ما زالت سوريا تمثّل أزمة اللاجئين الأكبر في العالم بحسب أحدث تقارير "المنظمة الدولية للهجرة"، World Migration Report 2024. واحد من كل خمسة لاجئين تقريبًا على مستوى العالم هو سوري بحسب التقرير. وتحتل سوريا المرتبة الخامسة عالميًا في عدد المهاجرين الدوليين، والأولى في نسبة المهاجرين إلى عدد السكان، إذ إن 85% من المهاجرين السوريين لهم صفة لاجئ. واللاجئون وفق القانون الدولي هم الأفراد الذين يضطرون إلى مغادرة بلدانهم الأصلية بسبب النزاعات أو الاضطهاد أو الكوارث.
تشير بيانات "المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR)" إلى وجود نحو 6.5 مليون لاجئ سوري "مهجّرين قسرًا" يتوزعون على 115 دولة في العالم، أكثر من 80% منهم مسجلين في خمس دول مجاورة لسوريا هي تركيا (3.1 مليون)، ولبنان (780 ألفًا)، والأردن (635 ألفًا)، والعراق (282.6 ألفًا)، ومصر (156 ألفًا)، و15% في دول الاتحاد الأوروبي يتركزون في أربع دول هي ألمانيا (522 ألفًا)، والسويد (111 ألفًا)، والنمسا (74 ألفًا)، وهولندا (56 ألفًا).
مكاسب مالية وخسائر اقتصادية
استطاعت الدول الخمس التي تجاور سوريا وتستضيف الحصة الأكبر من اللاجئين تحقيق مكاسب مالية تجاوزت 30 مليار دولار تحت مسمى "تلبية الاحتياجات الإنسانية للاجئين والمجتمع المضيف" خلال سنوات 2012 ــــ 2023، وهذه المكاسب تعادل 15% من الناتج المحلي الإجمالي لسوريا عن الفترة ذاتها مقيّمًا بالدولار الأميركي وفقًا لوسطي نشرة أسعار الصرف الرسمية، وتصبح النسبة أكبر إذا ما احتُسب الناتج المحلي بأسعار السوق الموازية.
ويبالغ الرأي السياسي في الدول المضيفة باستخدام المهجّرين قسرًا كشمّاعة لفشل السياسات المعتمدة، ويضع اللوم عليهم بزعم أنهم سببُ المشكلات الاقتصادية والاجتماعية بل حتى السياسية التي ترزح هذه الدول تحتها. وينطبق الأمر على الوكالات الأممية التي تستفيض في شرح الآثار السلبية على الدول المضيفة، وتسلّط الضوء على دورها "الإنساني" في التخفيف من معاناة المهجّرين قسرًا والمجتمع المضيف. في المقابل، لا تحظى التكاليف التي يتكبدها الاقتصاد السوري جرّاء الهجرة القسرية أهمية تذكر، إن لم يكن ذكرها معدوم تمامًا.
رحيل قوة عاملة شابة مؤهلة تأهيلًا عاليًا يقلّل من فرص النمو المحتملة في سوريا في المستقبل القريب
ويمكن أن نقرأ خسائر الاقتصاد السوري في إطار ثلاثة مسارات متكاملة ذات صلة مباشرة بظاهرة الهجرة القسرية وهي: التركيبة السكانية وهجرة الأدمغة، وبيئة عمل المهجّرين في الدول المستقبلِة، واحتمالية العودة.
التركيبة السكانية وهجرة الأدمغة
تظهر الآثار السلبية للهجرة القسرية الجماعية بوضوح في ثلاثة منعكسات رئيسة تتمثل في شيخوخة السكان، وعرض العمالة ورأس المال البشري، ورأس المال النقدي وريادة الأعمال.
تشير أرقام UNHCR إلى أن أكثر من 50% من المهجّرين قسرًا هم من الشريحة العمرية 18 ـــــ 59 سنة. وبهذا، فقد ساهمت الهجرة القسرية في ازدياد نسبة كبار السن (60 سنة وما فوق) في سوريا لتصل إلى نحو 8% من مجمل عدد السكان مقارنة بـ 6.7% في العام 2010. وهذا يؤثر بشكل كبير على قدرات المجتمع الادخارية وتقلّص نسبة الأموال المتاحة للاستثمار نتيجة تغيّر هيكل الطلب في الاقتصاد.
كذلك، فإن رحيل قوة عاملة شابة مؤهلة تأهيلًا عاليًا، أو ما يعرف بـ"هجرة الأدمغة"، يقلّل من فرص النمو المحتملة في المستقبل القريب. فالهجرة الجماعية أثّرت بشكل واضح على خفض متوسط مستوى رأس المال البشري، لا سيما في بعض القطاعات الحيوية، كالرعاية الصحية التي تعاني من نقص المهنيين المؤهلين فيها. على سبيل المثال، في ألمانيا وحدها، يوجد 6,120 طبيبًا سوريًا لا يحملون جواز سفر ألماني، وهو ما يشكل 20% من عدد الأطباء المتواجدين في سوريا أو 10% من إجمالي عدد الأطباء وأطباء الأسنان في سوريا.
