حرب غزة وحلم بن غوريون في حدود إسرائيل
إذا تمكّنت إسرائيل من الانتصار، ستكون أحلام بن غوريون الخاصة باتساع حدود إسرائيل قد حُفرت واستقرّت في الواقع، وسيُضحي مفهوم "السلام" بوصفه رضوخًا لرغبات إسرائيل قد تحقّق.
إذا تمكّنت إسرائيل من الانتصار، ستكون أحلام بن غوريون الخاصة باتساع حدود إسرائيل قد حُفرت واستقرّت في الواقع، وسيُضحي مفهوم "السلام" بوصفه رضوخًا لرغبات إسرائيل قد تحقّق.
أعادت أحداث 7 تشرين الأول/أكتوبر إلى الذاكرة خريطة "الشرق الأوسط الجديد" التي كشف عنها بنيامين نتنياهو في كلمة ألقاها أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 23 أيلول/سبتمبر 2023، أي قبل أسبوعين من الهجوم المفاجئ الذي شنّته "حماس" على الجانب الإسرائيلي.
هذه الخريطة تُظهر ستّ دول عربية ملوّنة بالأخضر، هي مصر والسودان والأردن والبحرين والإمارات العربية ــــ أي الدول التي طبّعت مع إسرائيل تحت مسمى "اتفاقيات سلام" أو "اتفاقيات ابراهيم" ــــ والسعودية التي، وفقًا لنتنياهو، تقترب من توقيع "اتفاق سلام" مع اسرائيل. وإلى جانب المناطق الملوّنة بالأخضر، منطقة ملوّنة بالأزرق تمتدّ من نهر الأردن إلى البحر المتوسط مكتوبٌ عليها إسرائيل، من دون أيّ ذكر أو إشارة إلى دولة فلسطين.
بدت هذه اللحظة كاشفة لقرار رسمي إسرائيلي أُعلن عنه أمام دول العالم قاطبة، يفيد بأن الحلّ الوحيد الذي تراه إسرائيل وتعمل بموجبه يتمثّل بمحو الفلسطينيين وأي كيان لهم عن الخريطة تمامًا، وبأنّ أيّ خيار آخر تحت مسمى "السلام" أو "حلّ الدولتين" ليس سوى إضاعة للوقت. فـ"السلام" الذي تتحدث عنه إسرائيل إنما يقوم على التسليم بالأمر الواقع، والاستسلام الكامل لشروطها الآنية ورغباتها المستقبلية.
لم يكن خطاب نتنياهو الذي انطوى على عدم الاعتراف بوجود فلسطين، الأول من نوعه، بل سبقه في ذلك وزير المالية الإسرائيلي في باريس في آذار/مارس الماضي، الذي أبرز خريطة تُظهر أن حدود إسرائيل أبعد من تلك التي رسمها نتنياهو، حيث ضمّت إحدى المناطق الست المظلّلة باللون الأخضر، أي الأردن، في إشارة تُبيّن أن الدولة الهاشميّة إنما هي جزء من "حلم إسرائيل الموعود".
وقد كان وزير المالية صريحًا في هذا السياق بقوله "لا يوجد فلسطين"، مضيفًا أن "الشعب الفلسطيني اختراع ووهم لا يتجاوز عمره 100 عام"، فيما "شعب إسرائيل عائد إلى دياره بعد 2000 عام من النفي".
وليست خريطة وزير المالية تلك حديثة، فهي تعكس "الحُلُم المؤسّس" للحركة الصهيونية، الذي أفصح عنه بن غوريون للجنرال ديغول في قصر الإليزيه في حوار دار بينهما مرّة في حزيران/يونيو 1960، يوم سأله الأخير عن رؤيته بشأن حدود إسرائيل، ليجيب بن غوريون: "لو سألتني هذا السؤال لخمس وعشرين سنة خلت، لأجبتك بأن نهر الليطاني هو حدودنا الشمالية وشرق الأردن حدودنا إلى الشرق".
تسعى إسرائيل إلى تعظيم ردود أفعالها الانتقامية من أجل إعادة غرس ثقة شعبها في المؤسستين السياسية والعسكرية
هكذا تضحي الحدود التي يحلُم بإقامتها صقور إسرائيل ممتدّة "من البحر الأبيض المتوسط غربًا، والصحراء السورية الكبرى (بادية الشام) شرقًا، إلى شبه جزيرة سيناء وخليج إيلات في الجنوب، وصولًا إلى نهر الليطاني في الشمال" (إسرائيل الكبرى "دراسة في الفكر التوسعي الصهيوني"، ص 594).
هناك مؤشرات تفيد بأن لـ"طوفان الأقصى" تداعيات عالمية شبيهة بتداعيات هجمات 11 أيلول/ سبتمبر في الولايات المتحدة. فالأحداث المذكورة أنتجت عواقب طويلة الأمد في ميدان العلاقات الدولية، إذ تحوّل مبدأ عدم التدخل في شؤون البلدان إلى "حق الولايات المتحدة بالتدخل" تحت لافتة "الحرب على الإرهاب". فكان الغزو الأميركي لأفغانستان وبعدها العراق، وجاء التدخل لاحقًا في سوريا تحت مسمّى "محاربة داعش".
وعلى نحو مماثل، يمكن القول إنّ هجوم "حماس" من قطاع غزة المحاصر على المستوطنات الإسرائيلية المحيطة من شأنه أن يشكّل نقطة تحوّل جذرية في الشرق الأوسط، مع ما لذلك من تأثير على "المجتمع الدولي" برمته.
إن التحشيد الإعلامي والعسكري الذي تقوم به إسرائيل سيضع الولايات المتحدة أمام خيارين صعبين، الأوّل يتمثّل بـ"عدم التدخل"، ما يعني أن احتمالية إضعاف القاعدة العسكرية الأميركية في غرب البحر المتوسط ــــ "إسرائيل" ــــ ستكون أكثر احتمالًا. أما الخيار الثاني، أي التدخل مباشرة في الصراع، فسيُشغل الولايات المتحدة عن أولويّتها الاستراتيجية القصوى، المتمثلة بالصين، وسيُعقّد تعهّدها بالإسهام بشكل فاعل في إدامة الأمن الأوروبي وتقديم المزيد من المساعدات العسكرية والاقتصادية لأوكرانيا.
في المقابل، يُتوقّع أن يزداد انخراط الصين في شؤون الشرق الأوسط، لا نظرًا لما يشكّله من مصدر للطاقة التي تحتاجها، ومركزًا لمشروعها الاستراتيجي في مبادرة "الحزام والطريق" فحسب، بل لأنّ هذه الحرب قد تشكّل فرصة لتحقيق مكاسب جيوسياسية في المنطقة، عن طريق طرح الصين نفسها كوسيط مؤثر في أي عملية سلام.
فقد أدت الصين دورًا ديبوماسيًا في نيسان/أبريل الماضي، استطاعت من خلاله إعادة وصل العلاقات الدبلوماسية المقطوعة منذ 2016 بين المملكة العربية السعودية وإيران، واستضافت في حزيران/يونيو الرئيس الفلسطيني، ثمّ دعت رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى زيارتها ووافق الأخير، قبل أن تؤجل الزيارةَ حربُ غزة (أو تلغيها).
وإذا ما اعتبرنا أنّ الحرب الروسية ـــ الأوكرانية تشكّل بداية اتجاه العالم نحو مزيد من الاستقطاب، فإن حرب غزة الحالية قد تعمّق هذا الاستقطاب أكثر.
شكّلت هجمات "حماس" صدمة لإسرائيل، وأضعفت ادعاءاتها بحصانتها التامة نتيجة تفوقها العسكري والأمني والتكنولوجي. من هنا، تكمن الأولوية الأكثر أهمية لإسرائيل اليوم في استعادة سمعتها المفقودة.
وعليه، فإن الصراع مع إسرائيل اليوم مختلف جوهريًا عما سبق. إذ ستسعى تل أبيب إلى تعظيم ردود أفعالها الانتقامية من أجل إعادة غرس ثقة شعبها في المؤسستين السياسية والعسكرية، وضرب التصوّرات الإقليمية الناشئة حول هشاشتها. ويحتاج هذا إلى تظافر جملة من العوامل، أوّلها هزيمة "حماس" واستئصالها بالكامل كقوة سياسية وعسكرية، وثانيها رسم صورة جديدة لخريطتها السياسية والجغرافية من خلال تحقيق المزيد من المكاسب على الأرض.
وإذا تمكّنت إسرائيل من هزيمة "حماس" (وحلفائها إذا ما تمدّدت الحرب)، ستكون أحلام بن غوريون الخاصة باتساع حدود إسرائيل قد حُفرت واستقرّت في الواقع، وسيُضحي مفهوم "السلام" بوصفه رضوخًا لرغبات إسرائيل قد تحقّق.
لهذا، فإنّ الصراع القائم اليوم سيكون مليئًا بالتحديات، وسيستغرق وقتًا وجهدًا وينجم عنه سقوط أعداد كبيرة من الضحايا. اللهم إلا إذا تعاملت الدول العربية بجدّية مع قرار تشكيل شرق أوسط جديد، من منظور إسرائيلي بالكامل، وتعاملت مع القضيّة الفلسطينيّة بوصفها محدّدة لمصير المنطقة، لا مصير الفلسطينيين وحدهم.