
الحديث عن قناة "شام إف إم"، ببثّيها الإذاعي والتلفزيوني، أسهل في حضورها. لكنه، في غيابها القسري بعدما سيطرت عليها وزارة الإعلام في حكومة تصريف الأعمال، صعب لأن طبيعة الآتي غير معلوم.
و"شام إف إم" كانت قد حققت نجاحًا لافتًا على مدار سنوات، سمح لها بالوصول إلى الكثير من السوريين بمستويات ثقافية واجتماعية مختلفة وتوجهاتهم سياسية متنوعة، فاحتلت عام 2020 أحد أبرز مصادر الأخبار السورية وفق دراسة نشرتها منظمة Free Press Unlimited.
توقّفت الإذاعة عن البثّ نهائيًا منذ الرابع عشر من كانون الثاني/يناير، فيما القناة الفضائية تواظب على بث بعض أغاني فيروز المتعلِّقة بالشام، لا سيما أغنية "يا شام عاد الصيف متَّئدا وعاد بي الجناح" التي طبعت بدايات أثيرها الإذاعي. بدا في الأمر حنين للبدايات، ولأصوات تغلغلت في علاقة القناة بجمهورها، داخل سوريا وخارجها. وربما كانت تلك محاولة للمكابرة على الغياب الصعب المفروض قسرًا.
ما حصل مع "شام إف إم" وغيرها هو استئثار بالسلطة الرابعة وتسلّط على منابرها من جانب وزارة الإعلام في حكومة تصريف الأعمال، في مسعى لدفنها أو كتم صوتها أو صبغها باللون الواحد تحت ذرائع شتى، منها أن "شام إف إم" كانت مملوكة بنسبة 75% لرامي مخلوف ابن خالة الرئيس السابق، قبل أن نتنقل تلك النسبة إلى يسار إبراهيم بعد إقصاء مخلوف عن المشهد. ومع إسقاط النظام فُرض نقل الملكية إلى أحد أركان وزارة الإعلام الجديدة، وتاليًا بات من حق الوزارة التحكم في آلية إدارة القناة، ومن ذلك إقصاء مديرها ومؤسسها سامر يوسف.
ولم يتوقف الأمر عند ذلك، بل سيطرت وزارة الإعلام في حكومة تصريف الأعمال أيضًا على حسابات وسائل التواصل الاجتماعي الخاصة بالإذاعة، وكذلك على ترخيص البث الفضائي للقناة، وهو ما لا علاقة له بمخلوف ولا ابراهيم نهائيًا، ما حدا بالعاملين من مذيعين ومعدّين ومحررين في القناة إلى تقديم استقالات جماعية، نظرًا لعدم استبشارهم خيرًا بمستقبلها، لا سيما بعد أن خضعت لإيقاف سابق عن العمل يوم التاسع من كانون الأول/ديسمبر الماضي، ما أوجد آنذاك موجة تضامنية واسعة لخّصها هاشتاغ "#الحرية_لشام_إف_إم"، دفعت وزارة الإعلام إلى التراجع عن قرارها في الحادي والعشرين من الشهر ذاته.
وبرغم العودة عن القرار السابق، ظلّ التوتر سيد الموقف، في ظل غياب رؤية إعلامية واضحة لدى الإدارة الجديدة، وظهور تسريبات شبه مؤكدة مفادها أن القناة ستستمر في العمل بعد ترميم الكادر المتبقي ببعض المحررين والمعدّين والمقدمين الجدد.
غير أن السؤال الآن يبدو: هل ستحافظ القناة بعد إعادة هيكلتها على جمهورها نفسه، من دون أن يشعر هذا الجمهور بالاغتراب عما أَلِفه فيها منذ إشعال شمعتها الأولى عام 2007، أم أن الانتشار الواسع الذي حققته على مساحة الجغرافيا السورية ستذروه رياح التغيير؟
مع إغلاق القنوات والإذاعات السورية الخاصة بسبب ولائها للنظام السابق، بات المشهد الإعلامي شبه فارغ ويُخشى ملؤه مجددًا بلون إعلامي واحد
"شام إف إم" و"شام تي في"، كفرعين لمؤسسة واحدة، استطاعا جمع فئات متمايزة من الجمهور، وذلك من خلال نشرات المؤسسة الإخبارية ومواجيزها وأخبارها العاجلة، وعبر مجموعة كبيرة من المراسلين الذين غطّوا أوسع مساحة جغرافية متاحة لوسيلة إعلامية داخل مناطق سيطرة النظام السابق. إذ وصلت تغطياتها في عز الحرب إلى مناطق سيطرة "قوات سوريا الديمقراطية"، وكانت لها بعض المصادر من مدينتي إدلب وعفرين المحجوبتين عن وسائل إعلام الداخل السوري، إلى جانب قدرتها على الوصول إلى الجولان المحتل.
وقد ترافق مع هذا الاتساع سعي للتركيز على النواحي الخدمية في برامجها الحوارية التي تناقش فيها هموم المواطنين المعيشية، حتى صارت في مرحلة ما هي صوت بعضهم في مواجهة مكامن الخلل التي تعاني منها القطاعات الحكومية المختلفة، ورسولهم إلى القائمين على صنع القرار في شؤونهم الحياتية المختلفة، فهل ستتمكن الإدارة الجديدة من تحقيق الانتشار ذاته للقناة، والاحتفاظ بتوفيقيتها مع البقاء على جدليتها في مواجهة أداءات حكومة تصريف الأعمال؟
ومن الأسئلة التي تُطرح على من استلم زمام الأمور في "شام إف إم"؛ ما الذي ستصنعه بفيروزيّات الصباح والمساء؟ وهل ستواظب على بث مسرحيات الرحابنة؟ وكيف ستتعامل مع أرشيف القناة الذي غذّته الإعلامية هيام حموي بلقاءات مع شخصيات ثقافية وفنية متنوعة ومع برنامجها "نثرات من ذهب الزمان" الذي قدَّمته بالشراكة مع الفنان عثمان حناوي؟ وما هي السياسة الخاصة بالبرامج الترفيهية؟
هذه الأسئلة وغيرها مشروعة بعد إغلاق القناة الذي يبدو أنه مؤقت (علمًا أن "شام إف إم" تعرَّضت سابقًا للإغلاق عام 2010 بسبب انتقادها الأداء الحكومي، تحت سقف النظام بطبيعة الحال). وما يزيد من إلحاح الأسئلة أن المنظومة الإعلامية، الرسمية والخاصة، أُسقطت مع سقوط النظام لحاجتها - بحسب وزير الإعلام في حكومة تصريف الأعمال محمد العمر - إلى إعادة هيكلة تُتيح الخروج بإعلام "يليق بمرحلة ما بعد التحرير".
لكن في ظل عدم الثقة بعشرات، وربما مئات الإعلاميين السوريين الأكفاء، والاكتفاء بإعلاميي إدلب "الثوريين" على اعتبار أنهم الأقدر على تحقيق النهضة الإعلامية المأمولة في سوريا الجديدة، وهو ما تشير إليه اجتماعات وزير الإعلام المغلقة، أصبحنا بلا إعلام دولة نهائيًا، إلا إذا قصرنا الحديث على بعض قنوات "تليغرام" و"فيسبوك".
ومع إغلاق القنوات والإذاعات السورية الخاصة وإيقاف عملها بسبب ولائها للنظام السابق وتبييض صفحته، بات المشهد الإعلامي شبه فارغ ويُخشى ملؤه مجددًا بلون إعلامي واحد يُعفي نفسه من ممارسة سلطة رقابية على أداء الإدارة الجديدة للدولة السورية، ويكتفي بالدفاع عنها، سواء أخطأت أم أصابت. وفي الأثناء تخفت الأصوات المخالفة في التوجه أو النبرة، بما في ذلك صوت "شام إف إم" التي قد نشهد عودة قريبة لها من غيابها القسري، لكن بحلة جديدة.