يشهد الملف السوري حالة من الجمود منذ أكثر من عامين دون تحقيق أي من أطراف النزاع أهدافه، وهو ما يُعزى إلى عوامل عدة. أولها الاستقطاب المجتمعي، حيث تمت تنشئة الأفراد اجتماعيًا وسياسيًا على فكرة الاستقطاب وإنكار حقوق الآخرين؛ الكل يخشى الكل، وكل طرف يخوّن الآخر ولا يريد التصالح أو التحاور معه.
يلعب وجود شريحة مستفيدة من استمرار الصراع تخشى فقدان مكتسباتها في الثروة واقتناص الفرص في الاقتصاد أو السلطة السياسية والقيادة دوره أيضًا في استطالة أمد النزاع.
وأخيرًا، هناك تناقض المصالح الدولية التي غذّت الانقسامات، خصوصًا بعد الحرب الروسية ــــ الأوكرانية وحرب غزة.
تُعدّ عبارة "حالة جمود تضر بالجميع" (mutually hurting stalemate) وصفًا دقيقًا للوضع الحالي في سوريا. فبعد أكثر من عقد من بدء الصراع، لم يتمكن أي من أطرافه من تحقيق أهدافه، وبات الجميع يعاني من تكاليفه الباهظة التي تجاوزت بكثير الفوائد التي كان مأمولًا الحصول عليها.
يُشير هذا الجمود إلى وجود فرصة حقيقية للحوار الوطني، ربطًا بالفكرة التي كان الدبلوماسي الأميركي المخضرم هنري كيسنجر يوردها بقوله: "الجمود هو الشرط الأكثر ملاءمة للتسوية".
تحليل مسارات الحوار في سوريا
شهدت سوريا منذ اندلاع النزاع عام 2011 العديد من مسارات الحوار التي سعى القائمون بها إلى إيجاد حلول سياسية للأزمة. تنوّعت هذه المسارات بين الحوار الوطني والمفاوضات والوساطة.
الحوار الوطني تمثّل باللقاء التشاوري الذي عُقد في دمشق في تموز/يونيو 2011 برعاية رئيس الجمهورية ورئاسة فاروق الشرع نائب الرئيس في حينها. وُجهت فيه دعوة إلى مؤيدي الحكومة والمعارضة، غير أن جزءًا كبيرًا من المعارضة، خصوصًا أعضاءها المقيمين في الخارج، رفض المشاركة لأسباب مختلفة أهمها انعدام الثقة.
أما على مستوى الوساطة، فقد جرت "سلسلة" محادثات جنيف التي بدأت عام 2014 برعاية الأمم المتحدة بين الحكومة السورية والمعارضة، و"سلسلة" محادثات أستانا التي بدأت عام 2014 برعاية روسيا وتركيا وإيران والولايات المتحدة والمبعوث الأممي إلى سوريا في حينها ستيفان دي ميستورا، بين الدولة السورية وقادة فصائل المعارضة، و"مؤتمر سوتشي" الذي عقد في 2018 برعاية روسيا وحضرته شخصيات مؤيدة للحكومة السورية وأخرى من المجتمع المدني والمعارضة، في حين رفضت فصائل المعارضة المسلحة وبعض قوى المعارضة الأخرى المشاركة فيه.
شهدت سنوات الأزمة السورية أيضًا حوارات يمكن وصفها بالمونولوجات، لم تُشرك فيها الحكومة السورية ومؤيدوها، كمؤتمر الرياض 2015، واتفاق القاهرة 2017، وبعض الحوارات الدورية التي تقوم بها الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا.
يجب البحث عن أرضية مشتركة للمشاركة البناءة، ويشكل الحفاظ على وحدة الأراضي السورية واستقلالية سوريا وسيادتها هذه الأرضية
غالبية هذه الحوارات ركزت على شكل الحكم والانتقال السياسي، وبعضها ركز على وقف إطلاق النار ونزع السلاح وتقاسم السلطة، وبعضها الآخر على الإصلاحات الإدارية واللامركزية، لكن جميعها عمل على تعديل الدستور باعتباره مفتاحًا ممكنًا للحل.
غير أن جميع مسارات الحوار خضعت لهيمنة النخب السياسية، مدعومة بديناميات الصراع، مع غياب مشاركة كافية من المجتمع المدني، مما حدّ من قدرتها على إحداث تقدم حقيقي. واقتصرت إنجازات الحوارات المختلفة على التعديل المجتزأ لدستور 1973 الذي كان من مخرجات اللقاء التشاوري، وإطلاق اللجنة الدستورية في تشرين الأول/أكتوبر 2019 التي جاءت في سياق "سلسلة محادثات جنيف"، وهي حاليًا "شبه مجمدة" وتعرّضت للكثير من الانتقادات.
ما الذي يمكن أن يجعل الحوار الوطني ناجحًا؟
يُعتبر الحوار الوطني إطارًا تفاوضيًا رسميًا متعدد الأطراف وشاملًا، يُستخدم كأداة لحل الأزمات السياسية والتفاوض لإعادة إنتاج العقد الاجتماعي. وهو ليس عملية خطية مستقيمة، بل تتميز بالتقدم والنكسات. لذلك، فإن نجاحها يعتمد على مجموعة من العوامل.
في سوريا، تلعب ثلاثة عوامل أساسية دورًا حاسمًا في التأثير على جدوى الحوار الوطني:
1- تجنّب التحيز: في ظل غياب الموثوقية بين الأطراف الفاعلة، يُعتبر وجود جهة موثوقة للتحضير للحوار تحظى باحترام الأطراف كافة أمرًا في غاية الأهمية، وقد تكون الجهة الموثوقة شخصًا أو مجموعة من الأشخاص، أو منظمة أو مجموعة من المنظمات. ومن أجل تأمين مشاركة مجموعة واسعة من أصحاب المصلحة، يجب ألا تكون لهذا الشخص أو الجهة "المتوافق عليها" تطلعات أو أهداف سياسية من شأنها أن تشكل تضاربًا في المصالح.
2- توسيع دائرة المشاركة: إنّ تشكيل لجنة تحضيرية للحوار تضم الأطراف كافة، وتقود الحوار ــــ بدلًا من أن يقود حزب واحد أو طرف واحد العملية ــــ هو عامل يدفع الأطراف المعنية إلى الجلوس إلى طاولة واحدة والدخول في مفاوضات. ولتعظيم قدرة الحوار على معالجة الدوافع الحقيقية للنزاع، لا بد من دعوة مجموعات المصالح الرئيسية للمشاركة، بما في ذلك الحكومة وقوى المعارضة (المسلحة أو غير المسلحة)، والجيش، والجهات الفاعلة الدينية والزعامات القبلية والعشائرية، ومجموعات أخرى تمثل دوائر انتخابية أوسع مثل المجتمع المدني، والنساء، والشباب، وغيرها من المجموعات المستبعدة تقليديًا.
3- تحديد هدف متوافق عليه: يجب البحث عن أرضية مشتركة للمشاركة البناءة. ويشكل الحفاظ على وحدة الأراضي السورية واستقلالية سوريا وسيادتها هذه الأرضية، بحيث تكون نقطة البدء التي لا ينبغي أن يختلف عليها أحد، وهي عامل جذب قد يؤدي إلى مفاوضات ناجحة. وتحت مظلة وحدة الأراضي السورية واستقلاليتها تُطرح القضايا الخلافية التي يمكن أن تشمل مروحة من المواضيع مثل الهوية الوطنية، والحريات الثقافية، والحقوق السياسية، واللامركزية، والإصلاح المؤسسي، ودور الدين في الدولة، وتعديل الدستور، وهيكل الحكومة، وغيرها من الموضوعات، لكن من دون الدخول في التفاصيل التي غالبًا ما يكون من الأفضل حلها من قبل هيئات فنية أو حكومات مستقبلية.
يُواجه الحوار الوطني في سوريا تحديات جمّة قد تُعيق تقدمه وتُقلل من قدرته على إحداث تغيير حقيقي على الأرض، حيث تلعب التدخلات الخارجية ــــ إما بشكل مباشر أو بالوكالة ــــ دورًا سلبيًا في مسار الحوار الوطني. إذ تسعى كلّ جهة خارجية إلى فرض أجندتها الخاصة التي تتعارض مع أجندات الجهات الأخرى، مما يُصعّب إيجاد أرضية مشتركة للحوار ويُعيق التوصل إلى حلول توافقية.
وبرغم هذه التحديات، تبقى إمكانية إنجاح الحوار الوطني قائمة، شريطة تخلي المشاركين فيه عن أي أجندات خارجية والتركيز على المصلحة الوطنية العليا المتمثلة في الأرضية المشتركة؛ وحدة سوريا واستقلاليتها.
ومهما تم التقليل من جدوى الحوار، فإنه يبقى مهمًا بحد ذاته ويستحق الاهتمام، باعتباره أداة قادرة على إعادة بناء العلاقات بين الدولة ومؤسساتها والجهات المختلفة في مجتمع مزّقه الصراع الطويل، وفرصة تتيح مناقشة القضايا الخلافية وإيجاد حلول توافقية تُنهي الانقسامات الداخلية. لكنه ليس حلًا شاملًا أو سحريًا، إذ إنه ليس سوى خطوة واحدة على الطريق الطويل والشاق للتوصل إلى عقد اجتماعي جديد، متوافق عليه، يلبي تطلعات جميع السوريين.