نحن فعل الكون المضارع

"أكون أو لا أكون". أعتقد أننا نحن السوريون نقّدر هذا النوع من البلاغة بصورة خاصة. فعبارة هاملت تختصر معظم الصراعات التي عشناها في السنوات الماضية، بحيث توفّر علينا أطنانًا من الكلام الذي لا طائل من قوله.

"أكون، أو لا أكون، تلك هي المعضلة".

في الأونة الأخيرة، تضجّ عبارة الأمير هاملت هذه في رأسي طوال الوقت، وهي العبارة الأشهر ربما في أدب شكسبير والأدب الإنكليزي عمومًا. لماذا تبدو أشد الأفعال بساطةً مثل أن "يكون" المرء أكثرها تعقيدًا؟ أتأمل جمال هذا الفعل المنحوت لغويًّا ومستوياته المتعددة على صعيد الدلالة؛ فأحيانًا يبدو معناه مُجتزءًا، بحيث يشعر المرء أنه أمام جملة تَوقّفَ قائلها في المُنتصف دون أن يُكملها.

- "أن تكون ماذا؟" يحتاج السامع أن يسألَ حتى يتأكدَ من أنه فهم القصد من الكلام.

-  "فقط أن أكون"، تأتي الإجابة.

في خطابه ضمن مشهد الدير من الفصل الثالث في المسرحية التي حملت اسمه، كان هاملت يُفكر ما إذا كان حريًّا به أن ينتحر أو يُحجم عن ذلك. "أن أكون" التي قالها عنت "أن أحيا" مقابل الخيار المُتمثل بالإقدام على قتل النفس وازهاقها.

لكنّ هذا الفعل في الحقيقة حمّالٌ للمعاني باختلاف السياقات التي يُوظّف ضمنها، كما أن دلالته تتغيّر تبعًا لزمن الجملة. ولهذا يُسمى الفعلُ الماضي منه بالعربية "ناقصًا"، لأنه لا يكفي لاكتمال المعنى. فهاملت لا يمكن أن يكون بليغًا أو مفهومًا إن قال "أنا كنت". لكنه، وفي استخدامه الصيغة المضارعة من الفعل استطاع بكلمة واحدة قول جملة مكتملة.

أعتقد أننا نحن السوريين نقّدر هذا النوع من البلاغة بصورة خاصة. فعبارة هاملت على نحوٍ مدهش تختصر تقريبًا معظم الصراعات التي عشناها في السنوات القليلة الماضية، بحيث توفّر علينا أطنانًا من الكلام الذي لا طائل من قوله.

أمر الهويّة غريبٌ حقًا، فأنا لم أعرف إلا احتمالًا واحدًا من احتمالات شخصيتي إلى أن جرّبت العيش في سياقات جغرافية جديدة

ففي 2011، أردنا أن نكون مسموعين، حاضرين ومؤثرين في الزمان والمكان اللذين وجدنا فيهما. أردنا أن نُظهر أفكارنا ورغباتنا وندافع عن حاجاتنا المنسيّة أو المُنتهكة. بصورة أو بأخرى، "نريد أن نكون" التي قُلناها بصيغة الجماعة كانت طريقتنا في المطالبة بأن نعيش الحياة التي رأينا أننا نستحقها، في مواجهة كل من يُلغي وجودنا أو يستخف به.

ومع تتابع الأحداث وتعقّدها، اختبرنا من دون استعارات مستوىً مباشر من فعل "الكون"، يُقارب ربما المعنى الذي قصده هاملت في مطلع خطابه، والمُتعلق بالبقاء على قيد الحياة.

بخلافه، لم يُفكر معظمنا بالانتحار. في الحقيقة، لقد أردنا في السنوات التي تلت 2011 أن نبقى على وجه الأرض، أن ننجو من الموت، وأن تبقى قلوبنا تضخ الدماء في الشرايين وتسترجعها عبر الأوردة. بكل بساطة، أردنا ألا نتحوّل إلى أشلاء أو رماد جراء القصف والقذائف والبراميل والرصاص.

في مرحلة لاحقة ـــــ ما زالتْ ربما مستمرةً حتى هذه اللحظة من 2024 ـــــ بات فعل الكون بالنسبة للكثير من السوريين مقرونًا أبدًا بمكانٍ ما. "أين سنكون؟ هنا أو هناك، اليوم أو غدًا؟".

أعتقد أنّي اليوم شخصيًا عالقة في هذا المستوى من دلالات الفعل الذي أستخدمه للإشارة إلى تموضعي بالنسبة لمكانٍ ما.

حتى الثالثة والثلاثين من عمري كنت دائمًا في سوريا، واقترن معنى وجودي بعلاقتي العميقة مع مكان كنت وما زلت أحبّه بصورة تثقل قلبي.

في عام 2021 صرت في تركيا، واختبرت كيف يهتز المعنى بتغيّر الأرض من تحتي. وضعني هذا التغيّر الجذري أمام سؤالٍ جديد أشد تعقيدًا من كل ما سبق: "مَن أكون وأنا لست هناك؟". أمر الهويّة غريبٌ حقًا. فأنا، ولوقتٍ طويل، لم أعرف إلا نسخةً أو احتمالًا واحدًا من احتمالات شخصيتي إلى أن جرّبت العيش في سياقات جغرافيةٍ جديدة.

أحاول أن أتخيّل مشاعر أصحاب الوجود غير القانوني، فهؤلاء، حرفيًا، يحققون ما لم يُفكر فيه هاملت نفسه؛ أي أن يكونوا ولا يكونوا في اللحظة ذاتها

حين تولد في مكان وتكبر فيه، لا تفطن لوجودك ضمن هذا الحيّز كفعل يستحق التأمل. لكنّ الأمر يتبدّل حين تُطرد قسرًا منه أو تُجبر لسببٍ أو لآخر على تركه. تدرك حينها أنك ترغب في أن تكون فيه، لكنك ببساطة لا تستطيع.

من جهتي، ولأنّي لم أسكن بلادًا غير بلدي قبلًا، لم أتوقّع كم الجهد والمعاملات الرسمية اللازم إنجازها لشرعنة هذا الحق في الدوس على أرضٍ أخرى واستنشاق هوائها. أحاول أن أتخيّل مشاعر أصحاب الوجود غير القانوني. فهؤلاء موجودون في الحقيقة وأسماؤهم ممحوّة في الإضبارات والأوراق الحكومية. هم، حرفيًا، يحققون ما لم يُفكر فيه الأمير الحالم نفسه؛ أي أن يكونوا ولا يكونوا في اللحظة ذاتها.

يُمسي الأمر ثقيلًا بصورة مضاعفة حين نشعر بأن وجودنا في بقعة ما خارج بلدنا، فقط وجودنا، دون أن نصل حتى لتقييم نوعيّة هذا الوجود أو جدواه، مرفوضٌ من قبل آخرين. أي أن هؤلاء يفضّلون أن نكون في الفلا، البحر، أو اللامكان. أيّ مكان. المهم ألّا نكون "هناك"، في بلادهم ومعهم.

هنا تحديدًا، وبينما كنت أتأمل هذا الشعور الطاغي بالثقل الذي يخلقه الوجود أو الدفاع عنه في جغرافيا محددة، خطرت لي فكرة هذه المقالة.

ركبت ذات مرّة في الباص الأزرق الصغير المُستخدم بكثرة للتنقل ضمن الجزء الذي أعيش فيه من اسطنبول، وهو المعادل الأقرب للسرفيس الأبيض الموجود في سوريا. كنتُ يومها غارقةً في أفكاري، أعيش واحدًا من عشرات الصراعات الوجودية التي أختبرها طوال الوقت، لأن صراعاتنا بخلاف شعوب أخرى وجودية دائمًا، وبالضرورة.

يومذاك حسدت سائر الركاب على جلوسهم باسترخاء في الباص بوصفهم أصحاب المكان. هناك شابة شبه غافية تسند ساعدها إلى شبّاك الباص، ورجل بملامح مسالمة يقف غير عابئ بقيادة السائق الرعناء.

شعرت يومها أن هؤلاء الركاب في الباص يمارسون فعلًا اعتياديًا ولا يتوقفون للحظة واحدة لتأمّله أو التفكير فيه. هم لا يدركون أنهم موجودون في هذه اللحظة بخفّة ودون تعقيدات. "هم يكونون هنا والآن"، دون أن يمسي ذلك مطلبًا أو رغبة يتحدّون من أجل تحقيقها أنفسهم أو الآخرين.

أعتقد أن هذا الشكل من الوجود هو ما يستحق تسميّة "خفّة الكينونة التي لا تُحتمل". ونحن لم نختبر، للأسف، منذ وقتٍ طويل، خفّة من هذا النوع.

روميو على أريكة فرويد

لفترة طويلة، تكرّس معيار "التناغم" لدى الحديث عن العلاقات العاطفية الناجحة، بوصفه المعيار الأبرز لعلاقة م...

نور أبو فرّاج
زمن "الـسكوبات": الإعلام السوري الخاص غارقٌ في النميمة الفنية

كان يمكن التساهل مع المحتوى الإعلامي السوري لو كانت اللقاءات الصريحة والفظة مع المشاهير جزءًا من لقاءات ص...

نور أبو فرّاج
قطاع غزّة حبيس تلفزيون الواقع

المفزع في التشابه بين "تلفزيون الواقع" و"واقع غزّة" أن المُشاهد تجاوز مرحلة "اعتيادية مشاهد الدمار والقتل...

نور أبو فرّاج

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة