حرب إسرائيل ضد المحكمة الجنائية الدولية
تتعرّض المحكمة الجنائية الدولية الناظرة في جرائم الحرب على غزة إلى ضغوط مختلفة، نستعرض أبرزها في هذا التقرير، علمًا أن محاولات تطويع المحكمة تعود إلى ما قبل حرب غزة بسنوات.
تتعرّض المحكمة الجنائية الدولية الناظرة في جرائم الحرب على غزة إلى ضغوط مختلفة، نستعرض أبرزها في هذا التقرير، علمًا أن محاولات تطويع المحكمة تعود إلى ما قبل حرب غزة بسنوات.
بعد عشرة أيّام من بدء الحرب على غزة، أعلن المدعي العام لدى المحكمة الجنائية الدولية كريم خان أنّ لها تحقيقًا جاريًا ــــ منذ سنوات ــــ في الوضع القائم في دولة فلسطين، التي انضمت إلى المحكمة عام 2015. ودعا خان من يملك معلومات متعلقة بالأحداث في فلسطين وإسرائيل إلى تقديم إفادته. ثم باشرت المحكمة متابعة التحقيق والنظر في المعلومات المقدمة بشأن الجرائم المرتكبة في الحرب على غزة.
في منتصف نيسان/أبريل 2024، عُقد اجتماع طارئ لوزراء إسرائيليين بعد "ورود معلومات استخباراتية إلى إسرائيل"، تفيد بأنّ إصدار أوامر اعتقال بحق رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو ومسؤولين سياسيين قد يكون وشيكًا، على خلفية اتهامات بانتهاك القانون الدولي فيما يتعلق بالوضع الإنساني في غزة.
انتهى الاجتماع بقرار السعي إلى الحصول على مساعدة من "دوائر دبلوماسية دولية مؤثرة" للوقوف ضد أي محاولة لإصدار أوامر الاعتقال.
بعد الاجتماع، بدأت التهديدات والتأثيرات ــــ الأميركية والإسرائيلية ــــ تظهر إلى العلن. ولم يتأخّر صدور تهديد أميركي مباشر للمحكمة عبر أعضاء في الكونغرس من الحزبين "الجمهوري" و"الديمقراطي"، تمثّل برسالة تحذير إلى خان، يعتبرون فيها أنّ إصدار أوامر الاعتقال تلك سيعتبر تهديدًا لسيادة إسرائيل وسيادة الولايات المتحدة الأميركية على حد سواء.
وقد أورد أعضاء الكونغرس تهديدًا مباشرًا للمدعي العام: "استهدف إسرائيل لنستهدفك"، مع إشارة إلى إمكانية وقف الدعم الأميركي للمحكمة، ووضع عقوبات على موظّفيها وشركائها، وحظر دخول المدعي العام وعائلته إلى الولايات المتحدة.
أمّا إسرائيل، فلوّحت بإجراءات انتقامية ضد السلطة الفلسطينية قد تؤدي إلى انهيارها. وفي الأول من أيار/مايو، طالب نتنياهو بشكل صريح "قادة العالم الحر بالوقوف الحازم ضد الاعتداء الشنيع للمحكمة على حق إسرائيل المكتسب في الدفاع عن نفسها"، داعيًا إلى استخدام الوسائل المتاحة كافة لوقف هذا "التصرف الخطير".
وردًّا على ذلك، ناشد مكتب المدعي العام لدى المحكمة إنهاء الترهيب ضد موظفيها، معتبرًا أنه يشكّل جريمة ضد "إدارة العدالة". ودعا المكتب إلى وقف فوري لجميع محاولات "التأثير غير اللائق".
ومع توسّع التهديدات للمحكمة وموظّفيها، أعربت رئاسة جمعية الدول الأطراف في نظام روما الأساسي (النظام الذي تستند إليه المحكمة)، في 17 أيار/مايو، عن قلقها إزاء التصريحات العلنية المتعلقة بالتحقيق الجاري، واعتبرت أنّ بعضها "يُعتبر تهديدًا بالانتقام موجهًا ضد المحكمة ومسؤوليها".
أمّا طلب خان إلى الغرفة التمهيدية الأولى للمحكمة بإصدار مذكرتيْ توقيف بحقّ رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع حينذاك يوآف غالانت، فلم يُعلن عنه إلا في 20 أيار/مايو. وجاء الطلب على خلفية تحقيقات المحكمة التي خلصت إلى وجود شبهات بارتكاب المذكورَين جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية، "أقلّه منذ 8 تشرين الأول/أكتوبر 2023"، وخصوصًا لناحية التسبب بمعاناة المدنيين في غزة وتجويعهم.
وزادت حدّة الضغوط بعد هذا الطلب، ما دفع 93 دولة عضو في المحكمة الجنائية الدولية إلى إصدار بيان، في 15 حزيران/يونيو، تدعم فيه عمل المحكمة "دون ترهيب"، وتجدّد تأييدها للمبادئ والقيم التي يكرّسها نظام روما الأساسي، وتدعو للحفاظ عليها في مواجهة "أي تدخل أو ضغطٍ سياسيين".
ويبدو أن إسرائيل نجحت في عرقلة البت بطلب إصدار أوامر الاعتقال. إذ قرّرت المحكمة، في تموز/يوليو، تأجيل إصدار مذكرتي الاعتقال بعد طلب أكثر من 60 دولة ومنظمة ذلك من أجل عرض اعتراضاتها على الطلب.
إثر ذاك، جدّد المدعي العام خان، في 24 آب/أغسطس، طلبه البت العاجل في أوامر الاعتقال، مؤكّدًا على حق المحكمة بالولاية القضائية على الإسرائيليين الذين يرتكبون جرائم وحشية على الأراضي الفلسطينية، وطلب رفض الطعون المقدمة من عشرات الأطراف والحكومات. وكرّر خان طلبه هذا بعد نحو ثلاثة أسابيع، متحدّثًا عن مخاوف من تدخل محتمل في التحقيقات الجارية.
قدّمت مجموعة مؤلفة من 20 فلسطينيًا شكوى جنائية إلى مكتب المدعي العام الهولندي بتهمة عرقلة تحقيق المحكمة الجنائية الدولية في الجرائم الواقعة في فلسطين
ومن الخطوات الرسمية القليلة التي قامت بها إسرائيل بشكل مباشر لعرقلة البتّ في الطلب، طعن قدمته في 20 أيلول/سبتمبر في اختصاص المحكمة وطلبِ المدعي العام، على اعتبار أنّ إسرائيل "لم تأخذ حقها في التحقيق بنفسها في الادعاءات التي تحدّث عنها".
وفي سياق متصل بسلسلة الأحداث هذه، أعلنت المحكمة في 25 تشرين الأوّل/ أكتوبر الماضي، من دون تقديم تفاصيل، استبدال أحد الأعضاء الثلاثة في لجنة القضاة الناظرة بطلب المدعي العام، هي القاضية الرومانية يوليا موتوك، بعد تنحّيها لـ"أسباب صحية" وُصفت بالسرية. وحلّت القاضية السلوفينية بيتي هولر مكانها، وهو ما يُرجّح معه حدوث تأخير في إصدار قرار التوقيف.
وبعد هذا التنحي المُفاجئ، أعلنت إسرائيل ــــ قبل أيام ــــ أنها تشكّك في حيادية القاضية بسبب عملها السابق كمحامية في مكتب المدعي العام. وطلبَ بيان صادر عن مكتب النائب العام الإسرائيلي توضيحًا من القاضية حول ما إذا "كانت هناك أسباب تدعو إلى الشك المنطقي في حياديتها"، علمًا أن هذا هذا التشكيك قد يؤدي أيضًا إلى تأخير إضافي في اتخاذ القرار.
وسبق هذا الإعلان، بيوم واحد، انتشار أخبار تتصل باتهام المدعي العام، كريم خان، بسوء السلوك الجنسي مع إحدى الموظفات في المحكمة، وهو ما نفاه. ويجري الآن تحقيق خارج نطاق المحكمة في هذه التهمة. وقد أعلن خان أنّ عمله وصلاحيته في المحكمة يستمرّان بالتوازي مع التحقيق. وفي هذا السياق، أعرب محامو خان لصحيفة The Guardian عن "قلقهم من أنّ الكشف عن مسألة داخلية سرية ومغلقة يهدف إلى تقويض عمله (خان) البارز المستمر في وقت حساس".
في 8 تشرين الأوّل/أكتوبر 2024، قدّمت مجموعة مؤلفة من 20 فلسطينيًا شكوى جنائية إلى مكتب المدعي العام الهولندي بتهمة عرقلة التحقيق الذي تجريه المحكمة الجنائية الدولية في الجرائم الواقعة على الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وفي حين لم تحدد الشكوى المتهمين، استندت المجموعة في شكواها إلى مقالات نُشرت قبل أشهر في صحيفة The Guardian البريطانية ومجلتي +972 وLocal Call، تكشف ضلوع "الموساد" ومسؤولين إسرائيليين، منذ نحو عقد، في حملة تهدف إلى عرقلة عمل المدعي العام القاضية بإجراء تحقيقات بخصوص تلك الجرائم، شملت ممارسة الضغط على المدعي العام والموظفين والشهود وترهيبهم والتجسس عليهم وتشويه سمعتهم.