من دمشق: عن "سبعة أيام غيّرت سوريا"
"ما عنا رواية واحدة للي عم يصير.. حاليًّا في 23 مليون حكاية مختلفة". هذه مشاهد نرويها، من دمشق، عن أجواء الأيام الأخيرة قبل سقوط النظام.
"ما عنا رواية واحدة للي عم يصير.. حاليًّا في 23 مليون حكاية مختلفة". هذه مشاهد نرويها، من دمشق، عن أجواء الأيام الأخيرة قبل سقوط النظام.
2024/11/30
"إذا استعجلنا شوي ممكن نلحق الحدود قبل ما يرجع قرار تصريف المية دولار"، يقول السائق، ثم يزيد السرعة قبل أن أُبدي موافقتي أو رفضي.
نصل إلى النقطة الحدوديّة في ربع الساعة الأخير من اليوم (حرفيًّا). الحركة شبه معدومة في الاتجاهين: لا أحد يدخل سوريا، ولا أحد يخرج منها. نُنهي الإجراءات الروتينية خلال بضع دقائق، ثم ننطلق نحو دمشق.
2024/12/1
"حبيبي اكتشفت إنو نحن متواعدين قريب من السفارة الإيرانية، بلاها هالوقفة، مشيت لقدام شوي، وناطرك على جنب"، يقول صديقي ضاحكًا في رسالة صوتيّة عبر تطبيق "واتساب"، ويتصرّف قبل أن أُبدي رأيي.
تصل السيارة إلى أوتوستراد المزة في الساعة الأولى من اليوم. أنتقل إلى سيارة صديقي، ثم ننطلق في ليل دمشق الهادئ. نتبادل كلامًا سريعًا عن الأوضاع. أكرر أسئلتي عن أحوال دمشق في ضوء أخبار حلب، فيعيد صياغة إجابات سبق أن سمعتها منه مع شيء من التوسع.
كانت الأحداث في حلب سريعة جدًّا إلى حدّ أن كثرًا في دمشق لم يسمعوا بها في اليوم الأوّل. تاليًا، ومع خروج المدينة عن سيطرة دمشق، راح الشارع يضج سريعًا بالنبأ، مع تأويلات وتحليلات لا يكاد أيّ منها ينسجم مع أي منطق، وسط غياب تام لأي تفسير أو معلومة رسميّة في "وفاء" منقطع النظير لنهج السلطة في التعتيم على كل شيء.
على امتداد اليوم، التقيت بكثير من الأصدقاء والمعارف من شتى الطبقات والأهواء. كان لافتًا على نحو غريب أن عدم الفهم هو الرابط المشترك بين الجميع.
"هات لشوف، احكيلي شو صار، وشو بدو يصير؟" بهذا السؤال ابتدأ لقائي مع واحد من أهم وأبرز وأدقّ مصادر معلوماتي على امتداد سنوات طويلة. الغريب أنّي لم أكن من طرح السؤال!
"بدك تقنعني إنك ما بتعرف؟" أقول، فيجيبني بجديّة مطلقة: "أقسم بالله ما بعرف، يمكن ما حدا بيعرف ولا حتى هو"، ثم يشير إلى صورة للرئيس السابق بشار الأسد معلقة في صدر المكتب كما جرى العرف.
كنت قد تلقيت في اليومين الأخيرين كثيرًا من المعلومات عمّا حصل ليلة دخول حلب تحت عباءة "غرفة ردع العدوان" ومن أطراف شتّى، لكنّي كنت أسعى إلى إكمال الصورة. لم يكن أحدٌ ليتصوّر يومها أنّ المشهد ذاته سيمتد ليشمل حماة، ثم حمص، ثم دمشق، وكامل الجغرافيا السورية.
اليوم، إذ أحاول أن أستعيد كل الكلام الذي قلته وسمعته بحثًا عن أهم ما جاء فيه، تقفز جملة بعينها قالها لي سائق سيارة أجرة: "المدفع مو حل".
2024/12/2
كان الزحام كثيفًا في معظم الشوارع وسط دمشق. زحام بمختلف أنواعه: حركة السيارات، والمشاة، زبائن المطاعم، والمقاهي.. وعلى مداخل بعض الشوارع الحساسة كان من السهل تبيّنُ العديد من عناصر الأمن بملابس مدنية.
يرفض صديق عتيق التفوه بأي كلمة تتعلق بالوضع العام إلى أن نصل سيارته المركونة على طرف أحد الشوارع الفرعية. يقود السيارة بعيدًا عن وسط العاصمة، ثم يقول: "عم يجهزو معركة كبيرة كتير، الله يستر".
يبوح لي الصديق بمصادر معلوماته، نحاول معًا ربط بعضها ببعض، نضع تصوّرات وسيناريوهات، تختلف وجهات نظرنا حول الساحة المفترضة للمعركة المزعومة: هل ستكون حماة؟ أم حمص؟
بعد ساعتين، أسمع في جلسةٍ جمعتني بخمسة أشخاص في واحد من أفخم فنادق العاصمة إجماعًا على أنّ "المرحلة ليست مرحلة معارك"!
يجهدُ كلّ منهم في تقديم مسوّغات لرأيه، ويقدم بعضهم معلومات استقاها من مصادر مختلفة. يمضي اليوم على ذلك المنوال، أسمع نظريات وآراء عديدة، شديدة التناقض إلى حدّ يمكنني الزعم أنه غير مسبوق. كانت المؤشرات كثيفة جدًّا على الشيء ونقيضه طوال الوقت.
في الساعة الأخيرة من ذلك اليوم، استوقفتني سيدة أمام باب المصعد داخل فندقٍ صغير كنت قد اخترت المكوث فيه. كانت الدموع تغمر وجهها، بينما تُمسك باضطراب أطراف حجابها التقليدي وتسألني: "إنت من حلب؟". أرد بالإيجاب، فتسأل: "بتعرف إيمت بدو يفتح الطريق"؟
كانت السيدة قد وصلت قبل أيام في زيارة هي الأولى إلى البلاد منذ خروجها قبل خمس سنوات، وقبيل توجهها إلى حلب لرؤية والدتها التي تُحتضر، اختلط الحابل بالنابل، وصار الذهاب أمرًا متعذرًا. تقول بحرقة: "يمكن ما ألحق شوفها قبل ما تموت، بس إذا ما بشوفها قبل ما يدفنوها بدي أنجلط".
2024/12/3
في هذا اليوم بدا لي أن القلق بات حاضرًا بشدة في جميع تفاصيل الحياة، بعدما تبيّن أن ما حصل في حلب لم يكن مجرد محطة سيليها هدوء ولو مؤقّت. كانت دمشق في النصف الأول من اليوم شديدة الازدحام، بينما كادت بعض الشوارع تخلو من المارّة في فترة ما بعد الظهيرة، وانفضاض الموظفين والطلبة من دوامهم.
أنطلق مع صديقةٍ نحو مبنى دائرة الهجرة والجوازات، هي لإنجاز معاملة تخصها، وأنا بدافع الفضول البحت. بعد الخروج أقول لصديقتي: "يمكن اختصار كل ما التقطتُه من معطيات في هذه الزيارة بعبارة واحدة: هذه دولة منخورة حتى النخاع، وربما لم تعُد تحتمل هبّة هواء واحدة". تجيب ضاحكة: "الله يستر، الشتاء لسة ما بلش، تف من تمك، بركي بتتحمل كم شهر لحتى سافر".
بعد ساعات، يدخل أحمد مكتب صديقه في جرمانا منضمًّا إليّ وأربعة أصدقاء آخرين، وهو يصرخ بتوتر: "رح تخرب أكتر ما هي خربانة يا شباب". يستفيض الشاب في قصّ العديد من الأنباء والمعلومات الي وردته من مصادر مختلفة، بعضها أهلي، وبعضها رسمي، أو على صلة بجهات رسميّة.
يومذاك؛ كان أقصى سيناريو وصلت إليه توقعات المجموعة "نرجع للـ 2013"، مع ما يعنيه ذلك من احتدام للمعارك، واستنفارات أمنيّة تجلب معها المزيد من التضييق.
"امبارح شفتو بمنامي عم يتنحّى، وخفت كتير، فقت واكتشفت إنو دموعي مغرقة المخدة، وصرت أضحك من حالي ومن سذاجة أحلامي"، يقول صديقٌ بينما نتجول سيرًا في حواري دمشق القديمة أواخر ذلك اليوم.
2024/12/4
كان هذا اليوم روتينيًّا إلى درجة مدهشة. تأقلم الناس سريعًا مع حالة الترقب والقلق، وعاد الازدحام إلى عديد من المقاهي والمطاعم والمحال التجاريّة. بدا واضحًا أن التفكير في وصول مدّ التغييرات السريعة إلى دمشق خارج تصورات الجميع، لا سيّما مع الضخ المكثف لمعلومات مزعومة عن "استعادة التوازن العسكري"، وعن خطط مضادّة.
كاد معظم من التقيتهم في ذلك اليوم يُجمعون على أنّ مدعاة القلق الوحيدة هي استمرار سعر صرف الليرة بالتهاوي، مع ما يعنيه ذلك من موجة غلاء فاحشة ومتسارعة.
مع نهاية هذا اليوم، عاد فراس (اسم مستعار) وعائلته إلى حلب بعد رحلة طويلة وشاقّة. كانت العائلة قد حاولت الخروج من حلب إلى حمص مدفوعة بالخوف من الأيام القادمة في حلب، بين مخاطر قصف الطيران الذي كان متوقعًا، والخشية من سلوك "هيئة تحرير الشام" إذا ما استقرت سيطرتها بشكل نهائي على المنطقة.
أمضت العائلة أربعين ساعة بين طرق شاقة ووعرة، قبل أن تجد نفسها وعائلات أخرى في نهاية المطاف أمام خيار وحيد: العودة إلى حلب.
على تخوم المدينة، أوقف عنصر على أحد حواجز "غرفة عمليات ردع العدوان" السيارة وطلب هويتي السائق وفراس دونًا عن النسوة.
ثم سأل فراس: "خدمت جيش؟ ووين؟"، وحين أجابه بالقول إنه وحيد وهو بالتالي معفى من الخدمة الإلزامية، طلب منه أن يُقسم يمينًا على صدق كلامه. ثم سمح بعد اليمين الغموس بمرور السيارة.
2024/12/5
موجة رصاص كثيف كانت كفيلة بقلب العاصمة رأسًا على عقب. يمكنني القول بيقين شبه مُطلق إن الساعة الرابعة من عصر هذا اليوم كانت "بداية النهاية".
قبلها، كانت الصورة مشابهة للأيام السابقة، اهتمامات الناس موزعة بين التفكير في لقمة العيش والركض وراء قوت اليوم، وبين السؤال عن أخبار حماة وريفها، وحمص وريفها، والاستعداد النفسي لمرحلة جديدة من المعارك التي كان متوقعًا أن تصل العاصمة.
تغير كل شيء حين سُمع صوت الرصاص كثيفًا في حي المالكي، وتردد صداه في كامل دمشق سريعًا. خيّم شبح فكرة الانقلاب العسكري سريعًا، ورغم أن وسائل إعلام محلية أوردت نبأ عن أن "صوت الرصاص ناجم عن التصدي لطائرة مسيّرة"، لم يخف الذعر، بل تضاعف، فالخبر يعني أن المُسيّرة في هذه الحالة استهدفت القصر الجمهوري الذي كان ومحيطه مصدر صوت الرصاص الكثيف.
اضطربت شوارع دمشق سريعًا، عمّ زحام مفاجئ وكثيف كثيرًا منها، شاهدتُ عائلات بأكملها تركض ذاهلة عمّا حولها، باصات النقل الداخلي مكتظة بينما يتعلق العديد من الشباب بأبوابها المفتوحة. العديد من السيارات الفارهة دارت محركاتها وانطلقت سريعًا في أحياء المالكي، وأبو رمانة، والشعلان.
قررتُ بدوري أن أعجّل مغادرتي دمشق نحو بيروت، فلديّ طائرةٌ عليّ اللحاق بها صباح السبت، ولم يكن واردًا أن أغامر بالتروّي بعد أن حدستُ بأن الحدود ستشهد اكتظاظاً متزايدًا، ولم أستبعد أن تُغلق تبعًا لما ستتكشف عنه الأخبار من مجريات.
قبل أن ينتهي اليوم وصلتُ معبر المصنع الحدودي، كان الزحام قد بدأ بالفعل، وبدا واضحًا أنه "زحام VIP" من خلال أنواع السيارات وسنوات صنعها.
أصل بيروت ليلًا، أستمر في التواصل مع أصدقاء وصديقات تركتهم يجولون شوارع دمشق للوقوف على التطورات. تصلني تعليقات عديدة: "شي بيشبه يوم القيامة"، "الناس سكارى وما هم بسكارى"، "مرعوبين كتير"، "ما في شي، شوية عجقة عادية"، "بلشت الناس تهدا".
أستعين بالصديقة الصحفية زينة شهلا طالبًا رأيها بتناقض ما يصلني، فتختصر الأمر بجملة واحدة: "ما عنا رواية واحدة للي عم يصير.. حاليًّا في 23 مليون حكاية مختلفة".
2024/12/6
استيقظ من نام من أهالي دمشق على مزيد من الأسئلة. بين الحيرة والخوف والترقب أمضى الناس يوم الجمعة، بدأت أنباء التزاحم على محال السلع الغذائية تتوارد، وتزايدت كثافتها مع تتالي الأنباء عن تحركات في بعض ضواحي دمشق، وعن تحرك لمجموعات عسكرية معارضة من درعا نحو دمشق.
بدأت فكرة "سقوط النظام" تبدو أكثر احتمالًا في أذهان عديدة من دون المغامرة في الحديث عنها علانية. وسط نقاشات عديدة خضتها عبر تطبيقات التواصل ثمة عبارات بعينها أرسلتها الصحافية زينة شهلا أعدتُ قراءتها عشرات المرات في اليومين الأخيرين: "اليوم مرّيت جنب فرع الخطيب. نمت فيه شهرين.. فكرت إذا راحوا العساكر وانفتح شو ممكن أعمل؟ خفت كتير وصرت أبكي".
2024/12/7
لن ينتهي هذا اليوم قبل أن يتغير كل شيء، لكن البلاد حتمًا لن ترتاح في اليوم السابع!