ـــ كالحرب ـــ ندوبًا في الغطاء الأخضر وفي الذاكرة الجمعية للشعب السوري.
ففي عام 2020 وحده، الذي اكتسب صفة "عام الحرائق"، تضررت أكثر من مليون شجرة مثمرة في حرائق نالت من أربع محافظات سورية وألقت ثقلَ تأثيرها على 140 ألف شخص.
على مدى قرون، كانت غابات سلاسل الجبال الساحلية في سوريا، بنسبتها الضئيلة، تساهم في تعديل مناخ الأرض الصحراوية القاحلة التي تغطي أكثر من نصف مساحة البلاد. وتحتضنُ مرتفعات تلك الجبال غابات أشجار مهددة بالانقراض على المستوى الإقليمي مثل "الشوح السوري" و"أرز لبنان" الذي ارتبط بالمنطقة منذ ملحمة "غلغامش" في الألفية الثانية قبل الميلاد، عندما وصل إلى "جبل أرز لبنان". لكنّ الحرائق الموسمية والسنوية طالت من تلك المرتفعات واستمرت حتى وقت متأخّر من عام 2024 في زيادة خطر انقراض الأشجار والحيوانات المتنوعة فيها.
يشيع قولُ "الحروب تدمّر البشر والحجر". في سوريا تحديدًا، دمّرت الحربُ الشجر أيضًا.
شكّلت الغابات تاريخيًا ملاذًا آمنًا للجماعات المسلحة غير النظامية خلال النزاعات. ولعبت هذه الديناميكية، في سوريا، دورًا أساسيًا في المعارك، خصوصًا في غابات الشمال والشمال الغربي. ففي لجوئها إلى الغابات، أزالت المجموعات المسلحة مساحات كبيرة من الأشجار لبناء مواقع وتحصينات عسكرية. وبِعكس المعارك التقليدية حيث المواجهة المباشرة، أصبحت الحرب في الغابات محاولة للقضاء على الظلال التي توفّر غطاء للجماعات من أعين طائرات الجيشين السوري والروسي النظاميَّين قبل سقوط الأسد.
تذكُرُ دراسة لمنظّمة "باكس - PAX" الهولندية العاملة في مجال السلام إحدى الحالات الموثقة في تشرين الأول/أكتوبر 2015، حيث استخدمت روسيا نظام إطلاق الصواريخ TOS-1 في حماه. أطلقت تلك الراجمة صواريخ حرارية وحارقة على الغابات الكثيفة حيث معسكرات فصائل المعارضة المسلحة. وتسببت الصواريخ بحرائق واسعة في غاباتها جرّدتها من مساحتها الخضراء وأصبح حصاد الأخشاب فيها نتيجة ثانوية للمعارك.
الحربُ إذًا، وما تخلّلها من غارات وقصف واستخدام لأسلحة متنوّعة، كانت عاملًا أساسيًا في إحراق غابات سوريا: فأكثر من 50% من حرائق الغابات حدثت في المناطق الأكثر عرضةً للمتفجّرات والذخائر.
وفي جزء آخر من سوريا، تروي الغابات والبساتين المحيطة بمدينة تدمر التاريخية قصة مماثلة. كانت المدينة القديمة التي ولدت على أطراف واحة في محافظة حمص الآن، محاطة تاريخيًا بحزام أخضر من أشجار النخيل وبساتين الزيتون. وقد غذّى هذا الحزام الأخضر سكان المدينة. لكن الحرب لم تظهر أي اعتبار لهذا الإرث.
ففي وقت مبكر من الحرب، اختبأت قوات المعارضة في واحة تدمر، فوجّه الجيش السوري ضربات أشعلت حرائق التهمت أجزاء منها، لتصبح أرضا خصبة لقطع الأشجار، بحسب "باكس". ولم يدمّر تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" كنوزَ تدمر الأثرية فقط عندما استولى عليها عام 2015، بل وجه ضربة حارقة أخرى لواحتها. وتُركت الضربة الأخيرة لـ"عام الحرائق" الذي قضى على %60 من أشجار النخيل والزيتون الناجية، في محاولة تجريد "مدينة النخيل" (ترجمة الاسمِ الإغريقي للمدينة - بالميرا) من معناها.
في دمشق، ترتبط صورة "الغوطة" بقصصها المتكررة في مسلسلات "البيئة الشامية" كمركز للثوار السوريين خلال فترتي الاحتلال العثماني والفرنسي، وتظهر في المشاهد مساحات شاسعة من الأشجار والنباتات وبينها ينابيع. الغوطة كلمة تعني "مجتمعُ النبات والماء". وعلى الخريطة، قبل الحرب، تظهر حزامًا أخضر يلتفّ حول دمشق من ثلاثة اتجاهات.
إعادة التشجير ليست مجرد إجراء بيئي، بل يمكن أن تكون أداة لإعادة بناء المجتمعات المتضررة
شكّلت بساتين الغوطة "رئة دمشق الحيوية" قبل أن تشهد قصفًا كثيفًا من قبل جيش النظام السابق أشعل فيها الحرائق، وبعده حصارًا خانقًا لم يترك أمام المحاصَرين سوى أشجارها حطبًا للتدفئة. ومع رفع الحصار وتهجير عائلات كثيرة منها، تُركت الحقول دون رعاية، وتلوثت التربة بالذخائر غير المنفجرة. وبحلول ذلك الوقت، فقدت الغوطة %80 من غطائها الأخضر.
قد تدل نقوش شجرة الزيتون التي ظهرت في آثار مملكة أوغاريت منذ ستة قرون (في محافظة إدلب اليوم) على عمر يسبق عمر مملكة تدمر نفسها. ولأنّها تتكيف مع الظروف المناخية كافة، وتتطلب حدًا أدنى من المياه، انتشرت زراعة الشجرة في المناطق السورية كافة بما فيها الصحراوية منها.
تنتظر العائلات موسم قطاف الزيتون في شهري تشرين الأول/أكتوبر وتشرين الثاني/نوفمبر لتحضير "مونتها" من الزيتون وإنتاج الزيت الذي وضع سوريا في المركز الخامس عالميًا، والثاني عربيًا، في عام 2011 قبل تراجعه خلال سنوات الحرب، مع تراجع الغابات.
في يوم واحد فقط، في منتصف الموسم الماضي، خسرت عائلات حمص نحو 70 ألف شجرة زيتون. إذ دفعت الرياح الشرقية بألسنة عشرات الحرائق في مناطق غرب سوريا إلى آلاف الهكتارات من بساتين الشجرة التاريخية في مناطق حماه واللاذقية وحمص.
في وضح النهار، وعلى ضفاف بحيرة ميدانكي في عفرين، شمال غرب سوريا، يقوم بضعة رجال بقطع الأشجار بينما يسحب آخرون الجذوع والأغصان نحو شاحنات تنتظر تحميلها، ويعلو صوت المنشار الكهربائي في الخلفية. في فيديو آخر لا تتجاوز مدته عشر ثوانٍ، تظهر التلال المحيطة بالبحيرة جرداء تقريبًا. ويصبح المشهد أكثر فظاعة عندما يقارَن بصور قديمة تُظهر التلال خضراء.
استقبلت عفرين عددًا كبيرًا من النازحين من محيط دمشق. فوجدوا، كجميع النازحين الموزعين في أنحاء البلاد، في الغابات حطبًا بديلًا عن وسائل التدفئة مع ارتفاع سعر الوقود والكهرباء أو غيابهما، وفحمًا ليكون مصدر رزق في خضم الأزمة الاقتصادية التي ما زالوا يرزحون تحتها.
استغلّت "مافيا الخشب" أزمة النازحين والاقتصاد، فاجتاحت مجموعات التجار الغابات لتنال من أشجارها وتحتكر التجارة المحلية وتغتني على حسابها. وتحققت إحدى المنظمات من مشاركة عدد من الفصائل المسلحة في عفرين، التي تقاذفت المسؤولية، في عملية ممنهجة لقطع الأشجار ونقلها. وتؤكد المواد المتاحة، التي استُخدمت للتحقق، ضلوع الفصائل المسلحة السورية والأجنبية في تشكيل "مافيا الخشب" الذي تبيعه في سوق سوداء، سواء بغرض التدفئة أو إنتاج الفحم.
ولم تُثبت أي إجراءات قدرة على احتواء المافيا. فمثلًا، أصدر مجلس محلي (منطقة جنديرس) في عفرين قرارًا عام 2018، يقضي بالتعاون مع قوات الشرطة، ويمُنع بموجبه قطع الأشجار الحرجية في المنطقة، ولكنّ القطع استمر بتواطؤ قادة عسكريين استغلوا عناصرهم لتنفيذ هذه الأنشطة.
إلى الساحل الذي يحتضن %90 من الغابات السورية، فقد نزح نحو 1.4 مليون شخص، فزادت الحاجة إلى التدفئة التي استغلها تجار الأسواق السوداء. وتذكر بعض التقارير الإعلامية التي استندت إليها الدراسة أنّ قطع الأشجار كان يحصل غالبًا "تحت أعين الجيش السوري".
أما إدلب التي لقّبت بالمحافظة "الخضراء" لاحتوائها نسبة كبيرة من أحراش سوريا، ففقدت %60 من هذا الغطاء بفعل قطع الأشجار بعد الحرائق والقصف الذي طالها خلال الحرب. وساهم غياب جهة رسمية، في ظلّ معارك بين فصائل عدة قبل سيطرة "هيئة تحرير الشام" على إدلب ثم سوريا، في استباحة الغابات والأحراش.
هكذا، جمعت "مافيا الخشب" مستفيدين من النظام السابق وفصائل المعارضة السابقة. ومثلما كان إنكيدو الخشب يُقطع ويتم إرساله إلى نهر الفرات، يهرَّبُ الخشب من اللاذقية وعفرين إلى محافظة إدلب كي يباع في السوق السوداء، مع نسبة تذهب إلى "هيئة تحرير الشام"، برغم نشر "حكومة الإنقاذ" السابقة في إدلب ـــ تحت حكم "الهيئة" ـــ تعاميم عدّة تشدد على أهمية الأشجار. لكنّ قطعها استمرّ ـــ "بموافقة ضمنية" ـــ من قبل الفصائل المسلحة، وبمشاركة مباشرة في بعض الأحيان من مسؤولين عسكريين في عملية بيع الحطب مقابل نسبة من الأرباح.
في ظل الأثر المدمّر والمستمر لإزالة الغابات في سوريا، تقترح دراسة "باكس" توصيات تتخطى البعد البيئي لتشمل المجتمع والاقتصاد. فإعادة التشجير ليست مجرد إجراء بيئي، بل يمكن أن تكون أداة لإعادة بناء المجتمعات المتضررة. ومن خلال إطلاق مشاريع تشجير تُشرك المجتمعات المحلية وحتّى الفصائل المتورطة في قطع الأشجار، يمكن تحويل العاملين في "مافيا الخشب" إلى شركاء في إعادة التحريج، ما يضمن لهم فرصًا اقتصادية مستدامة بديلة عن سبل العيش غير المشروعة.
لكنّ التحرك الأكثر حيوية، في ظلّ تغيّر السلطة السورية، قد يكمن في التخطيط لنهج وطني شامل، على أن يتضمّن تقييمًا دقيقًا ـــ تفتقره سوريا ـــ لصحة الغابات الحالية وتحديد المناطق الأكثر عرضة للحرائق، كتلك المليئة بالذخائر غير المنفجرة، والعمل على مكافحة حدوثها أو سرعة احتوائها. ويمكن تعزيز استدامة الغابات عبر تقنيات زراعة متطورة واختيار بذور أكثر تكيفًا مع التغير المناخي في المنطقة، الذي قد يكون الضربة القاضية لما تبقى من غطاء أخضر في سوريا.