وإذا ما نظرنا إلى المبالغ المستثمرة في تعليم الأدمغة المهاجرة والمهارات التي اكتسبتها في سوق العمل السورية، سنجد أن الاقتصاد السوري فقد أكثر من 50 مليار دولار مع الهجرة، ولا يمكن توقع احتمالية العودة لأن طول أمد الصراع عزز من حقيقة مفادها أن الأدمغة لن تعود إلى الوطن.
يُفترض بالجهات والدول المانحة أن تحوّل سياسات الاستجابة من نهج طارئ إلى نهج مستدام على المدى الطويل
ولا تقل أهمية هجرة رياديي الأعمال عن هجرة الأدمغة، فهؤلاء هم القادرون على خلق منتجات وأسواق وأماكن عمل جديدة، ويساعدون في زيادة الناتج المحلي الإجمالي. وبالتالي، فقد شكّل خروجهم من سوريا خسارة في القيمة المضافة الإجمالية، وهو ما يؤثر مباشرة على القدرة التنافسية للبلاد.
وتُبيّن دراسة صادرة عن منصة Ekonomistler التركية في العام 2017 أن السوريين استثمروا نحو 360 مليون دولار في الاقتصاد التركي من خلال إنشاء أكثر من 10,000 شركة صغيرة ومتوسطة توظف 9 أشخاص في المتوسط. ويدعم تقرير التنمية الدولية 2023 هذه الدراسة، حيث وجد أن "المنافع التي حققتها تركيا أكبر من تكاليف استضافتها السوريين"، وهذا ما يمثل شكلًا إضافيًا من أشكال الفرص الضائعة على الاقتصاد السوري.
بيئة عمل المهجّرين في الدول المستقبلة
إن تركّز أكثر من 85% من السوريين في دول تعاني من مشكلات اقتصادية كبيرة، منها التضخم وتدهور قيمة العملة المحلية ومعدلات البطالة المرتفعة (تركيا، ولبنان، والأردن، ومصر، والعراق)، يعني انخفاض قدرة السوريين العاملين في تلك الدول على الاستمرار في إرسال حوالات مالية إلى سوريا بانتظام. ومع طول أمد الصراع، تحوّلت الهجرة في سوريا من هجرة فردية إلى أخرى قائمة على الأسرة بكاملها، وهو ما يعني على المدى المتوسط تراجع التحويلات وانخفاضها.
يُضاف إلى ذلك التضييق الذي يعاني منه السوريين في كل من تركيا ولبنان، حيث يوجد أكثر من 60% من إجمالي المهجّرين السوريين، وهو يستهدف "حقهم في العمل" المنصوص عنه في الفصل الثالث (أعمال الكسب) من الاتفاقية الخاصة بوضع اللاجئين عام 1951. ويؤدي هذا إلى المزيد من إفقار المهجّرين وإلى استنزاف مدخراتهم وثرواتهم. وبالتالي، فإن الأثر الإيجابي للهجرة من خلال التحويلات سيضيع مع استمرار سياسات التضييق.
احتمالية العودة
يتعرّض السوري إلى هجرة قسرية مزدوجة؛ الأولى ناجمة عن مغادرة سوريا لأسباب خارجة عن إرادته، والثانية ناتجة من التهديد المستمر بتطبيق ما يسمى "العودة الآمنة" و"العودة الطوعية". والأخيرة، في حال تطبيقها مع تزايد الأوضاع الاقتصادية سوءًا في سوريا في ظل الإصرار على عرقلة محاولات "إعادة الإعمار" أو "رفع العقوبات" بذرائع ومطالب سياسية مختلفة، ستؤدي إلى مضاعفة الخسائر وتكرار المعاناة الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية للمهجرين مرة أخرى.
بناءً على ما سبق، يمكن القول إن الاقتصاد السوري من أكبر الخاسرين. لذلك، يُفترض بالجهات والدول المانحة التي تدّعي أنها تعمل على معالجة ملف "اللاجئين"، أن تحوّل سياسات الاستجابة من نهج طارئ إلى نهج مستدام على المدى الطويل، وهو ما يعني العمل على إعادة توجيه المساعدات الدولية والتمويلات الإنسانية بهدف دعم سياسات تنمية محابية للمهجّرين قسرًا، وذلك من خلال إيجاد الظروف التي تتيح العودة الطوعية، وبكرامة.
من هنا، فإن أحد الحلول الأكثر استدامة هو الاستثمار في المناطق التي ينحدر منها غالبية المهجّرين قسرًا. فلو أنفقت أموال الجهات والدول المانحة في الداخل السوري نحو إعادة إعمار تلك المناطق، وخلق فرص عمل لهم في الداخل السوري، لكانت حُلّت مشكلة الدول المستضيفة، خصوصًا الأكثر تذمرًا منها، وتحققت "الشعارات الإنسانية النبيلة" التي ترفعها الدول الأوروبية والوكالات الأممية.