صناع المحتوى السوريون في الإمارات: الإبداع في مواجهة ظروف الحياة

 وفّرت الإمارات للعديد من صنّاع المحتوى، مساحة للإنتاج الإبداعي برغم ساعات العمل الطويلة في شركاتها ونظامها الرأسمالي القائم على تقديس الفردانية. هذه بعض قصصهم.

يُعتبر شهر أيار/مايو الشهر الأخير في موسم الهجرة إلى الإمارات بالنسبة للراغبين في الهجرة، ممن يبحثون عن عمل أو فرص حياة أفضل فيها أو في دول الخليج بشكل عام.

ويُقصد بالموسم هنا، الأشهرَ الممتدة من تشرين الأول/أكتوبر حتى أيار/مايو، حيث تكون الحرارة مقبولة إلى حد ما في دول الخليج الملتهبة في الصيف، ما يتيح للباحث عن عمل التنقل بسهولة لإجراء المقابلات أو تقديم السير الذاتية باليد للشركات.

صادفتُ هذه المعلومات بينما كنتُ أقلّب عشوائيًا في "ريلز" الإنستاغرام، يقدّمها شاب سوري يبدو في أوائل الثلاثينيات من عمره. واتضح لاحقًا، بعدما دخلت إلى الحساب، أنه متخصص في نشر النصائح حول الهجرة إلى الإمارات، متوجهًا في حديثه إلى الشباب السوري في الداخل، أي المهاجرين المحتملين بالضرورة.

فالوضع المعيشي في سوريا يزداد سوءًا منذ بداية الحرب، في ظل عجز الدولة عن تأمين الحاجات الأساسية للمواطنين من وقود ومياه وكهرباء، والذي يصحبه انهيار اقتصادي وارتفاع في نسب البطالة وتدني الحد الأدنى للأجور في القطاع العام إلى 280 ألف ليرة سورية بعد الزيادة الأخيرة، أي ما يعادل 19 دولار فقط.

دفع هذا الكثيرَ من الشباب في سوريا للبحث عن فرص حياة أفضل في مكان ما، وكانت الإمارات الوجهة الأكثر شعبية في السنوات الأربع الأخيرة بسبب تسهيلها إجراءات حصول السوريين على تأشيرة الدخول عام 2020، بعدما كانت تتطلب شروطًا معينة، بالإضافة لتوافر فرص عمل وسهولة الحصول على إقامة للأجانب وإنشاء حساب بنكي، وتوفيرها ما يسمى بـ"الإقامة الذهبية" لمدة عشر سنوات قابلة للتجديد للفنانين والمبدعين الأجانب وفق شروط معينة.

محتوى عن الهجرة

بعد مرور وقت قصير على هجرة السوريين بكثافة إلى أوروبا بين عامي 2014 و 2015، انتشر محتوى إلكتروني، خصوصًا على تطبيقي "يوتيوب" و"فيسبوك"، يحاكي متطلبات المرحلة ويقدمه المهاجرون أنفسهم. توجّه المحتوى إلى فئتين، فئة المهاجرين الواصلين إلى أوروبا حديثًا، وفئة الراغبين بالهجرة سواء من الداخل السوري أو من دول النزوح المجاورة.

وبالتالي، تنوّع المحتوى تبعًا لما احتاج السوريون إلى معرفته في ذلك الوقت. فحازت فيديوهات تعليم اللغة، ومشاركة التجارب مع البيروقراطية الأوروبية ومعاملات لم الشمل، والنصائح حول الحياة هناك، أو حتى توثيق لحظات فكاهية من الاندماج بين ثقافتين، على اهتمام الكثير من السوريين في أوروبا في ذلك الحين.

أما بالنسبة لفئة الراغبين بالهجرة، فقد راجت بين أوساطهم فيديوهات حول أنواع التأشيرات وأفضل الطرق للحصول عليها، فضلًا عن معلومات عن سوق العمل الأوروبي وأهم المهارات اللازمة للنجاح فيه.

يقدم مشروع "3 متر مربع" محتوى تشاركيًا وتفاعليًا ينتجه ورد بمساعدة الجمهور من الشباب السوري عبر فيديوهات يتكلمون فيها عن تجاربهم مع الهجرة 

استمرت صناعة هذا النوع من المحتوى إلى يومنا هذا، ولم تتأثر شعبيتها مع مرور السنوات، بل إنها ازدادت مع ازدياد أعداد المهاجرين والراغبين بالهجرة. إلا أنها شهدت تغييرًا في الوسيط الرقمي الذي تُنشر من خلاله، فتوجّه المدوّنون إلى منصات أخرى كـ"إنستاغرام" و"تيكتوك" لرواجها في السنوات الأخيرة بين الشباب على حساب المنصات الأخرى، وتغيّر معها حجم المحتوى وكثافته لاعتماد هذه المنصات على الفيديوهات القصيرة أو ما يسمى "الريلز".

اليوم، يكفي أن تتفاعل مرة واحدة مع أحد المنشورات المتعلقة بهجرة السوريين إلى الإمارات على "إنستاغرام"، حتى تُمطر عليك الخوارزمية بالعشرات من "الريلز" التي يقدّمها الشباب السوري هناك، وتتناول مواضيع متنوعة لا تقتصر على المحتوى التعليمي أو التوعوي، بل تشمل أيضًا محتوى كوميدي ـــــ اجتماعي مستوحى من واقع الحياة في الإمارات، ومحتوى يرقى لمستوى مشاريع ناشئة تحاول تفكيك الجانب السيكولوجي للمهجر، أو الاحتفاء بالفن والفنانين السوريين في الشتات. 

3 متر مربع

"هي تجربة الهجرة بكل ما تحمله من ضغوط نفسية وتحديات مادية واجتماعية وصدمة حضارية وغيرها من المفاجآت. هي المساحة الأنسب لمواجهة ذاتك، ورسالة تشجيع على أنك تستطيع فعل ما تريده حتى لو كنت تعيش في مساحة ضيقة جدًا"، هذا ما قاله لي ورد حسن، 26 عامًا، عندما سألته عن معنى اسم مشروعه "3 متر مربع" الذي أطلقه عبر منصة "إنستاغرام" في كانون الأول/ديسمبر الماضي.

يقدم المشروع محتوى تشاركيًا وتفاعليًا ينتجه ورد بمساعدة الجمهور من الشباب السوري عبر فيديوهات يتكلمون فيها عن قصصهم وتجاربهم مع الهجرة أو عن الـ 3 متر مربع خاصتهم. فيسعى ورد إلى تحويل هذه التجارب التي تنضوي تحت اسم المشروع إلى مفهوم بحد ذاته، يصوّر حالة نفسية وشعورية معينة وأدوات للتعامل معها، ويخبرني في سياق ذلك أنه أصبح يسأل أصدقاءه: "كيف الـ 3 متر مربع تبعكن هالأيام؟".

انتقل ورد للعيش في دبي عام 2022، بعدما فقد الأمل في تطور حياته العملية في سوريا، وبسبب غياب الاستقرار النفسي والمادي والاجتماعي على حد قوله. يعيش ورد في "بارتشن"، أي غرفة بمساحة 3 متر مربع مع مطبخ وحمام مشتركين، وقد كان هذا الخيارَ الأنسبَ له لتأمينه خصوصية نسبيّة وفق الميزانية المتاحة، ومنه استوحى فكرة مشروعه واسمه.

استطاع المبدعون السوريون، من صناع محتوى وغيرهم، تحويل المهجر إلى فرصة للتلاقي والتشارك والدعم

"في البداية، كانت المساحة الضيقة مصدر إحباط شديد في كل مرة فكرت فيها بمشروع ما. ولكنّي قررت في يوم من الأيام، بعد مكالمة صوتية مع أختي في فرنسا، أن أستغلّها بما أنها الموجود الوحيد المتاح، ففكّرت بتسمية المشروع تيمّنًا بهذه المساحة. تعلّمت أن الإنسان يستطيع أن يحوّل الضغوط وصعوبات الحياة في المهجر إلى شيء مفيد في حال تعامل معها بتنظيم وإيجابية، أي أن السر يكمن في العقلية التي تواجه من خلالها الواقع. وقررت مشاركة تجربتي مع الناس وتشجيعهم على مشاركة تجارب مماثلة من خلال هذا المشروع"، يقول ورد مشاركًا معي معلومات أكثر خصوصية عن المشروع، ثمّ يضيف: "هدفي من المشروع أن يشعر الناس الذين يعيشون ظروفًا مشابهة لتلك التي أعيشها حاليًا بأنهم ليسوا الوحيدين، وأن أعطي فكرة للسوريين في الداخل، الراغبين بالهجرة، عن طبيعة الصعوبات التي يمكن أن يواجهوها في المهجر، وكيفية التعامل معها".

طرف الخيط

بدأت فكرة المشروع بمزحة بين الأصدقاء، لكنها اتخذت منحىً جديًا بعد التفكير بالأهداف المحتملة لها والتغيير الممكن أن تحدثه. وبرغم كثافة محتوى التدوين الصوتي أو "البودكاست" في العالم العربي، إلا أن أليسار وجاد يؤمنان بأن مشروعهما قادر على البروز وعلى إحداث فرق. تقول أليسار سيدا، 26 عامًا: "أستمع منذ زمن إلى العديد من برامج التدوين الصوتي (البودكاست)، ولم أكن على دراية بوجود برامج سورية إلى أن بدأنا البحث عنها، واتضح أنها موجودة بكثرة، ولكنها غير معروفة بسبب ضعف الترويج لها".

انطلاقًا من فكرة ضعف التسويق للفن والفنانين وصناع المحتوى السوريين، بدأ مشروع "طرف الخيط"، وهو "بودكاست" تقدمه أليسار وزوجها جاد جليلاتي من شقتهما في دبي، حيث يستضيفان فنانين ومبدعين سوريين في المهجر من مختلف المجالات، آخرهم الفنان التشكيلي السوري مجد كردية. وبرغم أن "إنستاغرام" هي المنصة التي يتم فيها الترويج للمشروع وعرض مقاطع من المقابلات أو teasers، إلا أن الحلقات الكاملة تُعرض على "يوتيوب".

تشرح لي أليسار أكثر عن أهداف المشروع قائلة: "هدفنا من المشروع هو تسليط الضوء على المواهب الشابة التي لم تحظَ باهتمام كافٍ، وتحفيز الشباب على الإبداع من خلال التعرف على رحلات فنانين آخرين يسلكون الطريق نفسه أو يواجهون الظروف ذاتها. برأيي، الشعب السوري هو شعب مبدع، لكنه يحتاج إلى الدعم والتسويق السليم لنفسه، وهذا ما نحاول أن نفعله من خلال مشروعنا، بالإضافة طبعًا إلى الإضاءة على أشكال الفن المختلفة".

تقول أليسار لدى السؤال عن اختيارها الهجرة إلى الإمارات بالتحديد: "انتقلت إلى الإمارات مع زوجي منذ أكثر من سنتين بحثًا عن فرص عمل ومصدر دخل جيد، واخترناها لأنها كانت البلد الوحيد المتاح لدخول السوريين بسلاسة وسرعة. لكننا لا نفكر في الاستقرار فيها بشكل دائم، بل نعتبرها كمحطة".

 وفّرت الإمارات لجاد وأليسار وورد، كما العديد من صناع المحتوى، مساحة للإنتاج الإبداعي برغم ساعات العمل الطويلة في شركاتها ونظامها الرأسمالي القائم على تقديس الفردانية. استطاع المبدعون السوريون، من صناع محتوى وغيرهم، تحويل المهجر إلى فرصة للتلاقي والتشارك والدعم، حتى لمن ما زال منهم داخل البلاد. 

"كانوا مفكريني ملبوسة من جنّي": الاكتئاب عند اللاجئين السوريين

برغم دور خدمات الصحة النفسية في التخفيف من حدة أعراض الاكتئاب على المدى القصير، فإن المصابين به من اللاجئ...

سارة خازم
لاجئون بلا مسكن

في الفترة الأخيرة، تعالت أصوات حقوقيين في لبنان مطالبة بوقف الإجراءات التعسفية بحق اللاجئين السوريين في م...

سارة خازم
الصحّة الجنسيّة والإنجابيّة في تجمّعات اللاجئين السوريين

تواجه اللاجئات معوقات مادية وقانونية وثقافية تتعلق بالوصمة الاجتماعية المرتبطة بالإجهاض، بالإضافة لنقص ال...

سارة خازم

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة