مضى الآن على إقامتي في برلين عام كامل. وأزعم أنّي أصبحتُ أُجيد التنقل فيها. كما أن استخدام خرائط "غوغل" يسهّل عليّ الوصول إلى أي مكان أبتغيه. غير أنّي في الفترة الأخيرة أشرد كثيرًا. ونتيجة شرودي الدائم هذا، أصعد القطارات الخاطئة ولا أنتبه إلى أنّي في المسار الخاطئ إلا في المحطة الأخيرة، فأعود أدراجي وأقول: ما الذي يجري؟ لم يحدث هذا لي في المرحلة الأولى من قدومي إلى هذا المكان!
انسحب هذا الأمر على مناماتي. ففي أحد المنامات رأيت نفسي أركب القطار وأصل إلى المحطة الأخيرة، لأتفاجأ برؤية اسم إسرائيل على المحطة وأبدأ بالصراخ: لا أريد أن أنزل هنا! لماذا تأخذوني إلى إسرائيل! أهرع في اتجاه آخر بعدها وأصعد القطار العائد إلى سوريا. ثمّ أستيقظ مذعورة يبلّلني العرق، وأتساءل: أين أنا؟ وما الذي أفعله هنا؟
أخرج إلى الشرفة. أتنفس، وأنظر إلى الشارع: هذا ليس مكاني!
قبيل السابع من أكتوبر من العام الماضي، زارتني صديقة ألمانية. وأثناء تناولنا العشاء المكوّن من أطباق سورية، أشادت بالزعتر، لكنها أضافت: إنّ طعم الزعتر الفلسطيني أشهى!
وبعد نحو ثلاثة أشهر التقيتها مجددًا وحملت إليها بعضًا من الزعتر الذي أُرسل إليَّ من سوريا. شكرتني وقالت: إن صديقها أحضر لها زعترًا من إسرائيل!
لم أستطع أن أبتلع المفردة، وظهر على وجهي عدم الارتياح: "تعنين فلسطين!"، قلت لها. لكنها تحايلت على ردّ فعلي وغيّرت الموضوع. رحت أفكّر: ما الذي تغير في خطابها خلال هذه الأشهر الثلاثة؟
يبدو أن الأمر انعكاس لما يحدث في ألمانيا منذ 7 أكتوبر. ضغط الأخبار متواصل. وبرغم تنظيم تظاهرات مؤيدة لفلسطين في مدن ألمانية عدة، إلا أن السياسة الرسمية ووسائل الإعلام الرئيسية في البلاد تعلن بكل وضوح دعمها غير المشروط لإسرائيل في حربها على غزة. فها هو الأمين العام لـ"الحزب الديمقراطي الحر" بيجان جير ساراي يقول إنه "من المهم للغاية أن نرسل كمجتمع إشارة واضحة للتضامن مع اليهود وشريكنا في القيم، إسرائيل".
وفي حين يؤكد الأمين العام لـ"الحزب الديمقراطي المسيحي" كارستن لينيمان أن "السياسة الألمانية والغالبية الساحقة في المجتمع تقف إلى جانب إسرائيل"، تردف وزيرة الداخلية نانسي فيزر قائلة إنها تتوقع "من المنظمات الإسلامية أن تتخذ موقفًا واضحًا وتتحمل المسؤولية في المجتمع"، ثمّ تضيف: "يجب أن يكون الأمر واضحًا، نحن نقف إلى جانب إسرائيل".
حين رأيت العلم الإسرائيلي للمرّة الأولى: ما الذي أتى بهذا العلم إلى هنا! ثم سرعان ما انتبهت: ليس هذا مكاني!
لم تكتف الإدارة الألمانية والأحزاب الفاعلة في المشهد السياسي الألماني بهذه التصريحات. بل منعت القوى المشكلة للسلطة المحتجين من استخدام شعارات مثل "فلسطين حرة من النهر إلى البحر"، بحجّة معاداة للسامية. وفي جو مشحون كهذا، تجد نفسك أمام تحدي خوض حوار، تجيد انتقاء المفردات فيه. فأنت في ألمانيا تسير فوق حقول ألغام، تتمثل في مواضيع مثل لون البشرة والهوية الجنسية والمحرقة، ولا تعرف أي لغم سينفجر ما إن تفتح فمك وتناقش أيًا منها.
"Das Klima ist sehr schlescht" ــــ "الجو العام سيئ جدًا"، قالت مدرّستي الألمانية في نقاش دار بيننا، "لا أحد يستطيع إدانة ما تفعله إسرائيل علانية لئلا يُتَّهم بمعاداة السامية"! أما صديقتي الألمانية الأخرى فقالت: "أشعر بالخجل من موقف بلدي السياسي إزاء ما يحدث في غزة".
بدأت الأعلام الإسرائيلية ترتفع في الساحات وأمام البلديات منذ مطلع الحرب. ففي ميدان ألكسندر، وهو ساحة كوزموبوليتانية بامتياز، وعلى مقربة من تمثالي ماركس وإنجلز حيث تُنظم تظاهرات عيد العمال، يرتفع العلم الإسرائيلي إلى جانب العلمين الألماني والأوكراني.
كانت تلك الساحة مكاني المفضل؛ كلما شعرت بالاختناق ذهبت إلى هناك. الساحة جزيرة متاحف. فيها نهر وغرباء يتحدثون بلغات شتى. أتدثّر بها في وحشة الغربة. لكنّ ذعرًا غريبًا تملّكني حين رأيت العلم الإسرائيلي للمرّة الأولى: ما الذي أتى بهذا العلم إلى هنا! ثم سرعان ما انتبهت: ليس هذا مكاني!
حدث الأمر نفسه عند بوابة براندنبورغ التاريخية التي اتشحت بألوان العلم الإسرائيلي في مهرجان الأضواء. كل هذا ومئات الفلسطينيين يُقتلون يوميًا.
هكذا بدأتُ أشعر أن الحيز المكاني الخاص بي يتقلص، ويتراجع إلى الخلف أمام الضغط البصري والاجتماعي الذي يحيط بي أنى ذهبت.
يذهب عالم الاجتماع الهولندي يان فيليم دايفينداك (Jan Willem Duyvendak) في بحثه حول مسألَتي الوطن والشعور بالانتماء في الفضاء الجغرافي إلى اعتبارهما "معركة" تدور بشكل مستمر بين الأكثرية والأقليات، وهي معركة حول الاستحقاق في تعريف المكان وإعادة تعريفه، غالبًا بما يتوافق مع مزاج الأكثرية. وبذلك، كلما تراجع شعور أحدهم بالاستحقاق في التمثيل أو بالقدرة على المساهمة في تعريف المكان وتشكيل هويته، تراجع انتماؤه، أو شعوره بأنه في مكانه. ولقد شعرت من دون قصد، إذ أصطدم بالأعلام الإسرائيلية المرفرفة، أني لستُ في مكاني.
لماذا ينبغي على المهاجرين أن يحملوا وزر ما اقترفته النازية؟
المكان، إذًا، ليس مكانك. ولا تستطيع الادعاء أنك تمتلك حيّزًا ضئيلًا منه. يتراجع الفضاء المحيط بك ويبسط نفوذه، ويخفت صوتك ويُقمع على المستويين الجغرافي والاجتماعي. ويتسلل هذا الشعور إلى لاوعيك، ويخلخل كلّ أمان كاذب في دولة يُفترض أنها توفره لك. حتى إن أحد السوريين علّق على الأمر قائلًا: ما هربنا منه في أوطاننا، وقعنا فيه هنا!
في كتاب بعنوان "مقدمة في علم الاجتماع"، بحث عالم الاجتماع الأميركي الشهير روبير إيزرا بارك (Robert Ezra Park) مع زميله الكندي إرنست برجس (Ernest Burgess) في طبيعة التفاعلات بين المجتمعات الأصلية والمهاجرين، واعتبرا أنها تنطوي على أربع مراحل متتابعة، هي التنافس والصراع والتكيف والتمثّل. وخلُص بارك وبيرجس إلى أنّ "التعلّم هو الحل لإعداد المهاجرين للاندماج في مواطنهم الجديدة، حيث يتعلم المهاجر اللغة والثقافة والأيديولوجيا الديمقراطية".
وبمعزل عن المسألة الديمقراطية في القول المذكور، يدور في ذهني السؤال التالي: هل التمثّل يعني الانصياع إلى أيديولوجيا البلد المضيف؟ وهل يجب أن يقطع المهاجر أو المنفيّ حبل سرّته، ويعلن صراحة عدم انتمائه إلى بلده الأم؟ هل هذا ما يفرضه الاندماج؟
تصلني من صديقتي رسالة عبر "واتس آب" مفادها أن ولاية ساكسونيا تشترط على الراغبين في الحصول على الجنسية الألمانية الاعترافَ بدولة إسرائيل. تقول لي: "ما رأيك؟". أجيب: "لماذا ينبغي على المهاجرين أن يحملوا وزر ما اقترفته النازية؟ هؤلاء الذي هجّرتهم الديكتاتوريات أو سرق الاستعمار خيرات بلادهم، ما الذي يتعيّن عليهم أن يفعلوه؟".
تخرج التظاهرات في أنحاء العالم مطالبة بوقف الحرب على غزة. لكن غالبية قادة الدول الكبرى يستمرون بتجاهل النداءات الإنسانية.
أخرج إلى الشارع، الشارع الواسع. المناخ سيئ. أتذكر صديقًا سوريًا قضى في المعتقل نحو تسعة عشر عامًا. كان يمشي في الشارع كما لو أنه بين خطين متوازيين، المسافة بينهما ضيقة جدًا، حتى أنّي كنت أخشى أن يتعثر بقدميه أثناء المسير. بدا كمن لم يعتد المشي في الشوارع الفسيحة بعد، أو أن حيّزه المكاني بالغ الضيق.
أمشي الآن بين خطين متوازيين، يكادان يطبقان على روحي.
...المناخ سيئ!