درعا 2011 – السويداء 2023: الدروس (غير) المستفادة!

سيقال الكثير حول الرايات والغايات وتصدّر مشايخ العقل "حراك السويداء". لكنّ المؤكد أن نزع ذلك كلّه من سياقه السوري الذي امتاز منذ عقود بإغلاق المجال العام، وتعطيل الحياة السياسية، هو اجتزاء غير منصفٍ على الإطلاق.

"ما تأتي به الثّورات من حوادث ظاهرة، هو نتيجة نشوء خفيٍّ وقع في النفوس شيئًا فشيئًا".

(غوستاف لوبون، "روح الثورات والثورة الفرنسية")

 

يفرض حراك السويداء، مع دخوله الشهر الثاني، الكثير من الأسئلة التي لا تكفُّ عن التناسل، من دون أن يقابلها ولو جواب واحد.

قد لا يكون هذا مستغربًا في ظل التعقيدات الهائلة المتداخلة التي تعتري المشهد السوري بأكمله. غير أنّ المستغرب، والفريد في آن، أنّنا أمام طرفين نجح كلٌّ منهما في تحقيق هدفه الأولّي: السلطات السورية التي صبّت اهتمامها حتى الآن على بقاء التظاهرات محصورةً في السويداء والحيلولة دون حصول "هزة ارتدادية" خارجها، ومنظمو الحراك الذين اعتبروا استمراره وتزخيمه نجاحًا بحدّ ذاته.

لكن "ماذا بعد"؟ هذا أهمّ الأسئلة على الإطلاق بالتأكيد. إذ لا يمكن استمرار "النجاحين" على خطين متوازيين. ولا بدّ إمّا من تحول أحدهما إلى تعثّر، أو من وصولهما إلى نقطة التقاء من المسلّم أنها مستحيلة ما لم يتغيّر مسار الخطّين، أو أحدهما على الأقل، وهذا بدوره ليس أمرًا يسيرًا في ظل غياب مبادرات وطنيّة جدّية، وبالتزامن مع فرملة مسارات الانفراج الإقليمية، ومع استعداد بديهي لدخول لاعبين دوليين على الخط.

وبرغم أن المقارنات ليست نهجًا محمودًا ــــ في حالة سوريا على وجه الخصوص ــــ فإنّ بعضها يفرض نفسه بين الراهن، وبين ولادات الحدث السوري في 2011، من تحوّل كلّ يوم جمعة إلى قنبلة موقوتة تسترعي انتباه السوريين (ربما بلا استثناء)، إلى تفاعل دمشق مع حراك الشارع بأسلوب يزاوج الأمني بالاحتوائي، مع اختلافات جوهرية بطبيعة الحال تمثلت حتى الآن في ضبط النفس داخل السويداء إلى حدّ "عدم فعل شيء" ــــ سواء كان هذا الشيء إيجابيًّا أو سلبيًّا ــــ من دون أن يغيّر إطلاق النار في مقر فرع "حزب البعث" شيئًا، إذ يبدو جليًّا أنها كانت واقعة ارتجالية يمكن القول إنها مرّت بسلام (حتى الآن).

كان لافتًا أن إقالة محافظ طرطوس السابق ترافقت مع تعيين محافظ قادم من خلفية أمنية، في رسالة لا يصعب فهمها على أحد

أما مزاوجة الاحتوائي بالأمني، فقد دارت في مسرح أكبر من السويداء بحد ذاتها، وبهدف لا يصعبُ فهمه، هو حصرُ البؤرة داخلها، لتتوارد أنباء عن اعتقال هنا وتوقيف هناك، وإقالة محافظ وتعيين آخر، وفي خلفية ذلك كلّه سلسلة مراسيم تشريعية قد تكون الأكثف تواترًا منذ سنوات طويلة.

ففي غضون ثلاثة أسابيع، صدر (للدقة: نُشر) ثمانية عشر مرسومًا تشريعيًا، معظمها ذو صبغة اقتصادية، وربما كان أهمّها على الإطلاق إنهاء العمل بمرسوم إحداث محاكم الميدان العسكريّة.

بالطبع، لا يمكن عدّ هذه المراسيم استجابة لما تشهده السويداء لأسباب عديدة، على رأسها أن كثيرًا منها كانت في طور الصياغة والتجهيز منذ ما قبل القرار الحكومي الشهير الذي خفض الدعم عن المحروقات إلى حدّ يقارب رفعه كليًّا، فضلًا عن أنّ النهج الرسمي السوري دائم الحرص على تجنّب الظهور في مظهر من يخضع للضغط، خصوصًا متى كان مصدره داخليًّا!

وقد بدا لافتًا في هذا الإطار أن إقالة محافظ طرطوس السابق (عبد الحليم خليل) التي يبدو أنها جاءت انتصارًا لمجلس إدارة محليّة، ترافقت مع تعيين محافظ قادم من خلفية أمنية (فراس أحمد الحامد)، في رسالة لا يصعب فهمها على أحد.

الفارق كبير بين كون أي حراك طائفيًّا، وبين كونه "حراك طائفة"

المفارقة الأبرز أنّ متظاهري السويداء ربما ساعدوا، من حيث لا يدرون، على حصر التظاهرات داخل الحدود الإدارية لمحافظتهم حتى الآن، مع طغيان راية "الحدود الخمسة" على المشهد، الأمر الذي سرعان ما تلقّفه كثرٌ لإسباغ صفة طائفيّة على الحراك، من دون أن يُحدث فارقًا رفعُ شعارات ومطالب تهم معظم السوريين.

ومع أن الفارق كبير بين كون أي حراك طائفيًّا، وبين كونه "حراك طائفة"، فإنّ الصفة الأخيرة كفيلة بتغذية كثير من الهواجس السورية.

لقد قيل، وسيقال الكثير، حول الرايات والغايات، وحول تصدر مشايخ العقل للحراك. لكنّ المؤكد أن نزع ذلك كلّه من سياقه السوري الذي امتاز منذ عقود بإغلاق المجال العام، وتعطيل الحياة السياسية، هو اجتزاء غير منصفٍ على الإطلاق. وقد يشبه الأمر هنا كلامًا كثيرًا سبق أن قيل حول انطلاق التظاهرات من المساجد قبل أكثر من عقد.

في الحالة المُثلى، ينبغي أن تكون الظاهرتان مرفوضتين بكل تأكيد. لكن السؤال الذي يطرح نفسه دائمًا: ما البديل؟

أما الجواب الذي يُعجب كثيرين حتى الآن فهو: الصمت.

قد يكون هذا أهمّ درس غير مستفاد في الحالة السورية، وفي المنطقة العربية بأكملها: لم يعد الصمتُ خيارًا واردًا، لا سيّما في ظل انعدام الحوامل التي قد تجعله "مغريًا"، أو آمنًا في أسوأ الأحوال.

يمكنك أن تُخوّف مجتمعًا مستقرًّا من الفوضى، وأن تخوّف سكان "دولة قانون" من انعدامه. ويمكنك أن تُحذّر مجتمعًا يحصل على كفايته من التردي الاقتصادي، وطبقة وسطى من التلاشي. وبإمكانك أن تُنبّه من مخاطر تعطّل التنمية، وتُحذر السكان من خسارة السلم والتردي إلى الحرب. لكن كلّ هذا حين لا يكون اسم بلادهم سوريا!

من دمشق: عن "سبعة أيام غيّرت سوريا"

"ما عنا رواية واحدة للي عم يصير.. حاليًّا في 23 مليون حكاية مختلفة". هذه مشاهد نرويها، من دمشق، عن أجواء...

صهيب عنجريني
ابتسمي أيتها الدراما

ثمة مسلسلات يَفترض فيها الكاتب الذروة التي يريد من الأحداث أن تصلها، ثم يبدأ في قيادة سلوكيات الشخصيات نح...

صهيب عنجريني
دمشق "ما بعد غزّة": كلّما ضاق الهامشُ اتّسع!

تبدو دمشق للمرّة الأولى شبه محيّدة عن واحدة من أكبر جولات الصراع "العربي ــــ الإسرائيلي"، من دون أن يعني...

صهيب عنجريني

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة