سوريون بلا خيار: العودة القسرية إلى وطن مدمّر
العودة القسرية للاجئين السوريين إلى وطن مدمر ليست مؤشرًا لبناء السلام ولا حلًا لمشكلة اللجوء. لا يمكن ترك عبء إعادة دمج وتأهيل العائدين على عاتق سوريا وحدها، بل هذه مسؤولية تقع على عاتق الجميع.
العودة القسرية للاجئين السوريين إلى وطن مدمر ليست مؤشرًا لبناء السلام ولا حلًا لمشكلة اللجوء. لا يمكن ترك عبء إعادة دمج وتأهيل العائدين على عاتق سوريا وحدها، بل هذه مسؤولية تقع على عاتق الجميع.
بعد أكثر من 13 عامًا من الهجرة القسرية التي اختبرها السوريين نتيجة الصراع في سوريا، لم يترك عدوان إسرائيل الهيستيري على لبنان أمامهم خيارًا آخر سوى اختبار الهجرة القسرية للمرة الثانية، لكن ليس إلى دولة ثالثة مستقرة، بل إلى وطنهم سوريا الذي ما زال في قلب صراع تسبّب في هجرتهم الأولى.
ولم تتغير الظروف بشكل كافٍ لجذبهم للعودة إلى سوريا، بل ضاعفت التطورات الأخيرة في حلب من هشاشة الأوضاع، في ظل ظروف عامة تتسم بالأمن النسبي، ودمار الاقتصاد والبنية الأساسية.
وبرغم أن العودة إلى الوطن هي الحل المفضّل من قبل لبنان والمنظمات الدولية، إلا أن هذه العودة تختلف عن أي عودة سابقة أو مأمولة. إذ كانت عنيفة وقسرية وسابقة لأوانها، حيث ما زال قسم من العائدين غير متصالح مع وطنهم، وقسم آخر لا يعرف وطنهم (الأطفال والشباب). كذلك فإن وطنهم ليس مهيئًا لاستقبال هذه الأعداد من العائدين، حيث تعاني سوريا من أزمة إنسانية حادّة تنعكس في ارتفاع معدلات الفقر وانعدام الأمن الغذائي والبطالة وتدهور المستوى المعيشي.
وفي الوقت الذي قد تخفف فيه هذه العودة العبء عن لبنان الذي لطالما اشتكى من وجود السوريين على أراضيه، فإنها تلقي بعبء إضافي على سوريا غير القادرة أساسًا على تلبية احتياجات السوريين المقيمين على أراضيها.
هذه العودة تحمل في طياتها تحديات اقتصادية واجتماعية كبيرة ومعقدة، خصوصًا أنها أكبر وأسرع عملية عودة غير منظمة في التاريخ. فمنذ 23 أيلول/سبتمبر، دخل إلى سوريا أكثر من 500 ألف شخص غالبيتهم سوريون. انطلاقًا من هنا، يصبح فهم الآثار المترتبة عن هذه العودة أمرًا مهمًا.
ستزيد هذه العودة القسرية الكبيرة من الضغوط الديموغرافية على الموارد المحدودة في سوريا
أولًا، لطالما أشارت دراسات وأبحاث إلى إيجابية عودة المهاجرين على اعتبار أنها تؤدي دورًا محفزًا لاقتصاد البلد الأم، ربطًا بما يحضرونه من معارف ومهارات ورأسمال. لكنّ حالة السوريين العائدين من لبنان مختلفة، فهؤلاء يحملون معهم عبء سنوات من الحرمان والفقر. وقد واجهوا قيودًا شديدة على أنواع الأنشطة الاقتصادية التي يمكنهم المشاركة فيها وكذلك على حركتهم في لبنان، واضطروا للعيش في مخيمات، وضيّقت الحكومة اللبنانية على الأطفال السوريين لناحية الحصول على حقهم في التعليم.
لذلك، كان غالبية هؤلاء يعتمدون إلى حد كبير على المساعدات الدولية. وقد تركت هذه القيود آثارًا عميقة على قدراتهم المستقبلية، خصوصًا من ينتمي منهم للجيل الجديد. فبدلًا من تشكيلهم قوة عاملة منتجة، ها هم يعودون مثقلين بأعباء اقتصادية واجتماعية كبيرة، ويفتقرون إلى المهارات والمعارف التي تفيدهم في تحسين مستوى معيشتهم، ما يجعل اندماجهم في الاقتصاد أمرًا صعبًا، ويجعلهم بأمس الحاجة إلى المساعدات والدعم.
ثانيًا، برغم الأمل الذي يحمله السوريون في العودة إلى ديارهم، تُعتبر العودة الحالية، في ظل استمرار الصراع والتهديدات الخارجية، مغامرة محفوفة بالمخاطر، وقد تحوّل حلم العودة إلى كابوس جديد. فهم لا يعودون إلى وطن آمن، بل إلى ساحة صراع نشط، إلى وطن لا يوجد فيه سلام يمكن الحفاظ عليه، أو استقرار هش في أفضل الأحوال. وهو ما يعرّض العائدين للخطر في ظل غياب مرتكزات العودة الآمنة والكريمة، ويجعل من الصعب توفير احتياجاتهم الأساسية لهم. هذا الوضع يهدد بجعلهم نازحين داخليًا (عائدين قسرًا) بعدما كانوا لاجئين (مهجّرين قسرًا).
ثالثًا، ستزيد هذه العودة القسرية الكبيرة من الضغوط الديموغرافية على الموارد المحدودة في سوريا، خصوصًا الطاقة والغذاء وفرص العمل، ما يهيئ ــــ إلى جانب عوامل أخرى ــــ لنشوء موجة هجرة جماعية جديدة من الكفاءات والخبرات التي تحتاجها سوريا لإعادة البناء.
لا يمكن ترك عبء إعادة دمج وتأهيل العائدين على عاتق سوريا وحدها، بل هذه مسؤولية مشتركة تقع على عاتق الجميع
والحقيقة الأكثر مرارة هي أن السوريين العائدين لا يعودون إلى الوطن الذي عرفوه، بل إلى بلد دمرته الحرب وأصبح غريبًا عليهم. حيث فقدوا منازلهم وممتلكاتهم وأحباءهم، وتحطمت شبكاتهم الاجتماعية، ما يجعل عملية إعادة الاندماج في المجتمع أكثر تعقيدًا. فهم يعودون إلى واقع جديد مليء بالصعوبات والتحديات. وهذا يفرض على المجتمع الدولي والحكومة السورية مسؤولية مشتركة لجهة وضع سياسات وبرامج شاملة خاصة بالعودة وإعادة الإدماج:
1- في ظل عجز الموارد العامة للدولة، وتدهور الأمن الاقتصادي والغذائي والهشاشة البنيوية للمجتمع السوري، وغياب سياسات تنمية مستدامة؛ يصبح دور المساعدات الدولية ضخمًا وحاسمًا، وهو ما يفرض على المنظمات الأممية والجهات والدول المانحة التعامل مع العودة القسرية باعتبارها القضية المركزية الأكثر إلحاحًا، وهذا يتطلب إعادة تخصيص أموال المساعدات الإنسانية التي كانت تذهب للسوريين المهجرين في لبنان إلى السوريين العائدين.
2- لكنّ ضعف الموارد العامة للدولة في ظل عدم وفاء المنظمات الدولية بتعهداتها لتلبية الاحتياجات الإنسانية للسوريين، لا يعتبر مبررًا لحرمان العائدين من الدعم والمساعدة، ولا يعفي الدولة السورية من مسؤولياتها في تصميم استراتيجية إعادة تأهيل تستجيب للظروف المحلية. هذه الاستراتيجية ستحمي الدولة من خطر الانزلاق إلى دهاليز الصراع المختلفة، فعودة السوريين لا تعني بالضرورة استعادة رابط الثقة والولاء بين المواطن والدولة، وهو ما يفرض على الدولة مساعدة العائدين ودعمهم لاستعادة استقلالهم الذاتي وقدرتهم على البقاء، والحد من ضعفهم.
3- إن العودة القسرية إلى وطن مدمر ليست مؤشرًا لبناء السلام ولا حلًا لمشكلة اللجوء، بل على العكس تشكل تهديدًا للاستقرار. وقد تكون بداية لصراع وعنف محتملين، فلا يمكن إغفال عمق الجروح النفسية والاجتماعية التي واجهها العائدون وما زالوا، بعد تجربة مواقف هددت حياتهم، بداية في بلدهم الأصلي، ولاحقًا خلال سنوات من الغربة والتهميش في بيئة اجتماعية مختلفة عنهم تستبطن لهم مشاعر معادية، وصولًا إلى العودة إلى وطن تغيرت معالمه. يجب وضع حلول شاملة، ومضاعفة الجهود لإعادة تأهيل العائدين. وإعادة تأهيلهم تتطلب أكثر من مجرد توفير مأوى مؤقت وغذاء، بل دعمًا نفسيًا واجتماعيًا لمساعدتهم على تجاوز هذه الصدمات وبناء حياة جديدة، وتدريبهم على المهارات اللازمة لسوق العمل، وتوفير فرص عمل مناسبة، وإعادة تأهيل البنية التحتية، وضمان حصولهم على الإسكان الميسور التكلفة.
وعليه، لا يمكن ترك عبء إعادة دمج وتأهيل العائدين على عاتق سوريا وحدها، بل هذه مسؤولية مشتركة تقع على عاتق الجميع. على المنظمات الدولية والدول المانحة والمجتمع المدني أن تضاعف جهودها وتعمل معًا لبناء مستقبل أفضل للشعب السوري. مستقبل يضمن عودة كريمة وآمنة لجميع العائدين، ويفتح الباب أمام إعادة إعمار سوريا. فهل المجتمع الدولي مستعد لتحمل مسؤوليته الإنسانية؟