يشهد العالم تحوّلات جيوسياسية عميقة مع بروز قوىً تسعى إلى تشكيل نظام عالمي متعدد الأقطاب. في قلب هذه التحولات، تكتسب مجموعة "بريكس BRICS" أهمية متزايدة، حيث تستعد روسيا التي تتولى الرئاسة الدورية للمجموعة لاستضافة قمتها السادسة عشرة في مدينة قازان بين 22 و24 أكتوبر/تشرين الأول.
منذ تأسيسها عام 2009، أثارت مجموعة "بريكس"، التي شكلتها كل من البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، الكثير من الجدل والتساؤلات حول قدرتها على تغيير النظام العالمي الحالي الذي صمّمته وقادته الدول الغربية بعد الحرب العالمية الثانية.
واليوم، يشهد هذا النظام القديم حالة من الاضطراب والاختلال في هيكل توزيع القوة الدولية، وسط انقسامات حادة بين الشمال والجنوب، لا سيما بعد التوسع الملحوظ للمجموعة في كانون الثاني/يناير 2024، إذ انضمت إليها أربع دول جديدة كاملة العضوية هي مصر وإثيوبيا وإيران والإمارات العربية المتحدة، ومن المتوقع أيضًا أن يُعلن عن انضمام عشرة أعضاء جدد في القمة المرتقبة.
عزّزت هذه التطورات من التوقعات التي تفيد بأن الاستمرار في التوسع قد يجعل "بريكس" تكتلًا قادرًا على تعديل هيكل القوة الدولية، وتحويل مركز الثقل الجيوسياسي من الاقتصادات المتقدمة إلى الاقتصادات النامية، فيما اعتبر مشكّكون أن المجموعة لن تتعدى كونها تكتلًا عابرًا للقارات ذا تأثير محدود.
بالنسبة لمؤيديها، تُعَد "بريكس" قوة مهمة في السياسة الدولية
بدايةً، تشكل "بريكس" قوة جغرافية وديموغرافية واقتصادية، حيث يمتلك الأعضاء التسعة ثلث الناتج المحلي العالمي، ويبلغ عدد سكان الدول المنضوية في التكتّل نحو 45% من سكان العالم. يُضاف إلى ذلك امتلاك هذه الدول مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية بنسبة تبلغ نحو 31% من إجمالي مساحة اليابسة في العالم، ؛كما أنها تسيطر على 40% من الإنتاج العالمي للحبوب واللحوم.
وتشكّل الصين وحدها التحدي الرئيس لاقتصادات دول مجموعة السبع، حيث يبلغ ناتجها المحلي الإجمالي مجموع ناتج الدول السبع (باستثناء الولايات المتحدة)، وتعد ثلاث دول في مجموعة "بريكس"، هي الصين والهند والبرازيل، من ضمن أكبر عشرة اقتصادات في العالم.
في المجمل، تمثّل هذه الدول كتلة ضخمة بكل المقاييس تقريبًا. وهذا الأمر يمنحها إمكانات هائلة لتشكيل نظام اقتصادي وسياسي دولي جديد، ينطوي على تمثيلٍ أكبر للدول غير الغربية.
من ناحية ثانية، تعتبر "بريكس" صوتًا قويًا للدول النامية التي ترفض أن تكون "الغالبية الصامتة"، ولم تعد تقبل استمرار تهميشها في عملية صناعة القرار العالمي.
تسعى "بريكس" (كمجموعة دول أو بشكل منفرد) لتغيير آليات الحوكمة العالمية غير العادلة وغير العقلانية، وإصلاح المؤسسات الدولية التي تهيمن عليها الدول الغربية، وتعزيز التنوع داخل النظام المالي الدولي، وتأمين تمثيل متناسب مع حجمها الاقتصادي والديمغرافي.
تعتبر "بريكس" صوتًا قويًا للدول النامية التي ترفض أن تكون "الغالبية الصامتة"، ولم تعد تقبل استمرار تهميشها في عملية صناعة القرار العالمي
ثالثًا، تشهد مجموعة "بريكس" إقبالًا متزايدًا من الدول الراغبة في الانضمام إليها؛ حيث أعربت 34 دولة عن اهتمامها بالانضمام إلى المجموعة، من ضمنها تركيا العضو في "حلف شمال الأطلسي (الناتو)"، ودول تعاني من الصراعات مثل سوريا وفلسطين وميانمار.
وهناك شعور عام بين مؤيديها بأن المجموعة تمثل أفضل السبل لبناء قوة الدول النامية وإصلاح الجوانب غير العادلة وغير المعقولة للنظام الحالي، المتمثل بسياسات الهيمنة والتدخل في شؤونها.
وقد قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بمناسبة ترَؤس روسيا مجموعة "بريكس" عام 2024 إن المجموعة "تجتذب عددًا متزايدًا من المؤيدين والدول ذات التفكير المماثل التي تتقاسم مبادئها الأساسية، وهي المساواة في السيادة واحترام مسار التنمية المختار والاعتبار المتبادل للمصالح والانفتاح والإجماع والتطلع إلى تشكيل نظام دولي متعدد الأقطاب ونظام مالي وتجاري عالمي عادل، والسعي إلى إيجاد حلول جماعية للتحديات الكبرى في عصرنا".
ولكن، هناك تحديات وتعقيدات...
برغم الإمكانات الهائلة لمجموعة "بريكس"، إلا أنها تواجه تحديات كبيرة تحول دون قيامها بدور بديل للهيمنة الغربية بشكل كامل.
أولًا، تفتقر مجموعة "بريكس" إلى نظرة موحدة تجاه العديد من القضايا الدولية. ففي الوقت الذي تحظى روسيا بدعم الصين وإيران في حرب أوكرانيا، تتخذ دول أخرى موقفًا أقل صراحة. وبينما رفعت جنوب أفريقيا دعوى إبادة جماعية في محكمة العدل الدولية ضد اسرائيل، فإن دولًا أخرى مثل إثيوبيا والإمارات العربية المتحدة تمتلك علاقات جيدة مع إسرائيل.
يضاف إلى ذلك وجود اختلافات سياسية ومنافسات اقتصادية كبيرة بين أعضائها. فالصين والهند تتنافسان في آسيا؛ والهند جزء من كتلة أمنية ودفاعية (كواد) تضم اليابان وأستراليا والولايات المتحدة، صُممت خصيصًا لتشكل جبهة ضد الصين للحد من نفوذها في المحيطين الهندي والهادئ.
علاوة على ذلك، هناك اختلافات ثقافية بين الدول الأعضاء، إذ تتكون "بريكس" من مزيج من الثقافات المختلفة؛ الثقافة الهندوسية الشرقية السائدة في الهند، والثقافات الكونفوشيوسية والبوذية والطاوية في الصين مع ما في كل من البلدين من ثقافات محليّة أخرى، والثقافة السلافية الأوراسية في روسيا التي تتداخل في بعض جوانبها مع الثقافة السائدة في الصين، والثقافة اللاتينية في البرازيل مع ما تنطوي عليه من قضايا خاصة بالسكان الأصليين، والثقافة الأفريقية الخاصة بجنوب أفريقيا وبقايا ماضيها "الأپارتهايدي".
يضاف إلى ما سبق وجود توترات بين الأعضاء الحاليين والمستقبليين. فهناك علاقة متوترة بين إيران وأذربيجان، وعلى نحو مماثل، بين إيران والمملكة العربية السعودية برغم الاتفاق بينهما الذي توسطت فيه الصين.
كل ذلك يزيد من تعقيد العلاقات داخل المجموعة ويحد من قدرتها على اتخاذ مواقف موحدة تجاه القضايا الدولية. ومن المحتم أن تتفاقم مثل هذه المشكلات مع توسع المجموعة.
ثانيًا، برغم إنشاء "بريكس" العديد من المؤسسات البديلة الموازية للمؤسسات الاقتصادية الحالية، كبنك التنمية الجديد وصندوق الاحتياط النقدي مثلًا، وسعيها إلى إنشاء نظام دفع وتحويلات مالية بالعملات المحلية ليشكل بديلًا عن نظام الدفع الأميركي (سويفت)، إلا أنها ما زالت تفتقر إلى البنية التحتية المؤسسية لتحقيق أهدافها. فغياب آليات التنفيذ والقواعد والمعايير الموحدة وكذلك الافتقار إلى آليات اتخاذ قرارات فعالة، هي أمور تحدّ من قدرتها على التحرك بسرعة وبشكل منسق، بالمقارنة مع ما تتمتع به المؤسسات الغربية من قدرات أكبر على التنسيق والتعاون.
دول "بريكس" تواجه انتقادات بشأن حقوق الإنسان وحوكمة المؤسسات والشركات والشفافية
في حين تتجمع دول الغرب حول عدد قليل من المنظمات الرئيسة التي تعزز الروابط المتبادلة في ما بينها، كالاتحاد الأوروبي أو مجموعة الدول السبع و"حلف شمال الأطلسي"، فإن أعضاء مجموعة "بريكس" يمكنها الانضمام إلى العديد من الهيئات الإقليمية والدولية الأخرى، مثل الاتحاد الأفريقي، ورابطة دول جنوب شرق آسيا، وحركة عدم الانحياز.
ثالثًا، قد يتحدث البعض عن سوء معاملة الغرب للعديد من البلدان، لكن دول "بريكس" بدورها تواجه انتقادات خارجية وداخلية بشأن حقوق الإنسان وحوكمة المؤسسات والشركات والشفافية.
جميع هذه التحديات تحدّ من قدرة المجموعة على التحرك ككتلة موحدة. وإذا لم تُعالج هذه المسائل بشكل فعال، قد يؤدي ذلك إلى تآكل تماسك المجموعة وتقويض قدرتها على التأثير على السياسة العالمية، كثقل موازن للهيئات والمؤسسات التي تهيمن عليها الدول الغربية.
إذًا، هل تشكل "بريكس" تحديًا للهيمنة الغربية؟
تُظهر مجموعة "بريكس" إمكانات كبيرة لتشكيل نظام اقتصادي وسياسي جديد مع تمثيل أكبر للقوى غير الغربية، ما يسمح لها بتشكيل تحدٍ محتملٍ للهيمنة الغربية، لكن هذا التحدي يتّسم بالتعقيد. برغم أن لدول المجموعة قوة اقتصادية متنامية، إذ تُسهم بنحو 18% من التجارة الدولية للسلع، وتنتج ما يزيد من40% من مصادر الطاقة عالميًا، وتتحكم بـ 50% من احتياطات الذهب والعملات، إلا أن هذه القوة غير كافية.
في ظل الاعتماد الاقتصادي للعديد من الدول الأعضاء في "بريكس" على الغرب وحفاظها على علاقات سياسية ودبلوماسية متينة مع دوله، فإن تحوّل المجموعة إلى قوة بديلة للهيمنة الغربية بشكل كامل تحدّه العديد من المعوقات.
لا يعني هذا أن المجموعة لا تستطيع، أو لن تلعب دورًا محوريًا في إعادة رسم مستقبل النظام الجيوسياسي العالمي. لكن من غير المرجح، في المدى المنظور، أن تكون منافسًا حقيقيًا للهيمنة الغربية.
فالقوة المؤسسية لدول مجموعة "بريكس" والدول النامية في نظام القوة الدولي لا تتوافق مع حجمها الاقتصادي، إذ برغم أن عدد سكان الأعضاء التسعة يشكل تقريبًا نصف عدد سكان العالم، إلا أنها تمتلك أقل من 16% من حقوق التصويت في البنك وصندوق النقد الدوليين، مقابل 16.5% للولايات المتحدة و42% لمجموعة السبع، وهو ما يشكل خللًا تسعى الدول الغربية مثل الولايات المتحدة إلى الحفاظ عليه لضمان هيمنتها على الشؤون الدولية.
ختامًا، يمكن القول إن "مجموعة بريكس الكبرى" تمثل مصالح الجنوب العالمي وتهدف إلى إعطاء صوت لعدد كبير من البلدان النامية على الساحة الدولية، أي أنها أكبر من مجرد تكتل عابر للقارات بتأثير محدود. غير أن النتائج النهائية لتغيير هيكل القوة الدولية يعتمد على كيفية تنسيق تلك الدول جهودها وتوجهاتها.