مسلسل الحشاشين (4): ثورة حسن الصبّاح بين أسطورتين

ما كان "الحشاشون" شياطين. وفي لحظات بعينها، في البدايات، كانوا إلى الحق من أعدائهم أقرب. لم ينصّبوا أنفسهم أصحابًا لمفاتيح الجنّة، ولم يفتُهم أنّ الجنّة جنتين، واحدة على الأرض والثانية في الآخرة، تمامًا مثلما أنّ لكل شيء من الموجودات ظاهرًا وباطنًا.

لا غضاضة في اعتماد اللهجة المصريّة في مسلسل "الحشّاشين". ولو وقع الخيار على العربية الفصحى، لما كان على ذلك مأخذ وجيه أيضًا. يمكن استخدام اللسان الذي نريد للتسّلل الخيالي والدرامي للحقبة التاريخية التي يُراد الاستظلال بها كمسرح للأحداث.

قد تضفي الفصحى على العمل الدرامي التاريخي طابعًا "تراثيًا" يُحدث في المشاهد تحسّسًا أكبر بمعنى الرحلة الزمنية والرجوع القهقرى إلى حقبة غابرة. وقد تتكفّل العامية، خصوصًا المصريّة منها، بجعل الشخصيات نابضة بالحياة أكثر.

والفصحى، إن كان للغيرة عليها ما يبرّرها في ما يتّصل بمسلسلات تاريخية مستوحاة من شخصيات ونُتف ومفاصل أساسيّة من تاريخ الإسلام، من حيث هو دين ومن حيث هو حضارة، لا حظّ جدّي لها عند تناول حقبتنا المعاصرة في عمل سينمائي أو تلفزيوني. إلا أنّ استبدالها بالعامية من شأنه الإسهام في تفكيك التصوّر "العرب – مركزي" عند تناول تاريخ حضارة إسلاميّة، كانت في عصر نظام الملك وحسن الصبّاح تحديدًا تخطو باتجاه تعزيز ما اصطُلح على تسميته "حضارة الألسن الثلاثة"، العربي والفارسي والتركي.

في المرحلة التي يدّعي مسلسل "الحشّاشين" تناولها، وفي المناطق التي تدور فيها أحداث المسلسل، من أصفهان حتى بلاد الديلم، وبها قلعة "ألموت"، ما كان للعربية الفصحى، ولا لأي لهجة محكيّة من العاميّات العربية، انتشار واستخدام كي يُقال إنها كانت بذاك العصر، من العامية المصرية، أَولى. وعليه، فإن استخدام العامية هنا يمكنه أن يزعزع التصوّر الشعبي الخاطىء بأن الحضارة الإسلاميّة في العصر الوسيط كانت ترطن بالعربية صبحًا ومساء، وفي كل الأمصار والأقطار.

أكثر من ذلك، إن كانت العربية بالفعل هي اللغة التي اختار "غير العرب" من وزن الفارابي وابن سينا والبيروني والغزالي وضع معظم نتاجهم فيها، فإن القرن الحادي عشر الميلادي، الخامس للهجرة، كان عصرًا تواصلت فيه النهضة الثقافية والأدبية للغة الفارسيّة للقرن الثاني على التوالي. تلك النهضة التي دشّنها الشاعر السمرقندي الرودكيّ، واشتدّ وهجها مع إتمام أبي القاسم الفردوسي ملحمة "الشاهنامه"، استكمالًا لما كان قد شرع به أبو منصور دقيقي البلخي. 

استخدام العامية هنا يمكنه أن يزعزع التصوّر الشعبي الخاطىء بأن الحضارة الإسلاميّة في العصر الوسيط كانت ترطن بالعربية

لقد رعت بلاطات الصفاريين والسامانيين والبويهيين والغزنويين والسلاجقة هذه النهضة الأدبية للغة الفارسية، ولو أن الدولتين الأخيرتين في هذا التعداد، أي الغزنوية والسلجوقية، انبثقتا من العنصر التركي.

في القرن الذي شهد ولادة الشخصيات التاريخية التي يعبث بها مسلسل "الحشاشين"، كانت الفارسيّة تُوطّد مكانتها بقوّة كلغة ثقافية أولى في شرق العالم الإسلامي. فهذا، بالإضافة إلى الفردوسي، قرن الشاعر عنصري البلخي، وملحمته "وامق وعذرا"، وملحمة "كرشاسب نامه" لأسدي الطوسي، وهو قرن "رباعيّات" عمر الخيّام بالفارسية أيضًا. هذا الخيّام الذي يسجنه المسلسل في شخصيّة لا تنفك تسأل نفسها بكل فجاجة "مين هوا عمر الخيّام؟".

لا يعني ذلك أنّ العربية انطفأت في ذلك القرن في بلاد فارس وما وراء النهر وشرق العالم الإسلامي، فأبو ريحان البيروني القادم من خوارزم كتب تحفتيه "تحقيق ما للهند" و"الآثار الباقية عن القرون الخالية" بها. وعبد القاهر الجرجاني من جنوب شرق بحر قزوين في ذلك العصر كان من أبرز نحويّي العربية وعلماء بلاغتها، وأبو حامد الغزالي وضع "تهافت التهافت" و"إحياء علوم الدين" بلسانها، مثلما صاغ الكتابَ المقابل لـ"الإحياء" أي "كيمياء السعادة" بالفارسية.

بين "سفر نامه" و"سياست نامه"

 أمّا على صعيد الدعاة الإسماعيليين في شرق العالم الإسلامي، فكانت الفصحى هي اللغة التي تحظى بالامتياز عند "حجة العراقين" حميد الدين الكرماني، إذ كتب بها "راحة العقل"، الذي يُعدّ لحظة البناء الفلسفي النسقيّ بامتياز في تاريخ المذهب. لكنّ تحوّلًا طرأ لاحقًا في مجرى القرن الخامس الهجري هذا، باتجاه تكريس اللغة الفارسية، وقد تجذّر هذا التحوّل على نحو أساسيّ مع ناصر خسرو، سواء في كتابه "جامع الحكمتين" ويؤلّف فيه بين العرفان الإسماعيلي وبين فلاسفة الإغريق، أو في شعره الفلسفي، أو في كتاب رحلاته وسياحاته "سفر نامه" الذي يُخصّص فيه حيّزًا وافرًا لإقامته منذ عام 1047م، ولثلاثة أعوام، في مصر الفاطميّة في عصر الخليفة المستنصر بالله.

ينقل خسرو في كتابه انبهاره بالعمران في مصر، ويُقرّب نظام الجباية فيها من قيم العدل المأمول، رغبةً منه بالطعن بنظام الجباية المُعتمد عند السلاجقة. وقد سبق لناصر خسرو قبل رحلته أن عمل في إدارتهم. حسن الصبّاح، أيضًا، يرتبط صعود نجمه، بعد استيلائه على قلعة "ألموت" عام 1090، ودوره الطليعيّ في قيادة الانشقاق النزاري عن مصر الفاطمية بعد 1095، باعتماد اللغة الفارسيّة كلغة دينيّة في بلاد فارس بمعناها الأوسع، في حين بقيت العربيّة لغة النزاريين الدينية في بلاد الشام.

وإذا كان الباعث إلى مصر في حالتي ناصر خسرو وحسن الصبّاح هو الغرض نفسه، فقد لعب الفارق الزمني، أي العقود الثلاثة الفاصلة بين وصول الداعيَين إلى القاهرة، دورًا أساسًا في انبهار الأوّل وخيبة الثاني من مصر الفاطميّة. 

وإذا كان الاضطهاد السلجوقي بعد ذلك قد دفع بناصر خسرو للاعتصام بجبال بدخشان (أقصى شمال غرب أفغانستان) في سلسلة الهندكوش، ناشرًا المذهب الإسماعيليّ في قوم الطاجيك، موجدًا طائفة لا تزال مستمرة هناك إلى يومنا، فإنّ حسن الصبّاح وقع اختياره على قلاع جبال البرز شمال غرب إيران، في بلاد الديلم، ليس فقط للاعتصام بها بعد اشتداد التضييق على المذهب، وإنما لمقارعة طويلة المدى مع السلاجقة.

المقارنة بين مسارَي ناصر خسرو وحسن الصبّاح هي المدخل الضروري لمن يسعى إلى فهم حركة هذا الأخير.

في حالة خسرو، انبهارٌ بالدولة الفاطمية كمثال حيّ على "تطبيق الدعوة"، وإيثارها البحث عن "دار هجرة" انطوائية في جبال بدخشان.

في حالة ابن الصبّاح، خيبة من الفاطميين، خصوصًا بعد انتقال السلطة في القاهرة إلى "وزارة التفويض" مع بدر الجمالي، وبشكل لا رجعة فيه مع استبعاد نزار عن الإمامة – الخلافة، ثم التنكيل به.

وفي حين كان بوسع لناصر خسرو أن يتقبّل أن تكون "دار هجرته" في بدخشان، انزوائية، انطوائية، طالما أنّ امبراطوريّة تدين بمذهبه لا تزال موجودة على ضفاف النيل، فإنّ "دار الهجرة" الهجوميّة، في حالة الصبّاح، تأسست، بخلاف ذلك، على الإدراك بأنّه لم يعد يُعوَّل على الفاطميين، وأنّ الإسماعيليّة لا يمكن أن تستمر إلا بالانسلاخ عنهم قبل أن يغرق مركبهم نهائيًا.

من لم يقفز من مركب الفاطميّة، كما فعل النزاريّون أولًا، ثم كما فعل الطيبيّون ثانيًا، اندثر معها

وبالفعل، فإنّ الفرعين من الإسماعيليّة الموجودين إلى يومنا هما إما نتيجة انشقاق القسم الأكبر من الدعاة الشرقيين عن القاهرة بعد مقتل نزار عام 1095، ورفضهم الاعتراف بإمامة أخيه الأصغر، المستعلي، بحجة عدم جواز تبديل الوصيّة، أو نتيجة لانشقاق الدعاة، لا سيما اليمنيين، وعلى رأسهم الملكة أروى الصليحيّة، عن القاهرة، بعد وفاة الخليفة الآمر بأحكام الله، ابن المستعلي عام 1132، ورفضهم الاعتراف بإمامة ابن عمّه الحافظ لدين الله، بحجة أن الإمامة لا تنتقل إلا في الأعقاب (أي من الأب لولده).

أما ذلك القسم من الإسماعيليين الذي التزم بخط الخلفاء – الأئمة الفاطميين الرسميين حتى النهاية، أي حتى إلغاء صلاح الدين الأيوبي لهذه الخلافة، فلم يعد لهم استمرارية بعد ذلك. فمن لم يقفز من مركب الفاطميّة، كما فعل النزاريّون أولًا، ثم كما فعل الطيبيّون ثانيًا، اندثر معها.

بهذا المعنى يمكن الحديث عن "استشرافية" كل من ناصر خسرو وحسن الصبّاح والملكة أروى. وبهذا المعنى أيضًا، يمكن إدراك البون الشاسع بين دور الصبّاح التاريخي في إنقاذ الإسماعيليّة وبين الفكرة التي يسعى إلى تشكيلها مسلسل "الحشاشين". فهذا العمل يحاول أن يتفاوض معك كالتالي: يقول لك لا تناقشني في التاريخ يا أخي، هات أطربني بالمديح في ما يخصّ تقنيات الإبهار التي أتحفتُ المشاهدين بها. ثم يقول لك المسلسل: ما رأيك بهذه الصفقة؟ أنا أعترف لك بذكاء حسن الصبّاح وأنت تعترف لي بأنّ الصبّاح استخدم ذكاءه هذا وعلمه من أجل التخريب وبث الشرّ، ولأنه لا يحب ولا يعبد إلا نفسه، وكل ما طلبه من بعد عبادته لنفسه وتعبيد فدائييه ومريديه لصورته هو أن يتسلى بمصائر من حوله. يصرّ المسلسل على أنّ الضجر والسأم كانا يقضان مضاجع حسن في "ألموت" طوال الوقت، وأنّه ما كان بمقدوره معالجة هذا الضجر إلا بالإجرام والإرهاب.

الخروج من التشنيع على النزاريين لا يكون في المقابل بالتشنيع على السلاجقة. فليس كذلك يُشتغل في التاريخ، وليس كذلك ينقّب فيه عن مواد يمكن الاستيحاء منها ابداعيًا. مع ذلك، لا يمكن فهم عنف "الحشاشين" من دون فهم "عنف" السلاجقة، وبالأخص في بلاد الديلم. لنقرأ ما كتبه الوزير نظام الملك في "سياست نامه" ونسبه إلى السلطان السلجوقي ألب أرسلان: "لقد أعزّ الله الترك اليوم وسلّطهم على رقاب الديالمة، لأنهم (أي الترك) مسلمون خُلّص لا يعرفون البدع والأهواء، أما الديالمة فهم منشأ البدع والمذاهب الفاسدة، وخصومنا. إنهم سيظلون يدينون لنا بالطاعة والولاء – ما داموا عاجزين – لكنه إذا ما اشتدّ ساعدهم قليلًا، وآنسوا من جانبنا ضعفًا، لن يُبقوا آنذاك على وجه الأرض تركيًا، من حيث المذهب ومن حيث الولاية، فأولئك قوم أدنى من الحمير والبقر، لا يعرفون عدوّهم من صديقهم". هل من العبثي بعد قراءة هذه السطور فقط أن تتمرّد قلاع على السلاجقة في مناطق الديلم؟!

مسلسل "الحشاشين" لا يحب الخوض في هذا، وهو يظهر الوزير نظام الملك كمغلوب على أمره، في حين أن الرجل كان يملك فضلًا عن ثروة ضخمة، وإقطاعات واسعة، فرقًا عسكرية تدين بالولاء له لا للسلطان السلجوقي، وفضلًا عن دوره المحنّك في قيادة الدولة، وفي الموازنة بين شوكة السلطان السلجوقي ومقام الخليفة العباسيّ، فإن نظام الملك نفسه هو الذي بنى المدارس، "النظاميّات"، من بغداد إلى نيسابور، كأوقاف تدرّس المذهب الشافعي، وليس مذهب السلاجقة الحنفيّ. ومثلما وُجد من يعتبر أنّ فكرة "الرهبانيات العسكرية" استوحاها الصليبيّون من "الحشّاشين"، وُجد من رأى في نظاميّات القرن الحادي عشر للميلاد، بداية للكليات الجامعية التي استوحت أوروبا منها. الأمران جائزان.

رواية مقتل ابني حسن الصبّاح

لكن، مهلًا، هل قام حسن الصبّاح بقتل ولديه؟

كاتب المسلسل مضى رأسًا لهذه الرواية يبني عليها ما يستطيع. والمشاهدون المتعاطفون مع ابن الصبّاح ساءهم ذلك ونفوه على طول الخط. الأمر ليس بهذه السهولة.

المصدر الأساسي الذي عنه تنقُل جميع المصادر، هو الشاعر والمؤرّخ الخراساني عطاء الله ملك الجويني (ت 1283م) في "تاريخ فاتح العالم" المكتوب بالفارسيّة، والذي يتعقّب فيه حملات المغول على البلاد الإسلاميّة، من موقعه المتعاون معهم، بصفته أولاً شقيقًا لصاحب الديوان عند القائد المغوليّ هولاكو خان، ولدوره ثانيًا في تحرير الشروط التي كان يصدرها هولاكو للمدن والقلاع التي كان يحاصرها، وصولًا إلى حملة هولاكو في بلاد الديلم، على قلاع الإسماعيليين النزاريين، وفي طليعتها قلعة "ألموت".

يذكر لنا عطاء الله أنّ هولاكو سمح له بعد استيلاء الجند على القلعة بأن يدخل مرصدها الفلكيّ ومكتبتها ويُجري جردة بما ينفع مصادرته وبما ينبغي له أن يُحرَق.

فأوصى الجويني بإحراق المكتبة، وهذه جريمة لاحقة بالفكر الفلسفيّ واللاهوتيّ وبتاريخ العلوم، من العيار الثقيل، وبنقل أدوات المرصد إلى المغول.

وجد الجويني أيضًا في القلعة "سيرة سيدنا"، وهي سيرة أعدّها أبناء القلعة عن حسن الصبّاح، ويرّجح فرهاد دفتري في "الإسماعيليّون: تاريخهم وعقائدهم" (2007) أن تكون مبنية في قسم منها على سيرة ذاتية مفقودة لإبن الصبّاح نفسه.

عمد الجويني إلى تلخيص "سيرة سيدنا" إنّما من وجهة نظره، ومع الإكثار من اللعنات على سيّد "ألموت" الأوّل خلال تكثيفه لها. ويذكر الجويني في هذا الصدد أنّ اغتيال الداعية النزاريّ حسين القائيني، قياديّ الحركة في قوهستان، أثار فتنة في الجماعة، واتهم فيها "أستاذ حسين"، نجل ابن الصبّاح، بالإيعاز بالاغتيال. وعلى هذا الأساس أمر والده بقتله، ليتبين بعد مضيّ عام أنّ الوشاية بأستاذ حسين جاءت من زيد بن حسنيّ الذي كان يدعو لنفسه سرًّا داخل "ألموت" نفسها، ولا نعرف إذا كانت شخصية "زيد بن سيحون" الخياليّة في مسلسل "الحشاشين" مستوحاة في طرف منها من حكاية زيد بن حسني هذا، علمًا أنّه لا يقف في المسلسل وراء الإيقاع بأستاذ حسين، وإنّما وراء التغرير بالنجل الثاني للصبّاح، محمد، بشرب الخمر.

ليس هناك باب لوضع إعدام حسن الصبّاح لولده في إطار مسعى ترويجيّ لصورة عنه كمستعدّ للتضحية بولديه كقرابين في سبيل تقوية صورته

في السردية التي يُعدّ كتاب عطا الجويني مصدرها، تبرز العلاقة اللامتناسبة بين تعاطي الخمر وعقوبة الإعدام في حالة محمد ابن حسن الصبّاح، في مقابل العلاقة المتناسبة تمامًا بين التورّط في اغتيال قياديّ في الجماعة النزاريّة الفتيّة، من طينة الداعي حسين قائيني، وبين إنزال عقوبة الموت بالمتهم في إعطاء التوجيه بذلك، أستاذ حسين ابن حسن. المنطقيّ هنا أنّه لو ظهر ابن حسن الصبّاح متورّطًا في قتل قائيني، فإنّ منع إنزال القصاص عنه كفيل بتفجير لحمة الجماعة.

اللافت من ثمّ أنّ هذه السردية نفسها تعود وتفيد بأن أستاذ حسين ذهب ضحية مكيدة تكشّفت خيوطها بعد حين، وأنزل القصاص بمدبّرها. في الحالتين، ليس هناك باب لوضع إعدام حسن الصبّاح لولده في إطار مسعى ترويجيّ لصورة عنه كمستعدّ للتضحية بولديه كقرابين في سبيل تقوية صورته هو. كان بإمكانه في هذه الحالة أن يبعث بهما في العمليات "الفدائيّة" التي صُبغت بها ذاكرة "الحشّاشين". إعدام ابن حسن الصبّاح لتورّطه في قتل الرجل الثاني في الجماعة في حينها حدث منطقيّ للغاية، لا سيّما في ظروف مطالع القرن الثاني عشر للميلاد. ما يدعو للتحوّط أكثر هو تكملة هذه السردية، والتي تفيد بأنّ أستاذ حسين ذهب ضحية تآمر من داعية آخر، كان يعمل، بالخفاء، على الدعوة لنفسه.

المشكلة المذهبية – الأيديولوجية للمؤرخ الجوينيّ مع الإسماعيليين، ومرافقته هولاكو في تخريب قلاعهم، معطيان يدعوان أيضًا للاحتراس مما يسرده في كتابه. أما مخطوطة "سيرة سيدنا" التي يبني عليها، فحتى لو نقل عنها بأمانة، قد يكون الخبر فيها عن قتل ابن الصبّاح لولديه، الأوّل بتهمة قتله أحد أهم الدعاة وأصحاب أبيه، والثاني بتهمة معاقرة الخمر، لغرض من اثنين: إما اصطناع هالة من "العدل" الصارم والأسطوريّ حول سيّد "ألموت" الأوّل، يُحاكى فيه الحديث النبويّ "لا يدخل الجنّة منّان، ولا عاق، ولا مدمن خمر" ويُراد من خلاله تقوية الانضباط في الجماعة، أو اصطناع سردية تفسّر عدم انتقال الزعامة إلى ذريّة ابن الصبّاح من بعده، بل إلى بزرك أميد ثم نجله محمد.  

بالتالي، ثمّة مداخل عديدة للطعن في حكاية إنزال حسن ابن الصبّاح عقوبة الموت بولديه، مع اللاتناسب الفظيع في التهمة الموجّهة لكلّ منهما.

مع ذلك، فإنّ مؤرّخًا يعبّر في نهاية المطاف عن الوجهة الرسميّة للإسماعيلية النزاريّة المعاصرة، ولو بقالب أكاديميّ، وهو فرهاد دفتري، فهو لا يطعن في خبر قتل ابن الصبّاح لولديه، بل يذكر أن "الإثم الذي اقترفه محمد هو شرب الخمر، بينما اتُهم أستاذ حسين بالضلوع في جريمة قتل الداعي حسين قائيني في هوستان، وهو اتهام تبيّن في ما بعد أن لا أساس له من الصحّة".

في المقابل، يذكّرنا دفتري بأنّ "سيرة سيدنا" تضمنت الرواية الأسطوريّة حول تزامل ابن الصبّاح ونظام الملك وعمر الخيام في التتلمذ على يد الشيخ النيسابوري، وهي الرواية المستبعدة بسبب من التفاوت الكبير في الأعمار.

أن يكون مؤرخ من وزن دفتري قد فضّل الأخذ بخبر قتل ابن الصبّاح لولديه فليس هذا بتفصيل. الافتراض هنا أن دفتري استشعر أنّ عدم الأخذ بهذه السرديّة سيطرح على الإسماعيلية النزارية مشكلات أكبر، تتصل بتاريخ القلعة بعد رحيل الصبّاح، وكيفية التعاقب على القيادة من بعدها. 

ذكرُ الجويني لخبر مقتل ولديّ حسن الصبّاح على يديه، الأوّل بتهمة تسببه بتآمر على أحد أهم الدعاة النزاريين، وتستوجب بمعيار الحدود إنزال القصاص به، والثاني بتهمة لا تستوجب القتل، وهي معاقرة الخمر، يفتح بالفعل سردابًا سعى النزاريّون إلى إغلاقه. المسلسل الرمضانيّ يعكّز بشكل أساسي على مصرع ولدي حسن. يضيف عليهما فانتازيا قتل حسن الصبّاح لامرأته المسماة في المسلسل "دنيا زاد". ما تقرأه في تاريخ الجويني، نقلًا عن "سيرة سيدنا" وسوى ذلك مما أطلع عليه هذا المؤرخ المصاحب للمغول، أن حسن الصبّاح كان من الأساس قد بعث بامرأته، مع ابنتيه، إلى قلعة نزارية أخرى، كركدوه، موصيًا الدعاة فيها بإنه "إذا قامت هؤلاء النسوة بالعمل على المغزل من أجل الدعوة، فاعطهن أجر حاجتهن".

وفي المسلسل، يصوّر حسين ابن حسن الصبّاح على أنّه قتل بنفسه الداعي القائيني، وأنّه رفض التندّم على فعلته، ولذا قُتِل، في حين تحاك فاتنازيا كليّة حول مقتل الابن الآخر، محمد، واسمه في المسلسل "الهادي". هنا لا بدّ من التسجيل لكاتب قصة المسلسل أنّه لمس خفّة في عزو المصادر القديمة مقتل هذا الابن لمعاقرته الخمر، وإن بدأ المسلسل سرد حكاية هذا الابن على أنه بالفعل غُرّر به لمعاقرتها من قبل الداعي المكلّف بتربيته، والمستبعد من حظوة سيد القلعة. ثم ظهر هذا الابن بصفة من يهرّب أمه وأخته وإحدى "حوريات" الجنة – الخدعة المزعومة، من أحد أبواب القلعة في الليل، ومع ذلك لم يُنزل به القصاص من والده وإنما قضى غدرًا على يد برزك، الذي قتل أيضًا في المسلسل ابنًا آخر للصبّاح أنجبه من ابنة أحد الرعيان.

الأرجح أن ابني الصباح قُتلا نتيجة الصراعات ضمن الجماعة الواحدة، ويبدو أنّها كانت كثيرة، وليست جميعها تحت سيطرة والدهم بالضرورة

الفانتازيا هنا لا تؤسس على أي مصادر تاريخية، لكن يقتضي الإقرار بأنها تبني على عناصر الضعف في رواية قتل ابن الصبّاح لابنه محمد بداعي تعاطيه الخمر، وتشتبه كذلك بأنّ من خلف الصبّاح في منصب الحجّة في "ألموت" كان له مصلحة في هذه السردية، فتتهم برزك بأنه القاتل، وتقيم مفاصلة بين نموذج ابن الصبّاح كصاحب علم وكاريزما، ومع ذلك يسخّر كل ما لديه لتأليه نفسه وبث الشرّ في العالم، وبين نموذج برزك كمعدوم الكاريزما، وشخص انتهازيّ محض، لكنه يتمكن من إذاقة ابن الصباح السمّ الذي هو طبخه، من خلال إفناء ذريته. وبما أنّ "سيرة سيدنا" تنص على أن الصبّاح بقي لسنين طويلة لا يخرج من القصر الذي كان يقيم فيه سوى مرتين، صعد خلالهما إلى سطح القلعة، سيستنتج المسلسل أنّه بات عمليًا سجينًا لبرزك.

الأرجح أن ابني الصباح قُتلا نتيجة الصراعات ضمن الجماعة الواحدة، ويبدو أنّها كانت كثيرة، وليست جميعها تحت سيطرة والدهم بالضرورة. وعلى مرّ التاريخ، لم يكن قتل الابن أو قتل الأب من الأمور النادرة الحدوث في التاريخ السياسيّ. في الحقبة التاريخية نفسها، قتل بدر الجماليّ ابنه الملقّب بـ"الأوحد" لأنه عصاه، في حين أعدّ العدّة لتوريث الوزارة إلى ابنه "الأفضل".

استثنائية ابن الصبّاح تظهر في المقابل في أنّه إذا ما قتل ولديه، فهو قطع الطريق لوراثته البيولوجية من بعده، وهذا بحدّ ذاته ما يُفترض أن يكون دافعًا لأخذ مسافة عن هذه السردية، والتعامل معها على أنّها تعكس في أساسها نزاعات مطموسة داخل قلعة "ألموت" نفسها، من المستحيل اليوم إعادة ترميم خريطتها. وهي تعكس من ثمّ غرض الجوينيّ المؤرّخ في تصوير ابن الصبّاح بأبشع صورة، ذلك أنّه لا يبدو كمن روى غليله من خلال إيراده رواية قتل ابن الصبّاح لولديه، بل مضى بعدها للإشارة إلى أن الصباح اعتاد القول إن قتله ولديه الاثنين بعد وفاته هو الدليل على أنّه لم يقم بالدعوة من أجله هو وذريته.

كل حديقة جنّة

ليس صحيحًا أنه لم تكن هناك على مرّ التاريخ سوى أساطير قاتمة وتشنيعية ضدّ حسن الصبّاح والحشّاشين، بل وُجدت أيضًا "الأساطير المذهّبة" فوق اللزوم، والتي تسقط عليهم أفكارًا وقيمًا من خارج عصرهم وسياقهم. فلا التحرّر من الدين، ولا بناء نوع من الاشتراكيّة، كانا في بال حسن الصبّاح. لا يُلغي ذلك أنّه، إذ كان الاستشراق السوفياتي قد بالغ في تصوير حركة الصبّاح في إطار الصراع الطبقيّ، الفلاحيّ الجذور، ضدّ الإقطاع الشرقيّ، العسكريّ، الذي وطّده بشكل أساسي حكم السلاجقة، فإنّه ليس من السليم في المقابل فصل هذه الحركة عن الصعوبات التي واجهت مناطق بأسرها من البلاد الإيرانية جراء انتشار الإقطاع العسكريّ السلجوقيّ هذا.

ولا يمكن عدم الأخذ بالاعتبار أنّ "الخواجه" نظام الملك كان ينظر إليه في ذلك العصر بوصفه المنظّر الأساسيّ لدولة الإقطاع العسكريّ تلك. وقبل الاستشراق السوفياتي في مرحلة دمجه حسن الصبّاح بالحركات الفلاحية، وُجد المستشرق الروسيّ (ثم السوفياتي) فاسيلي بارتولد، الأقل انتظامًا ضمن قالب أيديولوجي، وهو مال إلى تفسير لحظة صعود حسن الصبّاح بقيام ملاك الأرض في البلاد الإيرانية، لا سيما في إقليم الديلمان، ضدّ نظام الإقطاع العسكريّ هذا الذي يسلّم الأرض لقادة جند من قبائل الغزّ التركية، وتكون بذلك قد تداخلت المعطيات بين طبقية وإثنية ومذهبية.

لا التحرّر من الدين، ولا بناء نوع من الاشتراكيّة، كانا في بال حسن الصبّاح

لم تحتج الأسطورة السوداء في مجالها الإسلاميّ ضدّ حسن الصبّاح وجماعته إلى الحشيش ولا إلى التهويم حول الحدائق التي كان يُريها للفدائيين قبل إرسالهم لارتكاب ما يطلبه منهم ويضلّلهم بأنّها الجنّة. أساسًا، حدائق الخلفاء والسلاطين في حضارة الإسلام لم تنف يومًا عن غرضها محاكاة التصوّر المُبتنى حول الجنّة. بل إنّ كلمة الجنّة في العربية تطلَق على كل حديقة، وليس فقط على دار النعيم في الآخر، ونحن اليوم نميّز بين "جنينة" بالتصغير، كجنينة الصنايع في بيروت أو جنينة الأندلس في القاهرة، إنّما في الأصل هذا التصغير غير لازم، والدليل أن الجمع ما زال "جنائن"، أي جمع جنّة.

إذًا، أن يكون النزاريّون التعليميّون قد اهتموا بالحدائق والبساتين في قلعتهم أو جوارها، فهذا يشبه تمامًا كل فن إقامة الحدائق في الإسلام وارتباطه بتخيّل الجنّة الأخروية. وقبل الصبّاح و"ألموت"، حضرت الحديقة في شعر ناصر خسرو. "في حديقة درب النبي ليس هناك من حراس لها سوى آل بيته". "أيتها النفس زيّني نفسك بالعمل والعمل من حديقة الحارس! ادخل الحقيقة واقطف التوت البري والثمار والأعشاب الزكية، وضع الشوك والحطب ولحاء الشجر أما الحمير، واحتفظ لنفسك بشجرة البقس والياسمين والورود البرّية".

وبالمناسبة، من مرادفات البستان في العربية "الحشّ". لكن "الحشّ" تعني أيضًا "قطع الحشيش" عند العناية بالبستان. فهل كان "الحشّ" يعني حشّ الرؤوس أيضًا؟ ألا يقرّبنا ذلك من الكيفية التي صارت فيها كلمة "الحشاشين" مرادفة للقتلة في اللغات الأوروبية؟! اللافت في المقابل أن عارف تامر في "تاريخ الإسماعيليّة" يذهب إلى أنّ الكلمة هي في الأصل "العسّاسون" باعتبار أن "فدائية الجبل عرفوا بخفة حركتهم وأنهم يعسون، أي يطوفون في الليل مراقبين ومدافعين ومهاجمين". وهذا مستبعد، لا سيّما أنّ "الحشيشية" حضرت بمحمول سلبي كما رأينا عند ابن شامة المقدسيّ، وتعلّقت أساسًا بالعمل الفدائي للنزاريين في بلاد الشام، ولو أنّ المؤرخ الألماني وليفرد مادلونغ عثر على مصادر زيدية نادرة في طبرستان وجيلان والديلمان، بعد قرن من الصبّاح، تستخدم التسمية نفسها ضدّ إسماعيليي "ألموت" أيضًا، لكن المصادر السنيّة المعاصرة لحقبة "ألموت" آثرت وصف أصحاب القلعة بـ"الباطنية" و"الملاحدة"، لا "الحشيشية".

وإذا كانت حكاية حديقة "ألموت" التغريرية بالشبّان، والتي تتراقص فيها الحوريّات، محض تهويم أوروبيّ انتشر في العصر الوسيط، بمثل ما انتشرت أساطير شعبية كثيرة عن الشرق، مثل أسطورة تحوّل صلاح الدين إلى فارس صليبيّ، كذا، فإنّ ما تشاركت فيه الأساطير، غربًا وشرقًا، بداعي التقريظ أو الهجاء، هو ما نُسج حول إعلان "القيامة" عام 1164، بعد عامين من تولّي من اعتُبر إمامًا من ذرية نزار الفاطميّ، أي الحسن الثاني، لأمر الجماعة، كإمام ظاهر ومتحدر من آل البيت. والمؤرخ الجويني، صاحب المغول، يرجّح أن يكون الحسن الثاني هذا حفيد بزرك أميد.

لا يصعد إليها دخان المدن الجائرة

لكن ما الذي عناه الحسن الثاني عندما أعلن قيامة القيامات هذه؟

انقسمت الأهواء بين من يعتبرها لحظة أعلن فيها النزاريون انتصار "الحقيقة المحمّدية" على "الشريعة المحمّدية"، أي نسخ الإسلام بالكامل، والتأسيس كليًّا لدين جديد، أو إعلان الإلحاد جهارًا، وبين من اعتبرها تصديقًا على أنّ مذهب هؤلاء القوم هو الجنّة الأرضيّة لا السماوية، وبين من اعتبرها عودة إلى الإسلام الروحيّ، تحرّرًا من إسلام الشريعة والفقه. كتقدير: الأقل تهويمًا يبقى الاعتقاد بأنها كانت لحظة رمزيّة بامتياز، لا هي تضمّنت إبطالًا للشريعة بشكل كامل وصريح، ولا هي أزفّت نهاية الزمان، بل جاءت تعبّر في وقت واحد عن عودة الإمامة لقيادة الجماعة المنتسبة لآل البيت في قيادة الإسماعيلية النزارية، وعن الاعتراف بالفشل في إشاعة المذهب، وتمادي الغربة مع المحيط.

وهنا مفارقة أساسية: فبعد إعلان "القيامة" عام 1164، مال سكّان قلعة "ألموت" وأئمتهم تدريجيًا إلى التفاوض مع السلاطين المتعاقبين، وإلى تقبّل تبني الفقه السنّي ولو من باب التقية. بل إنها مفارقة الإسماعيلية في تاريخ المذاهب الإسلاميّة: ذلك أنّ نجاحها في تركيب "دين فلسفيّ" بامتياز، وفي الارتباط سواء بتجارب ثوريّة (القرامطة، و"الحشّاشون") أو ببناء إمبراطوريّة (الفاطميّة)، لم يقترن بنفس النجاح في بناء تقليد فقهي راسخ يتمتع بشريحة من "علماء الدين" توازي زخم وحيوية ما له من "الدعاة". وهذا اختلاف أساسيّ مع الشيعة الإثني عشرية، التي وإن مال لها البويهيون تدريجيًا، بعد أن كانوا على المذهب الزيديّ، وإن اتجه نحوها خانات المغول في مرحلة أولى قبل تسننهم بعد حين، فإنّها لم تتحوّل إلى مذهب سلطة إلا مع الصفويين في مطلع القرن السادس عشر، في حين أنها استطاعت قبل ذلك أن تراكم تجربة قرون طويلة من المرجعية الفقهية.

الأجدى الإفلات من الأسطورتين التشنيعية والتبجيلية على طول الخطّ لحسن الصبّاح وقلعته

سواء كانت التقصّي تاريخيًّا، أو كان التركيب في سياق عمل إبداعيّ، ففي الحالتين، الأجدى الإفلات من الأسطورتين التشنيعية والتبجيلية على طول الخطّ لحسن الصبّاح وقلعته. ليست هذه دعوة لتزكية "السردية الفاترة". أبدًا. تاريخ حسن الصبّاح وقلعة "ألموت" لا ينفصل عن تاريخ نشدان "المدينة الفاضلة"، وعن خيبة الصبّاح من أن القاهرة الفاطمية ليست هي المدينة الفاضلة التي حلم بها الإسماعيليون في البلاد الخاضعة للإقطاع العسكريّ السلجوقيّ.

تجربة حسن الصبّاح لا تنفصل عن تأثره بنشدان "إخوان الصفاء" لإقامة "دولة أهل الخير" التي "لا يصعد إليها دخان المدن الجائرة". و"ألموت"، التي قد تعني "عش العقاب"، أو "تعليم العقاب"، هي على ارتفاع 2100 متر، المكان المناسب للوصل بين المجاز والواقع هنا، بحيث لا يصعد إليها "دخان المدن الجائرة". كذلك تشديد "إخوان الصفاء" على أنّ كل دولة "لها وقت منه تبتدىء، وغاية إليها ترتقي، وحد إليه تنتهي"، وهو ما طبّقه الإخوان في استشرافاتهم لتاريخ انهيار دولة بني العبّاس، واعتمادهم الحسابات الفلكية لأجل ذلك، ويبدو أن الصبّاح طبّقها على الدولتين السلجوقيّة والفاطميّة معًا. يقول إخوان الصفاء في واحدة من رسائلهم أيضًا: "واعلم يا أخي أن دولة أهل الخير يبدأ أولها من قوم علماء حكماء، وخيار فضلاء يجتمعون على رأي واحد". هذه الكلمات مارست تأثيرها على توجّهات حسن الصبّاح وعلى النزاريّة في حقبة قلعة "ألموت".

في مسلسل "الحشاشين"، تجد حسن الصبّاح ينصح باعتماد برنامج تثقيفي في القلعة يتضمّن قراءة رسائل إخوان الصفاء. وهذه من اللحظات النادرة التي تحسب للمسلسل، مع أنّه بين الإخوان والإسماعيلية اختلافات يصعب التخفيف منها، وليس أقلها أنّه في حال عدم توفّر الإمام "الذي عنده الحق واليقين" أوصى الإخوان بأن تجعل "الخليفة على نفسك عقلك". وليست هذه أبدًا وجهة نظر حسن الصبّاح، إذ ظلّ الرجل يصرّ على أنّه لا يمكن الاعتماد على العقل وحده، إذ لا بدّ من "تعليم" يأتي من إمام، ومن هنا تلقيب حركته بـ"التعليميّة"، ومن هنا التدليس عليها أيضًا، كما لو أنّها تقول بالاستغناء عن العقل.

كذلك اقترح "إخوان الصفاء" بأن تتولى الخلافة جماعة، ما يتناقض كليًّا مع فكرة الإمام. ومع هذا، عمل الإسماعيليّون، خصوصًا في القرن الذي عاش فيه ابن الصبّاح إلى دمج تركة إخوان الصفاء ضمن مرجعيات مذهبهم، ولأجل ذلك أيضًا نال إخوان الصفاء حظّهم من هجمات الغزالي. لا يلغي ذلك أنّ الغزالي كان في مقارعته لإخوان الصفاء، وقبلهم للفارابي وابن سينا، فيلسوفًا كبيرًا هو أيضًا، بقطع النظر إن كان سيتقبّل هذا التوصيف أو لا، مثلما لعب دورًا في التأليف بين مذاهب أهل السنّة والتصوّف لمواجهة التشيّع، الإسماعيليّ منه بشكل رئيسيّ في عصره.

ومثلما لا ينفع أن يكون الموقف من الغزالي في القرن الحادي والعشرين أحاديّ البعد، كذلك الأمر مع الذين خرجوا لمحاربة السلاجقة، متأثرين بحلم مدينة فاضلة، ومعتنقين لعقيدة عرفانيّة طوّروها بشكل كفاحيّ. ما كانوا ملائكة. ما كانوا شياطين. وفي لحظات بعينها، في البدايات، كانوا إلى الحق من أعدائهم أقرب. لم ينصّبوا أنفسهم أصحابًا لمفاتيح الجنّة، ولم يفتُهم أنّ الجنّة جنتين، واحدة على الأرض والثانية في الآخرة، تمامًا مثلما أنّ لكل شيء من الموجودات ظاهرًا وباطنًا


لقراءة الأجزاء السابقة:

مسلسل "الحشاشين" (1): دراما سرد الأحداث بالمقلوب

مسلسل "الحشاشين" (2): دراما سرد الأحداث بالمقلوب

مسلسل "الحشاشين" (3): المصادر التراثية لدراما الكراهية

مسلسل "الحشاشين" (1): دراما سرد الأحداث بالمقلوب!

سبق أن استُخدمت "الشدّة المستنصرية" مادة للفانتازيا في مسلسل رمضانيّ سابق عُرض قبل عامين: "بيت الشدّة"، ل...

وسام سعادة
مسلسل "الحشاشين" (2): دراما سرد الأحداث بالمقلوب!

المسلسل خرافيّ من حيث الرقم القياسي للمغالطات التاريخية فيه. أما الكم الهائل من الخفة في البناء على كرونو...

وسام سعادة
مسلسل "الحشاشين" (3): المصادر التراثيّة لدراما الكراهية

إنّ اعتبار عدم الاكتراث بتسلسل الأحداث من الناحية التاريخية، وعلى طول الخط، ضربًا من ضروب الإبداع في مسلس...

وسام سعادة

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة