
هل دخلت يومًا إلى عيادة نفسية لتعالج شعورك بالـ"تمسحة"؟ أعرف أحدًا أخذه القلق من تبخّر مشاعره إلى العيادة النفسية. و"التمسحة"، كما أسماها صديقي، أو "التبلّد العاطفي"، كما يسمّيه علم النفس، هو مصطلح يصف النقص في التفاعل مع المشاعر التي تنتج من أحداث أو مؤثّرات محيطة بالفرد. وبالطبع، التبلّد هذا ردّ فعل على حدث أسبق، صادم أو مرهق للشخص عاطفيًا، إلى درجة تدفعه لاوعيًا إلى تفضيل عدم التعامل مع مشاعر مشابهة مجددًا.
في الآونة الأخيرة، شاهدت فيلم "حالة عشق" للمخرجة كارول منصور، فوجدتُني أُغلق عينيّ عند كل لقطة تُظهر حال المستشفيات والجرحى في غزّة. لا أقول هذا في سياق نقد المشهد العنيف، فهو في سياقه توثيق. كما أدعو الجميع إلى مشاهدة هذا الوثائقي. لكنّي أنطلق من هذه اللحظة باعتبارها مؤشرًا على عدم اعتيادي العنف بعد. وأردّ عدم الاعتياد إلى أمرين: أوّلهما معرفة هذا العدو عن ظهر قلب، فما حاجتي إلى رؤية المزيد؟ وثانيهما قراري بأن أحُدّ من المشاهدة المستمرة للفيديوهات المتدفقة من غزّة، لا سيما التي ينشرها الإسرائيليون أنفسهم، فلا يتسلل الإرهاق إلى عقلي اللاواعي ويجعلني متبلدة عاطفيًا.
أذكر أنّي فعلت الأمر نفسه عندما انتشرت فيديوهات "داعش" وفيها مشاهد قطع الرؤوس، فامتنعت عن المشاهدة. ربما رفضي التطبيع مع المشهد وقتذاك هو السبب خلف تجدّد شعوري بالحزن على سوريا، أو انتقالي من حزن إلى حزن.
لكن، برغم خشيتي من تبلّد المشاعر، لم أستطع أن أمنع سماع صوت في ذهني يوم كنت أراجع عدد ضحايا حرب تموز 2006 على لبنان: "900 شهيد فقط".
لنفترض أنّي محقة، وأن الوقاية من التبلّد العاطفي تتمثّل بالتمسك بالألم في حدود غير مرهقة لقدرة العقل، وبما يسمح لي بأن أستمر بالتفاعل مع الأحداث، من أين جاء هذا السؤال إذًا؟ متى تسلّلت الفكرة هذه إلى مكان ما في عقلي الواعي أو اللاواعي؟ هل حصل ذلك حين أُعلن رقم جرحى البايجرز الـ 3,000، في يوم واحد، وبكبسة زر واحدة؟ أم عندما اكتشفتُ أن مجمل ضحايا حرب تموز من الجرحى خلال 32 يوم هو 4,409؟
لنجرّب حزمة أرقام جديدة. خلال سنة ونصف السنة من الحرب الأخيرة على غزة، قُتل أكثر من 48 ألف شخص حتى شباط/فبراير 2025، وفق إحصائيات وزارة الصحة الفلسطينية. وهذه نسبة من العدد الفعلي الذي لا ندركه بعد. كذلك جُرح أكثر من 100 ألف. أما في لبنان، فقد أوقع العدوان الإسرائيلي أكثر من 3,400 ضحية بين أيلول/سبتمبر وتشرين الثاني/نوفمبر، وما يزيد عن 14,600 جريح خلال الفترة عينها.
سيعيد النظام العالمي ترميم صحته بعد الحساسية الحادة التي أصابته بسبب دفق مشاعر الحزن والغضب، متسلحًا بتبلّدنا العاطفي
مجددًا، هل تبادر إلى ذهن أحدكم أن هذه الأرقام هي أقل بكثير من مجموع ضحايا الحرب العالمية الثانية، فخلُص بالتالي إلى استنتاج مفاده أن التاريخ محفوف بالنزاعات التي راح ضحيتها كُثر؟
لا أملك إجابة، بل تشبيه يُسعفني على وصف هذه الحالة: أشعر أنّي في غرفة معزولة أتلقى ضربًا بالعصي على جلد عارٍ لأيام. ثم يأتي الجلاد بتمساح مفرغ من أحشائه، ويعرض عليّ أن أتقوقع داخل جلده قبل موعد الضرب. سبق أن اقتنعت أن لا مفرّ من هذه الغرفة. فلماذا أرفض جلد التمساح؟
يُعينني هذا التشبيه على اكتشاف العنصر الأهم الذي يغذي بُرعُمَ التبلّد العاطفي لدينا، برغم كل محفّزات الألم من حولنا. ففي التشبيه أكتشفُ أثر العزلة، بما تُشكّله من شعور بالوحدة والعجز وعدم المرئية.
وعدم المرئية ليست من خصائص عالمنا الحالي، بل على العكس من ذلك تمامًا. فنحن في عالم قائم على المرئية المكثّفة والصادمة، إلى حد أنها تؤدي لا إلى تعميم البلادة فحسب، بل إلى تجذيرها أيضًا. فجميعنا، من خلف شاشات الهواتف، نشعر بالعجز تجاه ما يحصل في غزّة. وحقيقة أنّي ابنة الجنوب اللبناني يضيف إلى شعور العجز هذا، وهو عجز آت من رحلة استكشاف انهيار قوة التصدي العسكري، ومتابعة التبدلات السياسية غير المعنية بتأمين حماية جذرية وعادلة من العدوان الإسرائيلي في الداخل اللبناني.
قبل فترة، حمل بنيامين نتانياهو هدية الى دونالد ترمب؛ بايجر ذهبي. الأخير استقبل الهدية بتهنئته على العملية التي أزهقت حياة العشرات وجرحت آلاف الأشخاص وهم يمارسون حياتهم اليومية كمدنيين.
على هذا النحو يتم التلاعب بحدودنا الشخصية. يبدأ المتلاعب بالتجريب. يتخطى الحدود المتعارف عليها مرة، فإن قاومنا فعلته يلتزم حدوده أو ينكفئ عنا. أما إن سمحنا بتجاوزه، فسيحاول كسر حدود أخرى، حتى ينتهي بنا الأمر جوّالين على مواقع التواصل الاجتماعي، يحكي الواحد منا للآخرين قصة تلك العلاقة السامة.
أرى أن ترمب يفعل هذا الأمر بالضبط. "يجرّب" استجابات العالم ومنظّماته الحقوقية وحكوماته المدافعة عن حق الشعوب بتقرير المصير، والتي تروّج لتشكيلة واسعة من الحقوق وتعادي أشكال العنف كافة. ينظر في مدى استجابتها لهذا التجاوز الجديد، بعدما قبِل بعضها أن احتلال العراق هو تدخل إنساني، وأن احتلال فلسطين هو تعويض عن جريمة مدويّة ليس للفلسطينيين فيها دخل، وأن النساء بطبيعتهن، مثلًا، صانعات سلام بمعزل عن أدوارهنّ في هكذا حروب.
هل الحرب للذكور فقط؟ هل مقتل النساء أعظم من مقتل الرجال؟ لماذا لا يدفع قتل 100 رجل هذه المنظمات إلى النظر في اضطرار نساء إلى سد ثغرة نقص الرجال في العائلة، فيُطحنّ في سوق عمل غير عادل، ويلعبنَ دورَي الأم والأب في آن؟
في وثائقي "حالة عشق"، يحضّرنا الطبيب الفلسطيني ـــ البريطاني غسّان أبو ستة لدفق التقارير التي تركّز على الحالة النفسية الصعبة للجنود الذين انخرطوا في ارتكاب الإبادة في غزة. سنرى في هذا الدفق عالمًا متعاطفًا معهم. تحاول تقارير من هذا النوع أن توازن بين التعاطف مع ضحايا الإبادة والتعاطف مع مرتكبيها.
سيعيد النظام العالمي ترميم صحته بالتأكيد، بعد موجة الحساسية الحادة التي أصابته بسبب دفق مشاعر الحزن والغضب. سيتوازن مجددًا، متسلحًا بتبلّدنا العاطفي. وسينجو هذا النظام الذي سمح بكل ما حدث، مستفيدًا من حاجتنا الفردية للنجاة.
لكن، ربما، في مواجهة ذلك كله، علينا إعادة النظر في دورنا: هل نحشر أنفسنا في جلد التمساح مرّة أخرى؟ أم نبحث عن أدوات مواجهة خارج نطاق تكوّرنا؟