من الذي يريد محوَ اليهوديّة؟

بخلاف "الحلّ النهائي" الإبادي الذي روّجت له النازية إبان الحرب العالمية الثانية، فإن "الحلّ النهائي" الحالي للمسألة اليهودية" ينطوي على تعريفها بوصفها صهيونية حصرًا، وخنق الهوامش التي يمكن لليهود المناهضين لإسرائيل العمل فيها.

قرّرت جامعة "كولومبيا" الأميركية إنشاء فرقة عمل غايتُها رصد الخطاب "المعادي للسامية" في أوساط الأساتذة والطلبة بُعيد هجمات 7 أكتوبر. ثمّ باشرت، قبل أيام، بحثها عن موظّف يدعم عمل الفرقة تلك، براتب سنوي يصل إلى 135,000 دولار.

أثار القرار صخبًا في الجامعة لم يخمُد بعد. لا بسبب طبيعة "فرقة العمل" تلك فحسب، بل بسبب غياب تعريف الجامعة لـ"معاداة الساميّة" بالدرجة الأساس. فبحسب ما نقل موقع The Intercept عن واحدة من الأساتذة المدافعين عن القرار، ليست الجامعة معنيّة باختيار التعريف الأنسب من بين "خمسة وعشرين تعريفًا لمعاداة الساميّة".

هكذا إذًا. ثمّة خمسة وعشرون تعريفًا يمكن للإدارة أن تغرُف منها ما تراه مناسبًا في سياق عملية اصطياد السحرة المتضامنين من غزة. أولئك الذين "يكرهون اليهود فقط لكونهم يهودًا". لكن، مهلًا. ماذا لو كان من بين هؤلاء يهودٌ أيضًا؟

ينقل التقرير عن بعض الطلبة اليهود في الجامعة قولهم إنهم يخشون من فرض فهمٍ لليهودية يجعلها متماهية تمامًا مع الصهيونية. بل إن أحدهم يعرب عن شعوره بأن "اليهودية قيد المحو"، ويخشى من وصمِه بالنازيّة بسبب موقفه الرافض للحرب على غزة، هو الذي ينحدر من عائلة بالكاد نجا بعض أفرادها من "الهولوكوست".

ليست المحاولات الحثيثة لفرض هذا التماهي بين معاداة الصهيونية و"معاداة السامية" حديثة العهد طبعًا. فقد شهدت السنوات القليلة الماضية، على وجه الخصوص، تدرّجًا في إنتاج هذا الالتصاق في المعنى. لكن هل من نقطة بداية لهذا المسار المتدرّج؟

ربما بالإمكان أن نُعيد هذا المسار، تاريخيًا، إلى لحظة الهزيمة المعنوية التي مُنيت بها إسرائيل إثر صدور القرار رقم 3379 في الأمم المتحدة عام 1975، ذاك الذي اعتبر الصهيونية شكلًا من أشكال العنصرية. كانت معركةُ إسرائيل آنذاك تدور حول نفي عنصريّة عقيدتها المؤسِّسة. ثمّ انتقلت أواخر عام 1991، مع تفكّك الاتحاد السوفييتي ومعسكره الاشتراكي، من حالة الدفاع إلى إدراكِ التعادل إثر إقدام الجمعية العامة للأمم المتحدة على إلغاء قرارها السابق. لاحقًا، تحوّلت إسرائيل وأنصارُها على الساحة الدولية إلى الهجوم. إذ لم نعُد بصدد مساواة الصهيونية بالعنصرية، بل أصبحت معاداةُ الصهيونية بحدّ ذاتها، وفقًا لنصوصٍ قانونية وفي أوساط أكاديمية في الغرب، موسومةً بالعنصرية.

تبدو المسألة اليهودية أمام "حلّ نهائي" يتمثّل بتذويبها تمامًا في حركة استعماريّة متعدّدة الأدوار في فلسطين

يلاحظ الكاتب البريطاني (اليهودي) أنطوني ليرمان، مثلًا، أن هذه النزعة لإعادة تعريف "معاداة السامية" بدأت تظهر في أواخر الثمانينيات، ويسرد كيف أنه، خلال فترة تولّيه تحرير "التقرير العالمي حول معاداة السامية" ــــ Anti-Semitism World Report (وهو أوّل مسح مستقلّ يرصد ظاهرة معاداة السامية في كل بلد على حدة)، تعرّض للضغط من قبل ممثل لجهاز "الموساد" في لندن لدفعه إلى الالتحاق بالمشروع المعني بدراسة "معاداة السامية" ــــ بتعريفها الجديد ــــ الذي ترعاه إسرائيل في جامعة تل أبيب. لم يقوَ مشروع ليرمان على الاستمرار تحت وطأة الضغط، واختفى من الوجود عام 1999.

في السنوات الأخيرة، تطوّرت الضغوط لتُشكّل، بمعنى ما، خطرًا على وجود هويّة يهودية خارج فلك الصهيونية. ولعلّ هذا ما دفع تجمعات من اليهود، الليبراليين والمحافظين، إلى رفض هذا المحو الذي تبدو معه المسألة اليهودية أمام "حلّ نهائي" يتمثّل بتذويبها تمامًا في حركة استعماريّة متعدّدة الأدوار في فلسطين. وبخلاف "الحلّ النهائي" الإبادي الذي روّجت له النازية إبان الحرب العالمية الثانية، فإن "الحلّ النهائي" الحالي ينطوي على تعريف حصريّ لليهودية غايته خنق الهوامش التي يمكن لليهود المناهضين لإسرائيل العمل فيها.

حركة الرفض التي نراها اليوم من قبل يهود رافضين لهذه الإذابة تُظهر شراسة هذا التوجّه، وتُبرز اتجاهًا مقاومًا له في الوقت عينه. فحين قامـ(ت) الكاتبـ(ة) اليهوديـ(ة) ماشا غيسين، مثلًا، بنشر مقالتهـ(ا) "في ظلال الهولوكوست" في مجلة "نيويوركر" قبل ثلاثة أشهر، والتي أشار(ت) فيها إلى دور "سياسات الذاكرة" ومظلوميّة "الهولوكوست" في حجب حقيقة الحرب على عزة، عوقبـ(ت) فورًا بأن سُحبت منهـ(ا) جائزة الفكر السياسي التي تقدّمها مؤسسة "هاينريش بول" الألمانية.

هناك مئات الناشطين اليهود في الغرب الذين يتعرّضون اليوم إلى تضييق مشابه. الفيلسوفة النسوية الأميركية (اليهودية) جوديث باتلر، مثلًا، بالكاد تقوى على قول ما تريد في ظلّ اعتبارها (مع أمثالها في حركة "يهود من أجل السلام") "كارهة لذاتها". المخرج البريطاني (اليهودي) جوناثان غلازر الذي فاز فيلمه حول قصة في معسكر الإبادة النازي "آوشفيتز" بجائزة "أوسكار" بالأمس، أصبح محطّ تجريح منذ اللحظة الأولى التي أعلن فيها رفضه "اختطاف اليهودية والهولوكوست من قبل الاحتلال" خلال حفل تسلّمه الجائزة.

ثمّة كلام كثير يمكن أن يُقال حول ماضي هذا النوع من "الحل النهائي" للمسألة اليهودية وحاضره ومآلاته المحتملة في المستقبل، وكلّه يصبّ في الإجابة على السؤال المطروح في عنوان هذه المقالة: من الذي يريد ــــ أكثر من أيّ جهة أخرى في العالم ــــ محوَ اليهوديّة حقًا؟

مُشعوذون

عن محمد علي الحسيني و"ظاهرة" التنجيم السياسي والأمني، وعن الجيش الإلكتروني والمتلفز ــــ الأكثر جدّية ـــ...

ربيع بركات
ما أعرفه عن بشرى عبد الصمد

أعرف بشرى عبد الصمد عبر "الجزيرة" ومن خلال عائلتها. اليوم تجري مطابقة أخيرة بينها وبين هويتها، وتقرّر الع...

ربيع بركات
خمسة أسئلة عن روسيا بعد "تمرّد فاغنر"

بمعزل عن أهداف "تمرّد فاغنر" وما كان يمكن، واقعيًا، أن ينجم عنه، فالأكيد أنّه حجرٌ كبيرٌ مرميٌّ في مياه س...

ربيع بركات

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة