كيف ستتكشّف صورة دمشق بعد الحرب؟

ليس المطلوب إعادة إعمار المؤسسات الثقافية المدمّرة في دمشق فقط، بل إعادة إعمار العقول المغلقة على مصالحها الشخصية، وذلك بالانفتاح على التيارات الثقافية المستبعدة عن "المزرعة".

طوال سنوات الحرب، لم أغادر دمشق تقريبًا، عدا زيارات قصيرة لبلدان ما زالت تستقبل "الكائن السوري" بصعوبة وريبة ومعجزة.

يتحكّم المزاج وحده بالحصول على تأشيرة خروج أو رفضها، فنحن كراكي المطارات، نقفُ على رِجلٍ واحدة، بأجنحة مكسورة، على طرف المستنقع، ثم سننخرط مرغمين بوقائع الحياة اليومية، إذ لا فرق بين صوت الرعد وهدير الطائرات (روى لي صديق بأنه كان يرى ظل الهليكوبتر في فنجان قهوته، مختزلًا جحيمه الخاص).

هكذا كنّا نتعلم دروس الجغرافيا خارج الخرائط القديمة: أسماء قرى بعيدة لم نسمع بها قبلًا، مواقع أثرية نَهبَها البرابرة، طرائق جديدة في صناعة القتل والتعذيب. هناك أيضًا العتمة. انقطاع الكهرباء، وتقنين الوقت بكبسولات الأمل تحت اللسان، ووحشة الطريق. عتمة النفوس أيضًا، هذه الكراهية التي بزغت مثل الفطر السام، أن تنجو بجلدك على بعد أمتار من قذيفة عشوائية، غير عابئ بأعداد الموتى. فالموتى أرقام مرشّحة للنسيان مع أول مذبحة لاحقة.

كان السؤال الأول الذي يواجهك الآخرون به "هل ما زلت في دمشق؟"، أو هل هناك دمشق بعد كل هذا الخراب؟ ذلك أن شهود العيان، ومؤسسي التنسيقيات ومصوري الهواتف المحمولة، كانوا يعجّلون موتها باختراع مشهديات مثيرة تقنع مطحنة الميديا بالبضائع المرغوبة.

خيميائيون لصناعة الذّهب المزيَّف في مختبرات الدّم، يتناسلون في العتمة، خفافيش بأجنحة فراشات، بما يليق بسريالية المأتم، فدمشق منذورة للحرائق والنكبات مرّةً، كل مئة سنة.

كنتُ أشكو على الدوام من غياب علماء الاجتماع في تشريح أحوال دمشق اليوم، وفوضى المصطلحات، والخفّة في استلال هذه المفردة أو تلك من المعجم للتداول: ثورة، انتفاضة، فزعة، حراك، حرب أهليّة، مؤامرة كونية، أزمة، فتنة طائفية!

وكان ثوّار "الفيسبوك" يوقدون النار تحت حطب الكراهية لإنجاز الحريق بالريموت كونترول، حتى آخر نفس. وكانت دمشق تتضاءل وتتسع، تبعًا لفاتورة الخراب المطلوبة. لكننا، أقصد، نحن الذين لم نغادر البلد، كنّا نراكم الألم والفزع والكوابيس واليأس، ننشئ خرائط مؤقتة للنجاة، أو العيش يومًا بيوم، فيما ثوّار البيجاما يقيمون محاكم التفتيش وقوائم التخوين ووصفات الحساء الثوري بحبر مغشوش وأقلام تتخذ هيئة البلطة، وكأن هؤلاء لم يخبروا يومًا مائدة البلاد بما لها وما عليها، من ملحٍ زائد في هذه الطبخة، ونقص فيتامين في تلك.

سيُعدم الشاعر بشير العاني على يد كتيبة تكفيرية بتهمة الرّدة، وسيغيب بندر عبد الحميد مثل نيزك، وسيموت آخر حكواتية دمشق كمدًا

ثم إن معظم "النصوص المضادة" كانت تعاني من كساح بلاغي، وهشاشة عظام، وركاكة محمولة على خطاب شعبوي وبلاستيكي أخرق، أتاح لمن كان بالكاد يجد اسمه في بريد القراء اقتحام منابر كبرى تنطق بالدولار واليورو تحت بند "الثورة مستمرّة".

على المقلب الآخر، استيقظ شعراء المنابر بإعادة تدوير بحر الرمل كأول محاولة لنسف نصّ الحداثة الذي خرج من دمشق وجوارها، قبل أكثر من نصف قرن. وبدلًا من تأصيل هذا النصّ، شعريًا ومسرحيًا وسينمائيًا وتشكيليًا، جرى هدمه تدريجًا، باستثمار مقولات وشعارات مستهلكة، حتى إنك لن تصدّق بأن هذه المنصّات التي استضافت نزار قباني، ومحمود درويش، ومحمد الماغوط، وسعد الله ونوس، ومحمد ملص، وصلحي الوادي، وفاتح المدرّس، وآخرين، هي نفسها من تقف عليها أسماء طارئة، لا محل لها من الإعراب (!).

هناك لزوجة لغوية وبصرية أصابت المخيّلة السورية بالضغينة، فتناسلت نطف معطوبة، سعت إلى حجب كل ما هو نافر ومتفرّد. وكان على كوكبة من المثقفين إنشاء نصوصهم بعيدًا عن هذه الضوضاء. فهذا الزلزال العمومي كان بحاجة إلى زلزال لغوي أيضًا، لا إعادة إنتاج مقولات ما قبل الحرب بالأخطاء نفسها. وكان على النصّ السوري المفارق أن يشتبك مع مفردات جديدة مثل الحاجز، والتشبيح، والتعفيش، وإدخالها إلى المعجم المتداول من موقع الضدّ.

ولكن هل اهتزت صورة دمشق بسبب الحرب وحدها؟ على الأرجح، إن علامات الاحتضار بدأت تلوح في الأفق بعد أفول أوكسجين "دمشق عاصمة الثقافة العربية" (2008) كآخر ريح طليعية هبّت على عاصمة الأمويين، باستضافتها تجارب عربية وعالمية مهمة، أعادت الألق إلى روح المدينة، إلى أن أطاح موظفون محافظون وفاسدون العجلة بإعادتها إلى الوراء والاكتفاء بالحساء البائت كوجبة وحيدة، عدا استثناءات خاطفة هنا وهناك، كانت تتسللّ من الشقوق بجهودٍ فردية شاقة.

أحاول أن أستعيد شوارع دمشق، من دون أصوات قذائف أو صواريخ أو طائرات، بتمارين أوليّة، خارج أسوار المربع الضيّق. لكنّ تظهير صورة أخرى للمدينة خارج الحرب يبدو عسيرًا، لا كما رأيناها في بعض الأفلام المعقّمة، إنما في شهيقها وزفيرها المضطربين، في حواراتنا في "مقهى الروضة"، آخر قلاع من تبقى من مثقفي دمشق.

يقطع محمد ملص المسافة القصيرة من بيته في حيّ الطلياني إلى المقهى ليعيد ترتيب يأسه على نحوٍ آخر، يقلّب مصير سيناريوات أفلامه المؤجلة، على أمل أن تدور كاميراه بمعجزة ما، يتوقّف أمام "سينما الأمير" المغلقة منذ سنوات، ويلتقط  صورة بعدسة هاتفه المحمول لواجهتها الصدئة، ثم يمضي إلى كتابة يومياته عن هباء اللحظة والمشاريع المجهضة وفقدان أصدقاء العمر.

كان أصدقاء طاولة المقهى يتضاءلون تدريجًا، يختفي عادل محمود أشهرًا متواصلة، ثم يعود مدجّجًا برواية جديدة تحمل عنوانًا يختزل ما نحن فيه" قطعة جحيم لهذه الجنّة"، ثم أودع مخطوط مذكراته وغاب.

اقتحم مغنّو الملاهي والأعراس دار الأوبرا في حفلات دبكة، وانحسرت الفاعليات الثقافية النوعيّة لمصلحة ما هو عابر ومضجر ونفعي

وينطفئ الشاعر ابراهيم الجرادي بقوة مرض السرطان محقّقًا صورته التي رسمها ذات يومٍ بعيد في كتابه "أجزاء إبراهيم الجرادي المبعثرة". وسيُعدم الشاعر بشير العاني على يد كتيبة تكفيرية بتهمة الرّدة، وسيغيب بندر عبد الحميد مثل نيزك، وسيموت آخر حكواتية دمشق كمدًا، بعد أن أحرق تكفيريون كتبه العتيقة، ربما لاكتشافه أن سيف عنترة الحكاية كان خشبيًا، وأن عبلة مجرد رقم بين السبايا.

كنّا إذًا، نراكم فواتير الخسارة وقوائم الغائبين والكراسي الفارغة من أصحابها، وضيق الأمكنة، مثل حرّاس مقبرة مؤجلة.

كانت شجرة المقهى تتعرى من أوراقها خريفًا بعد خريف، وكان المهاجرون يخترعون ربيعًا، لم يعد موجودًا، إلا على صفحاتهم في الموقع الازرق. يكتبون بريشة طاووس أملًا كاذبًا في تمجيد موت لا يخصهم، والتطهّر من إثم قديم، فيما نحن نحصي قتلى قذيفة وقعت في الجوار قبل قليل، ثم نعود إلى وقائع أحوال فساد ثقافي معلن يرتدي عباءة مزيّنة بقصب شعارات وطنية مستعارة، أو ما سيسميه أحدهم" إدارة التوحّش الثقافي"، نظرًا إلى حجم الخراب الروحي الذي ألقى بضلاله على الحياة الثقافية بمجملها.

هكذا اقتحم مغنّو الملاهي والأعراس دار الأوبرا في حفلات دبكة، وانحسرت الفاعليات الثقافية النوعيّة لمصلحة ما هو عابر ومضجر ونفعي، بدلًا من إعادة إعمار الثقافة بما يليق بتاريخية مدينة دمشق وعصيانها، وذلك بغياب الاستراتيجيات الثقافية التي تستجيب لحاجة المتلقّي وتطلعاته نحو فضاءات أخرى بديلة.

قبل خمس سنوات، حاول يوسف عبدلكي أن يستعيد الجسد العاري بقلم الفحم، الجسد الذي كان مخطوفًا ومكبّلًا ومحرّمًا منذ عقود. لكنّ المعرض واجه ردود فعل غاضبة لدى بعض مثقفي الداخل والخارج بذرائع برّانية، تنطوي على ذهنية مغلقة استكانت طويلًا لقيم ثقافية ضيّقة. وإذ بالمهاجرين والأنصار يشربون من بئرٍ واحدة، بصرف النظر عن تباين وجهات النظر.

هذه الحادثة وشبيهاتها تشير إلى آلية تفكير مستقرّة، وجدت تمثلاتها بالسجالات الدائرة حول علمانية الدولة أم أسلمتها، بالإضافة إلى تمزّقات سؤال الهوية. إذ هناك من يجاهر بفينيقيته، وآخر بآراميته، وثالث ببداوته، فكيف ستتكشف صورة دمشق ما بعد الحرب؟

ليس المطلوب إعادة إعمار المؤسسات الثقافية المدمّرة فقط، بل إعادة إعمار العقول المغلقة على مصالحها الشخصية، وذلك بالانفتاح على التيارات الثقافية المستبعدة عن "المزرعة"، بوصفها رافعة وطنية حقيقية تعبّر بعمق عن الصورة المشتهاة لهذه المدينة العريقة، حتى لا تتكشّف القشرة الصلبة لبيضة الحرب عن سرب غربان!  

حيدر حيدر: رحيل النورس المهاجر

بغياب حيدر حيدر، ينطفئ سراج آخر في الثقافة السورية، بعدما أرّخ لخسارات متتالية، وهو يرى أحوال التدهور و...

خليل صويلح
يوسف عبدلكي مؤرشفًا أحوال الفزع وفجيعة الفقدان

لن نجد خطًا فاصلًا، بين سيرة يوسف عبدلكي التشكيلية وسيرته الحياتية. هناك تمازج أصيل بين السيرتين، فهو لم...

خليل صويلح
عذرًا قبيلة ميلان كونديرا!

كثيرون اكتفوا بذكر أحد عناوين روايات كونديرا كنوع من الاشتباك مع منجز هذا الروائي، من دون دفع فاتورة حقيق...

خليل صويلح

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة