الحكومة السورية المتردّدة: عصرُ نفقات بدلًا من ضرائب على الأثرياء!
يُفترض بالحكومة السورية أن ترفع معدلات الضرائب على الأثرياء. فالزيادات الضريبية هي الطريقة الوحيدة للخروج من مأزق تمويل عجز الموازنة.
يُفترض بالحكومة السورية أن ترفع معدلات الضرائب على الأثرياء. فالزيادات الضريبية هي الطريقة الوحيدة للخروج من مأزق تمويل عجز الموازنة.
برغم خلو البيان المالي الحكومي الخاص بموازنة الدولة السورية لعام 2024 من أي مستهدفات أو مؤشرات اقتصادية واضحة، من حيث معدلات النمو الاقتصادي أو التضخم أو البطالة، فإنّ مجلس الشعب ــــ وهو السلطة المفوضة دستوريًا بإقرار الموازنة العامة ــــ أقرّ الموازنة الثالثة للحكومة الحالية التي لم تألُ جهدًا في تكرار لازمة "بحسب الإمكانات المتاحة".
وتُعد هذه الموازنة الأضخم في تاريخ سوريا، بحجم اعتمادات بلغ 35.5 تريليون ل. س.، أي ما يعادل تقريبًا كلّ ما أُنفق فعليًا منذ العام 2011 ولغاية 2022، أي على مدى اثني عشر عامًا.
تعترف الحكومة، في بياناتها الخاصة بالموازنات الثلاث، بأن أحد المخاطر المالية يتمثل في "عدم كفاية ما يؤول من إيرادات للخزينة المركزية". غير أنها تقدّمت، برغم ذلك، بموازنة يتجاوز العجز فيها 9.4 تريليون ل. س.، وهو عجز يشكّل ما نسبته 26.5% من إجمالي الاعتمادات، و1,350% من الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي لعام 2023.
يضع هذا الواقع الحكومة أمام مأزق خطير، يتمثل في كيفية تمويل هذا العجز. فقد اعتادت الحكومات المتعاقبة، بدءًا من السنة الأولى من اندلاع الأزمة السورية، على تمويل عجزها بالكامل عن طريق القروض الداخلية وطباعة النقد. ويُعتبر هذا "الحلّان" من أبرز العوامل الداخلية التي رفعت من معدلات التضخم، حيث نما العجز بمعدل يفوق بكثير معدل النمو الاقتصادي الحقيقي (أو التراجع في معدل النمو).
لقد ردّدت الحكومة الحالية ــــ منذ تشكيلها ــــ مقولةً مفادها أن عجز الموازنة المتفاقم يعود إلى ضخامة الإنفاق العام، خصوصًا ذاك المترتّب على الإنفاق على الرواتب والأجور والدعم الاجتماعي. هكذا، رفعت الحكومة شعار "ترشيد الإنفاق" الذي أدى إلى انخفاض حصة الرواتب والنفقات التحويلية من 65% من إجمالي الاعتمادات في أول موازنة لها لعام 2022، لبتبلغ 43% في موازنتها الثالثة.
من هنا، تبدو الحكومة غافلة، أو متجاهلة عن قصد، أنّ العجز ليس سوى محصّلة لعدم قدرة الإيرادات العامة على تغطية النفقات العامة. وعليه، فإن المشكلة الحقيقية للعجز لا تكمن في الإنفاق بقدر ما هي مشكلة في الإيرادات العامة. وحين تسمح الحكومة للعجز الناتج من ضعف الإيرادات أن يستمر على هذا النحو، فإنها تمارس ببساطة عملًا غير مسؤول.
بحسب البنك الدولي، تشكل الإيرادات الضريبية التي تتجاوز 15% من الناتج المحلي الإجمالي في أي دولة، عاملًا رئيسًا للنمو الاقتصادي والحد من الفقر. ويضمن هذا المستوى من الضرائب حصول البلدان على الأموال اللازمة للاستثمار في المستقبل، وتحقيق نمو اقتصادي مستدام.
في سوريا، تُعتبر نسبة الضرائب إلى الناتج المحلي الإجمالي في أدنى مستوياتها، إذ لم تتجاوز الرسوم "الفعلية" 6% بالمتوسط منذ سنوات (أنظر الشكل أدناه)، في حين بلغ متوسط هذه النسبة 28% في الولايات المتحدة، و34% في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، و20% في البلدان ذات الدخل المتوسط الأعلى، و14% في البلدان المنخفضة الدخل (صنّف البنك الدولي سوريا كدولة منخفضة الدخل بدءًا من عام 2018).
وبينما يكافح معظم السوريين لتغطية نفقاتهم، يستفيد قطاع الأعمال من معدلات ضريبية منخفضة وإعفاءات غير عادلة، ويكسب أعضاء مجالس إدارة الشركات والإدارات التنفيذية العليا مئات الملايين من الليرات السورية كمكافآت، ويستفيدون من معدل ضريبي نسبته 5%، وهو ما يعادل الحد الأدنى للضرائب على الرواتب والأجور.
والحال أن الحكومة السورية تخطّط لتحصيل أقل من 4% من الناتج المحلي الإجمالي عن الطريق الضرائب المباشرة (ضرائب دخل المهن والحرف وضرائب الرواتب والأجور)، وما يعادل 6% تقريبًا من الناتج المحلي الإجمالي على شكل رسوم وضرائب غير مباشرة. وهذه الأخيرة من شأنها أن تشكل عبئًا ثقيلًا على أكثر من 90% من المواطنين القابعين في الشرائح الدنيا من سلم الدخل، لمصلحة شريحة الـ 10% من المتربعين أعلاه.
وإذا ما دقّقنا أكثر في التركيب الهيكلي للإيرادات (المُقدّرة) المخصّصة لتمويل الإنفاق في العام المقبل، سنجد أن 16% منها هي إيرادات ناجمة عن الصناعة الاستخراجية (الفائض المتاح وحق الدولة من حقول النفط)، و24.5% عن الفائض المتاح للقطاع العام (بعد استبعاد القطاع النفطي)، أي ما مجموعه أكثر من 40%.
إنّ أقل ما يمكن وصف هذه الإيرادات به هو القول إنها إيراداتٌ وهميّةٌ صعبة التحقق، خصوصًا إذا ما أخذنا في الاعتبار أن نسبة التنفيذ في ما يخصّ هذه المصادر التمويلية "المُقدّرة" بلغت 20% في العام 2022 بالنسبة للفوائض، و1% بالنسبة لحق الدولة من حقول النفط فقط.
بناء عليه، ستواجه الحكومة صعوبة في تمويل احتياجات النمو الاقتصادي والحد من الفقر. فالإيرادات الضريبية المباشرة لن تغطي سوى 14% فقط من إجمالي الاعتمادات المقدرة للعام القادم، و60% من النفقات الإدارية لعمل الحكومة وخدمة الديون والالتزامات واجبة الأداء.
لكن، برغم خطورة ذلك، ما زالت الحكومة تُصرّ على أن ترشيد الإنفاق العام من خلال تخفيض الدعم الاجتماعي هو السبيل الوحيد لتقليص العجز. ومن الجدير هنا ذكره أن حصة النفقات غير المنتجة (النفقات الإدارية والديون والالتزامات) ازدادت نسبة إلى إجمالي الإنفاق خلال الموازنات الثلاث للحكومة. فعن أي ترشيد للإنفاق تتحدث الحكومة؟
من المؤسف أن مجلس الشعب يوافق الحكومة على تحميل مسؤولية هذا الخلل لمخصصات الإنفاق التي تضمن حدًا أدنى من الحماية للطبقات الفقيرة، بدلًا من العمل على توفير المزيد من الإيرادات الضريبية، علمًا أنه من الطبيعي أن يتضخّم الإنفاق بغرض تأمين الحماية الاجتماعية في ظروف كالتي تعيشها سوريا، لا أن يتقلّص. فالدولة القوية والعادلة هي تلك التي ترعى من هم بحاجة إليها، وتوفر خدمات عامة جيدة، خصوصًا في مجالات الصحة والتعليم والإسكان.
بناء على ما سبق، يُفترض بالحكومة أن تعمل على تحصيل الضرائب على نحوٍأكثر فاعلية من الأشخاص والشركات الذين لا يدفعون ما عليهم. وعليها، من جهة أخرى، أن ترفع معدلات الضرائب على الأثرياء. فالزيادات الضريبية هي الطريقة الوحيدة للخروج من مأزق تمويل عجز الموازنة، وهو أمر لا مفر منه، بل هو أمر مبرر.
وبقدر ما تغري المواطنين فكرة أن يدفع الأثرياء ما عليهم من مستحقّات لتتمكن الحكومة من تحقيق نمو اقتصادي مستدام، فإنّ الحكومة تزداد ترددًا بذريعة أن فرض مزيد من الضرائب على الأثرياء سيدفعهم إلى مغادرة البلاد.
لكنّ هذا الأمر مردود عليه. فإذا غادر هؤلاء بسبب فرض الضرائب عليهم، سيتوفر للدولة من المال ما يمكّنها من استخدامه لتحسين حياة الفقراء لسنوات. لكن إذا بقي هيكل الضرائب على شكله الحالي وظلّ التحصيل الضريبي كما هو عليه، سنشهد ارتفاعًا مقلقًا في الفقر المتوطّن، وستتّسع فجوة التفاوت الطبقي الناتج من تركّز الثروة.
علينا أن نتذكر أنّ علّة وجود الحكومات تتمثل بقيامها بما لا تستطيع أي جهة أخرى أن تقوم به. لقد حان وقتُ تجاوز مرحلة الحكومات المتردّدة.