قطاع غزّة حبيس تلفزيون الواقع

المفزع في التشابه بين "تلفزيون الواقع" و"واقع غزّة" أن المُشاهد تجاوز مرحلة "اعتيادية مشاهد الدمار والقتل"، وبات مدمنًا على فتح هاتفه المحمول كلّ نصف ساعة لمعرفة المستجدات والاطمئنان على شخوص حكايته.

ابتداءً من السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، انقسم العالم كلّه بملياراته الثمانية إلى مجموعتين: يقبع الفلسطينيون المحتجزون داخل قطّاع غزة في المجموعة الأولى، فيما بقيّة العالم في المجموعة الثانية. بات ذاك الشريط الضيق من الأرض، الذي تبلغ مساحته 365 كيلو مترًا مربعًا ويسكنه أكثر من مليوني نسمة، أشبه بخشبة تُعرض عليها للعالم المتفرّج مأساة مسرحية يموت الآلاف قبل نهايتها. أما الناجون فيها فسيعيشون حياة مثقلة بما شهدوه واختبروه.

وفي حين انقسم العالم بحكوماته ووسائل إعلامه بين داعم للقضيّة الفلسطينيّة وداعم للاحتلال الإسرائيلي، فإن غالبية المنقسمين تشاركوا "فعلَ الفرجة" على ما يحصل في غزّة، باختلاف اللقطات والأجزاء المصورّة والسرديات الإعلاميّة التي يستهلكها كل طرف. 

ويبدو تعامل العالم مع الأخبار الواردة من غزّة أشبه بظاهرة "تلفزيون الواقع". الفارق الأساسي بين الاثنين يتمثّل في حقيقةِ أنّ الواقعَ الموثق في غزّة حيٌّ وفجّ وغير مصنّع، وغير معدّ بطبيعة الحال للترفيه. أما وجه الشبه الوحيد فيعود إلى طبيعة تلفزيون الواقع بوصفه فكرةً تقوم على وضع مشاهير أو أشخاص عاديين أمام كاميرا ترصدهم على مدار الساعة، وتنقل يومياتهم وردود أفعالهم وصراعاتهم في مختلف المواقف.

يتذكر المشاهد العربي تحديدًا ظاهرة الهوس ببرنامج "ستار أكاديمي" الذي بدأ عام 2003 كمثالٍ لهذا النوع من البرامج. في ذلك الحين، تسمّرت شريحة كبيرة من الجمهور أمام الشاشات ليل نهار لمشاهدة كلّ فعل صغير صادر عن مجموعة من الشبان والشابات، المحتجزين، في مبنى مترف مزروع بالكاميرات. شاهدوهم وهم يتشاجرون ويضحكون ويتفاعلون يوميًا، ووصل الهوس بالبعض إلى درجة فتح التلفاز ليلًا لمعرفة أيّ مِن طلاب الأكاديمية يغطّ في النوم، ومَن بينهم يعاني من الأرق ويظلّ صاحيًا.

تحوّل المجتمع المعاصر إلى "مجتمع المسرحية"؛ فالناس لا يميّزون الواقع عن المسرح ولا يدركون إن كان ما يتجلى أمامهم دماءً أم طلاءً أحمر

الخطير في تحولّ ما يحصل في غزّة إلى ما يشبه تلفزيون الواقع، أن المُشاهد بات يفتح يوميًا نشرات الأخبار ومقاطع الفيديو ليعرف ما حلّ بالشخصيات التي يتابع تفاصيل حياتها منذ أكثر من عشرين يومًا. فهناك عددٌ من الصحفيين والمؤثرين الذين باتت وجوههم مألوفة نتيجة تغطيتهم أيام الحرب، والذين بنى معهم المشاهد صلة خاصة.

وعلى رأس هؤلاء مراسل قناة "الجزيرة" في غزة وائل الدحدوح الذي خسر (يوم 25 تشرين أول/أكتوبر) زوجته وابنته وابنه في قصف استهدف منزلًا نزحت إليه العائلة جنوب غزة. كما يتابع المهتمون الشابتين اليافعتين  بيسان عودة و بلستيا العقاد اللتين تنقلان حتى اللحظة مشاهدَ من حياتهما خلال الحرب، وتصوّران ما يحصل في المدارس والمشافي التي لجأ إليها المدنيون في القطاع.

وقد انضمت إلى هؤلاء قائمة من الأشخاص الذين باتوا معروفين خارج القطاع نتيجة التفاعل الكبير الذي لقيته قصصهم وخساراتهم التي وثقتها عدسات الكاميرا والهواتف المحمولة. نذكر على سبيل المثال الطبيب غسّان أبو ستة العامل ضمن فريق "أطباء بلا حدود"، والذي شهد على مدار سنوات حروبَ الاحتلال على غزة وصولًا إلى مجزرة مشفى المعمداني الذي ظهر إثرها في مؤتمرٍ صحفي محاطًا بجثامين الشهداء ليروي شهادته.

وهناك أيضًا عائلة الطبيب محمد حميد أبو موسى الذي كان يبحث مع زوجته في أروقة المستشفى الذي يعمل فيه عن طفلهما يوسف بعدما تعرضت المنطقة التي كان فيها الطفل للقصف. وقد صوّر أشخاص محيطون بالطبيب لحظات البحث عن يوسف ومن ثمّ لقاء الأب بأحد رجال الإنقاذ، الذي قال إنه نَقل إلى المستشفى طفلًا بهذه الملامح، قبل أن نتابع في النهاية لحظة عثور الأب/الطبيب على ابنه الذي فارق الحياة. بهذا نشاهد أثر وقعَ الخبر على الأب والأم وابنهما الأكبر، لحظة إدراكهم أنهم فقدوا يوسف إلى الأبد.

الفرجة على المآسي تتضمن قدرًا من المتعة غير المعترف بها، و إدراك ذلك يُفترض أن يُلزم المرء بالانخراط في أفعال "أكثر جدوى"

المفزع في التشابه بين "تلفزيون الواقع" و"واقع غزّة" أن المُشاهد تجاوز مرحلة "اعتيادية مشاهد الدمار والقتل"، وبات مدمنًا على فتح هاتفه المحمول كلّ نصف ساعة لمعرفة المستجدات والاطمئنان على شخوص حكايته، وما لحق بهم في الدقائق والساعات، بل حتّى السنوات الماضية.

فوالد محمد الدرة الذي رأيناه عاجزًا عن حماية طفله حين استُشهد برصاص الاحتلال عام 2000، نراه عام 2023 بعدما شاب شعره يودّع عددًا من أفراد أسرته الذين قضوا شهداء في القطاع، كما لو أن الزمن لم يتحرّك. إذ ما زلنا نشاهده، هو العالق في هذا الجحيم، يُعارك، ويعاني، ويودّع أحباءه.

في كتابه "تلاعب الوعي"، يتحدث سيرجي قره مورزا عن تحوّل المجتمع المعاصر إلى "مجتمع المسرحية"؛ فالناس لا يميّزون الواقع عن المسرح ولا يدركون إن كان ما يتجلى أمامهم دماءً أم طلاءً أحمر، أو ما إذا كان الناس يمثلون "لعبة موت" أو يموتون حقًا. يقول مورزا أيضًا إن الزمن التاريخي يغدو زمنَ المسرحية وزمنَ التأمل السلبي الذي يصبح الانقطاعُ عنه مستحيلًا، لأنّ الصور أسطع مما يراه المرء في حياته العادية. خطورة كلّ ذلك تكمن من وجهة نظره بفقدان الشخص المنغمس بالمسرحية القدرة على التفاعل المُنتج، وتحوّله إلى كائن مُنكفئ.

ليس المقصود، في الخلاصة، إدانة فعل مشاهدة الأخبار أو التقليل من شأنه، إذ ما زال، حتى اللحظة، الفعلَ الوحيدَ المتاح أمام كثيرين لإظهار تعاطفهم وتضامنهم وأخذ حصّتهم من الشقاء. ويبدو لكثيرين أنّ تعطيل حياتهم ــــ أو بعضها ــــ واستنزاف مشاعرهم، ثمن طبيعي وزهيد مقابل الخسارات والفظائع التي يعيشها سكان القطاع.

على أنّ المقصود هنا هو أن المشاهد ينبغي أن يكون واعيًا ورافضًا زجّه في مقعد المتفرج. فالفرجة، حتى على المآسي، تتضمن قدرًا من المتعة غير المعترف بها، لأنها ببساطة تُحرك مشاعر الناس بعدما تخدّرت، وتُجبرهم على إعادة النظر بحياتهم وإشراقها بالمقارنة مع بؤس حياة الآخرين.

هذه المتعة بطبيعة الحال غير واعية وغير مقصودة، لكنها حقيقيّة. ومجرّد إدراكها يُلزم المرء بالانخراط في أفعال "أكثر جدوى"، تحوّله من شخص كبُر وهو يتفرج على مآسي الفلسطينيين، إلى شخص يساهم في فرض إيقاف هذه المسرحية ــــ المأساة.

نحن فعل الكون المضارع

"أكون أو لا أكون". أعتقد أننا نحن السوريون نقّدر هذا النوع من البلاغة بصورة خاصة. فعبارة هاملت تختصر معظم...

نور أبو فرّاج
زمن "الـسكوبات": الإعلام السوري الخاص غارقٌ في النميمة الفنية

كان يمكن التساهل مع المحتوى الإعلامي السوري لو كانت اللقاءات الصريحة والفظة مع المشاهير جزءًا من لقاءات ص...

نور أبو فرّاج
روميو على أريكة فرويد

لفترة طويلة، تكرّس معيار "التناغم" لدى الحديث عن العلاقات العاطفية الناجحة، بوصفه المعيار الأبرز لعلاقة م...

نور أبو فرّاج

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة