القبطان الجيّد ليست لديه عائلة

أحاول أن أبحث عن بدائل للعائلة في بلد اللجوء. أُسقط الأسماء على الجيران. أحتال على عواطفي الشخصية. لكنّ الحيلة تلك لا تنفع.

القبطان الجيّد ليست لديه عائلة. سمعتُ هذه الجملة من واحدة من معارفي، عمل زوجها كبحّار قبل سنوات. ومذّاك وأنا أفكر بالقبطان الذي لا عائلة لديه. أفكّر بهذا المقطوع من شجرة!

أعلّق على صدر الحائط صورة جانبٍ من درج بيت أهلي، ذاك الذي أتت قذيفة يومًا على نصفه. أحتفظ بهذه الذكرى الرهيبة مع  إصرار شديد على صنع ذاكرة لا يمحوها الوقت ولا المسافة. أنسج لأولادي ذاكرة تشبهني، ولا تشبههم.

أعلّق الصور. في كل مرة المزيد منها. وفي داخلي رغبة لا متناهية بزرع شجرة لهذين الطفلين. صورة لوالدي، وأخرى لأمي. صور لشقيقاتي. صور، صور، صور. بعضها يعود إلى آخر صيف أمضيناه في دمشق قبل عشر سنوات كاملة. خرجتُ من دمشق بتركة مهولة. خرجتُ بعائلة عظيمة العدد. أكبر عائلة يمكن أن يخرج بها أحد. قبيلة كاملة من الأعمام والعمات، والخالات والأخوال، والجدات. الكثير من الجدات. من يصدق هذا!

خرجتُ من تلك البيوت المتلاصقة، التي لا أبالغ إن قلت إنه بإمكان أيّ كان أن ينتقل من أول الحي عبر أسطحها إلى آخره من دون شعور بالخوف. من دون أن يصطدم بحاجز أو بعارض ما.

تتّصل ابنتي ذات السنوات العشر بأحد إخوتي عبر تطبيق "واتساب". وبتلعثم تسقط منها تسمية "عم"، تسمّي أخي على الطرف الآخر من المكالمة "عمي"!

أنظر إليها، وأهزّ برأسي. تصحّح خطأها وتقول "خالي"، كما لو كانت تصحّح خطأ لغويًا فظيعًا. أجد نفسي متشنجة مع كل اتصال وأنا أكرّر: هذا خالك، وليس عمك، وهذه خالتك وليست عمّتك.

الأعمام شطر من الشجرة، والأخوال شطرها الثاني. في لحظة التلعثم تلك أعود سنوات إلى الوراء، إلى ذاك الحي. الحي الذي بحث عنه طفلاي على خرائط "غوغل مابس" واستطاعا تمييزه. أعود وأجدني بعمر طفليّ، أو أكبر قليلًا. حينذاك لم أكن لأتمكّن من رصد فارق، عاطفي على الأقل، بين أن يكون لوالدي أخ غير شقيق وأخت غير شقيقة، أو أن يكون لأمي في الجهة المقابلة أخ غير شقيق. أعرف أن هؤلاء جميعًا مكوّنات عائلتي. تعرّفت على هذا المصطلح فيما بعد، في بلاد اللجوء. هذا نصف أخ، وهذه نصف أخت!

يكرّر ولداي أسماء شقيقاتي. لكن بسبب بُعد المسافة وقلّة التكرار، ينسى الولدان الأسماء. ومع كل اتصال، نبدأ المحادثة بالتعريف: هذه فلانه... ونضيف إلى الشجرة فروعًا أخرى؛ أبناء وبنات خالات.

تزداد المهمة صعوبة، خصوصًا مع الاستخدام الموازي للغة الأجنبية، واقتصادها في استخدام المفردات مقارنة بما تجود به اللغة العربية من مسمّيات تخص العائلة وأقسامها.

أحكي للأولاد قصة عن الموسيقى، أقول فيها:

جاءتنا الموسيقى بالطمأنينة، من صرير الباب إذ يفتحه الأب. وأمكم بلا أب. ينظر إليّ الطفلان باستهجان! كيف بلا أب؟

ثم أتابع؛ جاءتنا الموسيقى من ضحكة الأخت. وأنتم بلا أخت!

وأُكمل؛ جاءتنا الموسيقى من خشخشة أوراق الحلوى في العيد. ولا نتذكر العيد هنا إلا من بعيد. طيف خجول نستحضر بعضًا منه مع معارفنا القلّة. لكنّ العيد الحقيقي نراه في الصور التي تطير إلينا عبر وسائل التواصل. الصور التي تأتي من بيوت العمات والخالات. العيد في تلك البيوت البعيدة...

قطعت مسافة من شمال ألمانيا إلى أقصى جنوبها، من دون أي معرفة باللغة الألمانية، لأرى عودًا واحدًا فقط من حزمة العائلة التي تناثرت 

يكمل ولدي الذي حفظ القصة أكثر مني: ثم جاءت الموسيقى من قرقعة المطر فوق أسطح الصفيح. ولكن يا ماما، ما هي الأسطح؟ السطح ظهرالبيت وأعلى كل شيء فيه. سطح البيت، بيت الأهل، البيت الذي هناك!

وجاءت الموسيقى من شجرة صفصاف قرب بردى، لم تتمكّن من النجاة. تقول ابنتي: أعرف بردى، بردى هو نهر في دمشق!

أقول: لكننا نجونا. أنتم، على الأقل، نجَوتم. بتركة كبيرة من الأعمام والعمّات والأخوال والخالات.

أكمل لهم أن سلكًا شائكًا مزّق أثوابنا وسوّانا عرايا. 

تقول ابنتي: هذا يعني أن لا عائلة لدينا.

أقول بلا، لدينا عائلة، لكنها بعيدة، بعيدة جدًا!

بعدها راح صوت الموسيقى. يسأل ولدي: هل ضعنا من دون عائلة؟

ثم وجدنا أنفسنا أمام نهر "الراين"، يلعق جراحنا! تردّ ابنتي: الراين ليس بردى. أقول نعم.

*     *     *     *

بعد أقل من شهرين على وصولي إلى ألمانيا، سافرتُ مسافة 500 كلم لأزور ابن عم لي. قطعت مسافة من شمال ألمانيا إلى أقصى جنوبها، من دون أي معرفة باللغة الألمانية، لأرى عودًا واحدًا فقط من حزمة العائلة التي تناثرت هنا وهناك.

كلّمتني زوجته باستهجان واضح: كيف قطعتُ هذه المسافة وبلغتُ بيتها؟ بالكاد أخطأته بعشرة أمتار فقط!

لكني وصلت، أقول. فأنا من تلك الشجرة.

تقفز ابنتي إلى حضن ابن عمي، وبفرح غمرني أكثر مما غمرها. أقول لها: هذا خالك!

تنظر إلينا الصغيرة وتطالع الشبه بيننا، وتستمع إلى اللكنة التي تعرفها جيدًا، وتصدّق أن هذا خالها!

أقول لأولادي: إنني وهذا الرجل ــــ أقصد الخال ــــ جئنا من عائلة تعيش كما الزرافات. نتعرّف على بعضنا من خلال الصوت والرائحة. يُقال إن الزرافات حادة الذكاء، لديها ذاكرة قوية تمكّنها من تذكّر المواقع والطرقات التي مرت بها. تتذكر الأشياء، وبطولها الفارع تُطلّ على الأسطح، ترى تلك الأسطح المتلاصقة في ذاك الحي البعيد.

ولهذه الزرافات ميزة رائعة، فهي تُظهر سلوكًا اجتماعيًا مثيرًا، وتتفاعل في ما بينها وتحفظ الواحدة منها الأخرى، تمامًا مثلما أستطيع أنا وهذا الرجل أن نسمّي لكم مئة اسم وأكثر، من أصغر فرد في عائلتنا حتى أكبر واحد فينا.

*     *     *     *

أحاول أن أبحث عن بدائل للعائلة في بلد اللجوء. أُسقط  الأسماء على الجيران. لا تنفع هذه الحيلة طبعًا مع أفراد المجتمع الآخر.

أحتال على عواطفي الشخصية إذ أُسمّي صديقاتي في بلاد اللجوء "خالات"، وأفرح حين أسمع ذلك بصوت الأولاد.

أنظر معهم إلى سوريا البعيدة حقًا.

وهناك تظهر لي آخر مشاهد مسلسل "الندم"، المأخوذ عن رواية "عتبة الألم" للكاتب والسيناريست حسن سامي يوسف الذي رحل مطلع الشهر الحالي.

في المسلسل، يعود سهيل، الابن الضال، بعد غياب وتيه لسنوات. يعود ليقف عند عتبة البيت المظلم والفارغ. يرى أطياف عائلته، كلٌ في مكانه المعتاد.

يطالعه وجه أبيه الباسم ليقول له: ادخل. كنت أعرف أنك ستعود!

المفاتيح السوداء

يصرخ فيّ المهرب بأن عليّ أن أسكت صغيرتي، وإلا فسيتوجّب عليّ أن أعود أدراجي. الأخلاق، بحسب ما يرى، تعني أن...

بشرى البشوات
قليلٌ بين شيئين

قليلًا من مسارات القسوة وترف الخيارات كانت الرقصة التي شاهدتها. بين شيئين كانت. بين حريق وجليد. ودفعتني إ...

بشرى البشوات

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة