هنا مقهى الروضة، أو محاولة متأخرة لإحصاء الخسائر!

قبل سنوات الحرب، كنّا نحتل طاولتين أو ثلاث في "مقهى الروضة"، يتحلّق حولها أدباء وصحافيون وفنانون ومنفيون عرب. فجأة، خلا المكان من الاصدقاء القدامى عن طريق العدّ التنازلي.

لا يوم عطلة لدي. أداوم يوميًا في "مقهى الروضة" من الواحدة إلى الخامسة مساءً. أجتاز 700 خطوة من بيتي إلى باب المقهى. بالنسبة لي، يكاد يكون هذا المقهى الذي يتوسط شارع العابد تاريخًا موازيًا للبلاد. لطالما اجتمع في فضائه مثقفون وسياسيون وانقلابيون فاشلون.

لا يعلم كثر أن اسم الشارع يخصّ اسم أول رئيس للجمهورية السورية يجري انتخابه لا تعيينه في ظل الانتداب الفرنسي، وذلك عام 1936. أعني محمد علي العابد، الرئيس الذي انتهى قصره في حي ساروجة إلى ورش لصناعة الأحذية!

أفضّل أن أختزل تحوّلات هذا المكان منذ الثمانينيات إلى اليوم، بقائمة أسعار المشروبات التي بدأت بثلاث ليرات للشاي وخمس ليرات لفنجان القهوة وصولًا إلى 15 ألف ليرة للمشروبات الساخنة و30 ألفًا للمشروبات الباردة.

هذه القفزة الانتحارية في الأسعار لفظت معظم روّاد المقهى خارجًا، فيما انتقل بعضهم إلى المقاهي الفاخرة في أحياء الشعلان وأبي رمانة والمالكي كأمراء حرب من طرازٍ ما، بعدما لم يعد المقهى القديم يليق بتطلعاتهم.

شخصيًا، لم أغادر مربعي الأول. هناك نوع من "العبودية المختارة" لهذا المقهى ولموقع الطاولة في زاوية قصية منه.

قبل سنوات الحرب، كنّا نحتل طاولتين أو ثلاث، يتحلّق حولها أدباء وصحافيون وفنانون ومنفيون عرب، في سجالات ساخنة. "شعراء أدونيسيون" في مواجهة "شعراء درويشيين". ينتصر "مهيار الدمشقي" حينًا، ويغلبه "أحمد الزعتر" طورًا، فيما تبحر قبيلة محمد الماغوط نحو مياه أخرى بمجاذيف الحياة اليومية المجهضة.

سوف يتسلّل بعض هؤلاء خارج المقهى إلى مناصب غامضة تتطلّب حمل حقائب وزراء واختراع نكات سمجة لتسليتهم، ما جعل روّاد المقهى بالنسبة إليهم في موقع الشبهة، بعدما خلعوا عباءة الأمس وارتدوا ربطات عنق تليق بالمرحلة!

يحاول سعد الله ونوس أن يرفو العباءة الممزّقة للبلاد: "إننا محكومون بالأمل. وما يحدث اليوم لا يمكن ان يكون نهاية التاريخ"

فجأة، خلا المكان من الاصدقاء القدامى عن طريق العدّ التنازلي، وذلك بسبب الهجرة خارجًا أو بسبب الموت، هذا العدّاد الذي لم يتوقّف عن الدوران بما يكفي لقبر جماعي. وإذا بطاولتي في المقهى تخلو كرسيًا وراء آخر من وجوه الأمس.

أتفقّد الطاولات والكراسي التي كانت يومًا ما تضج بصخب الآخرين. أكتب وأقرأ في المقهى غير عابئ بصخب لاعبي النرد والسماسرة والمخبرين ورائحة الأراجيل. أُحصي خسائري من دون أن أنتظر اًحدًا إلا بفعل المصادفة.

يظنّ بعضهم أّنّي لا أغادر المقهى ليلًا نهارًا. أجيب أحدهم ساخرًا "لست جرسونًا بورديّتي عمل، ولكن ما هو مؤكد أنك ستجدني في المقهى بين الواحدة والخامسة"!

هكذا نطهو الوقت على حطب الضجر في موقد الأوهام، ننتظر البرابرة باعتبارهم نوعًا من الحلّ، باستعارة من قسطنطين كافافيس.

في المقهى، ننثر بذور الأفكار فوق الطاولات، بما يكفي رفوف مكتبة متنقّلة، قبل أن يكنس النادل عن سطح الطاولة، باسفنجة مبللة، بقايا ريش طيور مذبوحة، كما لو أن هذه الأفكار أعقاب سجائر مطفأة فحسب.

خلال أربعين عامًا، ارتدت مقاهٍ لا تٍحصى بنعال العابر لا المقيم، من الهافانا إلى الكمال وساروجة والنوفرة والحجاز وعلي باشا وأم كلثوم والداون تاون، وحتى قهوة مظبوطة، إلا أنّي أعود إلى مقهاي الأول مثل طائر جريح يعود إلى عشّه، كمن يرقد على بيضة لا تفقس أبدًا!

الآن، أشعر بالضيق، بالاختناق، بالاجترار، بالضجر، بالطعم المرّ للقهوة، بالفقدان، بالوحدة.

أستعيد قصاصة الورق التي عُثر عليها في جيب المخرج الراحل فواز الساجر عند رحيله عام 1988، وأتساءل ماذا لو عاش إلى اليوم، وماذا سيكتب أيضًا لاستكمال أسباب الضيق؟

يقول "إن عصرنا هذا هو عصر الضيق (...) أفقنا ضيّق، عدلنا ضيّق، عالمنا ضيّق، مصيرنا ضيّق، موتنا ضيّق، قبرنا ضيّق، الضيق، الضيق! افتحوا الأبواب والنوافذ.. سيقتلنا الضيق! افتحوا الأرض والسماء.. سيقتلنا الضيق! افتحوا الكون.. سيقتلنا الضيق".

بعد عقدين على رحيل فواز الساجر، سيحاول سعد الله ونوس أن يرفو العباءة الممزّقة للبلاد بعبارة مضادة: "إننا محكومون بالأمل. وما يحدث اليوم لا يمكن ان يكون نهاية التاريخ".

أغادر المقهى وأنا أردّد بين برزخين؛ "إننا محكومون بالضيق واللا آمل".

(دمشق، يوم الجمعة 26 تموز "يوليو"، 2024)

حيدر حيدر: رحيل النورس المهاجر

بغياب حيدر حيدر، ينطفئ سراج آخر في الثقافة السورية، بعدما أرّخ لخسارات متتالية، وهو يرى أحوال التدهور و...

خليل صويلح
يوسف عبدلكي مؤرشفًا أحوال الفزع وفجيعة الفقدان

لن نجد خطًا فاصلًا، بين سيرة يوسف عبدلكي التشكيلية وسيرته الحياتية. هناك تمازج أصيل بين السيرتين، فهو لم...

خليل صويلح
عذرًا قبيلة ميلان كونديرا!

كثيرون اكتفوا بذكر أحد عناوين روايات كونديرا كنوع من الاشتباك مع منجز هذا الروائي، من دون دفع فاتورة حقيق...

خليل صويلح

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة