جميع أحداث هذه القصة لا تمتّ للخيال بِصِلة. استعرتُها من أصحابها بدون إذنهم، أخفيتُ أسماءهم، وأسماء الدول التي يتحدثون عنها فلا أهمية لكل ذلك. الشيء المهم الوحيد في هذه القصة المركبة من قصصهم أنها تصلح لتكون قصتي طالما أنني سوري.
* * * * *
لا أعرف ماذا تعني لي سوريا، لكنني أحبها. فرّت أسرتي إليها تبحث عن النجاة من "مذابح سيفو" ونجت بالفعل. ثم بعد سنوات طويلة انتهى بها المطاف هنا (في الشمال الأوروبي). هل يمكنني القول إننا "لاجئون سوريون قدامى"؟ لا أعرف!
* * * * *
"هل لديك كلمات أخرى؟"، سألتُ البائع في مخزن صيني وسط مدينة أوروبية، بينما أعاين عشرات الكلمات مطبوعةً على شرائط ملونة تُستخدم للتزيين في حفلات أعياد الميلاد. بدت لي المفارقةُ مثيرة للسخرية: ها أنا أستعين بمترجم "غوغل" كي أشتري كلماتٍ مكتوبة بلغةٍ لا أتقنها، ولا يلزمني من قاموسها بأسره سوى عبارة واحدة: "بطاقة إقامة"، ما زلت أحاول الحصول عليها، وأفشل، "لأنني سوري".
* * * * *
عليّ أن أجد طريقة للخروج من سوريا. لقد ضيّعتُ فرصًا عديدة من قبل لأنني لم أكن أتخيل نفسي أعيش في مكان آخر، لكنني لم أعد أحتمل البقاء هنا، خاصة بعد أن توفيت أمي. أنا وحيدة بكل معنى الكلمة، بعد شهور يصبح عمري 25 عامًا، نصفها حرب وبؤس و"تعتير"، عليّ الخروج.
* * * * *
رأيتُ أختي تغرق أمام عيوني ولم أستطع أن أفعل شيئًا.. لم أستطع حتى أن أصرخ، فقد اختنق صوتي. هم أغرقوها، ربطوا قاربنا وظننا أنهم ينوون سحبنا إلى الشاطئ، أليس هذا ما تفعله الدول المتحضرة مع اللاجئين؟ لكنهم حاولوا إغراقنا جميعًا. أنا أكرههم، أكره بلادهم، أكره كل من يحمل جنسيتها.. لا تُحدثني عن خطاب الكراهية أرجوك، فقد قتلوا أختي. ذنبها الوحيد أنها كانت سوريّة.
* * * * *
استعنت بخمسة محامين، واثنتين من المنظمات المختصة بمساعدة المهاجرين، ولم أتمكن من الحصول على بطاقة الإقامة، رغم أن لدي كل متطلباتها القانونية. أنا على وشك التحول إلى "مقيم غير شرعي"، ما الحل؟ من مكتب محاماة إلى آخر تردّد الجواب ذاته بمجرّد معرفة جنسيتي: "تقدّم بطلب لجوء، فأنت سوري!".
* * * * *
جرّدونا من كل شيء ثم تركونا لنجرب حظنا في قطع الغابة. كانت رابع مرة أتعرض فيها للسرقة والابتزاز وأشم رائحة الموت خلال تلك الرحلة. المرة الأولى حين كنت أحاول مغادرة سوريا تهريبًا، والرابعة حين كنت أحاول دخول أوروبا تهريبًا. لماذا تنبشُ في ذاكرتي؟ أحاول أن أنسى كل ذلك، قريبًا سأحصل على جنسية هذه البلاد، وأتحرّر أخيرًا من صفة "لاجئ سوري".
* * * * *
بماذا تنصحني؟ لدي يومان كي أقرّر، هل أبقى هنا وأتقدم بطلب لجوء؟ أم أعود إلى سوريا؟ يكاد رأسي ينفجر، تركت أطفالي الأربعة عند جدتهم العجوز وسافرت، قلت لنفسي فلأنتهز فرصة الحصول على "الفيزا" ثم أقرر بعد وصولي إلى أوروبا. لكنني لا أستطيع أن أقرر، أخشى أن أبقى هنا ويقتلني الندم قبل أن أحصل على حق اللجوء ولم الشمل، فأي أم تتخلى عن أطفالها سنوات لا تعرف عددها؟ وأخشى أن أعود فيقتلني الندم لأنني فوّتُّ عليهم فرصة الخروج من المجهول، وأي أم تحرم أطفالها فرصة كهذه؟! بماذا تنصحني؟
* * * * *
طرح المحقق أسئلة روتينية عديدة، ثم وصل إلى "المهم". لم تُقنعه إجابتي حول أسباب طلبي اللجوء. كان يطلب أن أخبره بأنني مهدّد بشكل شخصي في بلادي.
– الجميع مهدّد هناك!
– يجب أن تكون مستهدفًا بشكل خاص.
– قل إنك مهدد بالاعتقال (اقترحت المترجمة).
– قد أكون وقد لا أكون، لا يخبرك أحدٌ إن كان ينوي اعتقالك!
ظلّ مُصرًّا. "لكن القانون يقول.."، لم يُمهل المحقق المترجمة لإكمال العبارة التي طلبتُ منها ترجمتها، وقاطعها قائلًا: "أنا القانون هنا". ثم أعطاني الفرصة مجدّدًا ليسمع الإجابات التي يبحث عنها. رفضتُ محتدًا، وطلبت المغادرة "ما لم أكن قيد الاعتقال".
– بالطبع يمكنك المغادرة، لكن طلبك هذا سيذهب إلى الأرشيف، وستكون مطالبًا بالخروج من بلادنا خلال 15 يومًا.
نهضتُ، وغادرت. انتظرت خارج مركز الشرطة قليلًا، وحين خرجت المترجمة سألتها إن كان ما حدث مألوفًا، فردّت بالنفي والاستغراب، خاصة "أنك سوري".
* * * * *
نظرت إليّ الموظفة طويلًا. تفحّصت ملفي من جديد، تأملت قرار منحي الإقامة الجديدة، تأملت بطاقة إقامتي القديمة التي لم يمض على استلامي لها شهران، ثم سألتني:
– هل أنت متأكد أنك تريد استبدال هذه بتلك؟
– نعم.
– لكن هذه إقامة لجوء!
– نعم، أعرف.
تطلّب الأمر منها إجراء اتصال هاتفي للحصول على استشارة من شخص أكثر خبرة منها. تحدثت لدقائق، ثم أقفلت الخطّ وقالت لي: "نعم، يمكنك التخلي عنها".. وشرعت في الإجراءات، بينما خُيّل إليّ أنها قالت في سرّها: "رغم أنك سوري"!
* * * * *
"أنتمي إلى بلاد يحلم كثر ممن هم داخلها بالخروج منها، ويحلم كثرٌ ممّن هم خارجها بالعودة إليها، وكلما سافرتُ منها أو إليها شعرتُ أنّ عليّ الاعتذار من الطرفين". قلت هذه العبارات قبل مدة وجيزة في مناسبة عامّة، وفي اليوم التالي أخبرني صديقٌ أنّ إحداهنّ "سرقت" العبارات واستهلّت بها حديثها في مناسبة أكثر عموميّة. ابتسمتُ قائلًا: لا بأس، إنها مجرد كلمات.. ولا يمكنها حتى أن تملأ كيسًا، على حد تعبير إحدى شخصيات شكسبير. ثم رحتُ أردد في سرّي - كما اعتدتُ منذ سنوات – مقطعًا من قصيدة لسميح القاسم:
"ولم يبقَ في الأرضِ غيرُ الذينْ
يحبّوننا ميّتينْ
وإنً قدّر الله حسن النوايا، فقد يقبلونَ بنا لاجئينْ
ومُستضعفينَ، ومُستزفينْ".