"إجت النصرة، إجت النصرة، صلوا لنا". أكادُ لا أُصدّق أن عشر سنوات وبضعة أيام مرّت منذ سمعتُ هذه العبارة من الأم بيلاجيا سيّاف عبر الهاتف، في 5 أيلول/سبتمبر 2013.
كانت "جبهة النصرة" وبضع مجموعات مسلحة أخرى قد اقتحمت قبل يوم واحد بلدة معلولا التاريخية (ريف دمشق)، وكانت سيّاف رئيسة لدير مار تقلا في البلدة.
بدأ الاقتحام مساءً. في الساعات الأولى، لم يشِع أي خبر عما يحصل. كانت وسائل التواصل الاجتماعي أقل مما هي عليه اليوم إغراقًا للفضاء العام بالأخبار، ولم يرد أي شيء حوله عبر أي وسيلة إعلام.
تلقّيت الخبر عبر صديقة لها أقارب في البلدة، فاستنفرتُ لتقصي التفاصيل، وحصلتُ على بعضها بصعوبة بالغة. إذ كانت الاتصالات في المنطقة خارج الخدمة، والوصول إليها من دمشق أمرًا مستحيلًا. كتبتُ سريعًا ما أُتيح لدي من معلومات، وأرسلتُه إلى جريدة "السفير" اللبنانية التي كنتُ مراسلًا لها. بعد منتصف الليل بقليل، أُتيح تصفح عدد اليوم التالي من "السفير" على موقعها الإلكتروني، وقد عنونت في صفحتها الأولى "جهاديّون يحتلون معلولا". شاع الخبر، لتغمرني بعده عواصف من الشتائم، والاتهامات بترويج الأكاذيب، إذ "لا يوجد جهاديون بين الثوار". وشارك في حفل السباب الجماعي ذاك شعراء، ومثقفون، وصحافيون، كلهم أصدقاء سابقون.
أذكر أن أحد "كبار المعارضين" اكتشف ببراعة غير منقطعة النظير (مثلها أمثال على المقلبَين) أننا "أُجراء نروّج الأكاذيب"، وانطلق يصدح بتصريحات عن "النظام الذي ينفذ خطة معدة مسبقًا لإيقاع "الجيش الحر" في الفخ، وتتلخص في إرسال عدد من شبيحته على أنهم إسلاميون لإثارة الذعر في معلولا المسيحية تحت شعار الإسلام (...) ما يجعل رسالته التضليلية تلك تصل للمجتمع الدولي الخائف من الكتائب الإسلامية". فيما انطلقت، في المقابل، مواقع ووسائل إعلام من الضفة الأخرى تتناقل الخبر، لتعزز به سرديّتها الأثيرة: "كلهم نصرة، كلهم إرهابيون" مستهدفة كلّ من قال: لا، بأي طريقة كانت.
تلقيتُ اتصالًا على هاتفي من رقم مجهول، جاء الصوت خشنًا: "إنت صهيب؟ ما بيسلم عليك الشيخ أبو مالك (التلّي)، وبيقلك: منتواجه"
في اليوم التالي للاقتحام، أفلحتُ أخيرًا في التواصل مع معلولا عبر الهاتف الأرضي لدير مار تقلا. وبعد رنة واحدة، جاءني صوت الأم بيلاجيا. طرحتُ أسئلة سريعة مرتبكة وأنا أتخيل ظروفها وأعتذر بشدة، وردّت بإجابات مرتبكة وهي تشكر اتصالي، قبل أن يزداد ارتباكُها ارتباكًا وتقول بصوت أقرب إلى الهمس: "إجت النصرة.. صلوا لنا"، ويُغلق الخط.
تحوّلت الجملة عنوانًا لمتابعة خبرية نُشرت أيضًا على الصفحة الأولى من "السفير" في 6 أيلول/سبتمبر. لم يتوقف كثرٌ عند جملتها تلك، وصبّوا اهتمامهم بدلًا منها على قولها إن "كنائس البلدة وأديرتها لم تتعرض لاعتداءات باستثناء سقوط قذيفتين على سور دير مار تقلا" (قيل لاحقًا إنها قالت ذلك الكلام تحت ضغط وتهديد). وجريًا على "التقاليد السورية" التي طغت في الحرب، تحوّلت سيّاف إلى هدف للشتائم والاتهامات بـ"تبييض صفحة النصرة، والتواطؤ معها"، فيما احتفت الضفة الأخرى بـ"صدقها في الحديث عن الثوّار".
هل قلت قبل قليل إن أحدًا لم يتوقف عند جملة "إجت النصرة صلوا لنا"؟ حسنًا، فلأكن أكثر دقة: لم يتوقف عندها أحد كما فعلت "جبهة النصرة" ذاتها. ففي 10 أيلول/سبتمبر، تلقيتُ اتصالًا على هاتفي الخلوي من رقم مجهول، جاء الصوت خشنًا، بنبرة هادئة، لكنّها تحمل في طياتها كل ما يوحي بالتهديد. قال بالحرف، وبلا مقدمات: "إنت صهيب؟ ما بيسلم عليك الشيخ أبو مالك (التلّي)، وبيقلك: عم تفتري وتشوه صورتنا؟ منتواجه"، وأُغلق الخط.
لم يرد نبأ موت سيّاف في نشرات الأخبار، ولم تحز اهتمامًا شأن معظم موتى هذه البلاد
ستنضم تلك العبارات إلى عبارة الأم بيلاجيا، ومجموعة عبارات أخرى سمعتُها على امتداد سنوات، وما زلتُ قادرًا على سماعها ـــ كما قيلت ـــ كلما أغمضتُ عينيّ وفتحت الباب للذكريات. لن تنتهي القصة هنا، فبعد أكثر من عام، سأُستدعى إلى أحد الفروع الأمنية الشهيرة في دمشق للوقوف على حقيقة "تواصلي مع إرهابيين"، وسيكون ذلك الاتصال في قائمة الاتصالات التي سأُساءل بشأنها أثناء "فنجان القهوة" الذي استمرت استضافتي عليه طوال النهار (من دون أن أذوق طعم القهوة)، وأخمن أنه كان ليستمر أكثر بكثير لولا جهود صديقة إعلامية كثيرة الأفضال.
ظلت بيلاجيا سياف في واجهة الأخبار المتداولة، وأثارت الجدل والأقاويل طويلًا، لا سيما عقب اختطافها وراهبات الدير (12 راهبة، وثلاث عاملات) في كانون الأول/ديسمبر من ذاك العام على يد "النصرة"، ثم عقب تحريرهنّ في آذار/مارس 2014، قبل أن يخفت ذكرها شيئًا فشيئًا.
قبل أيام (5 أيلول 2023)، وللمصادفات الغريبة بالتزامن مع ذكرى اقتحام معلولا، ماتت الأم بيلاجيا سيّاف، ثم دُفنت في الدير الذي كانت قد أجابتني قبل عشر سنوات عن سبب عدم مغادرتها إياه بالقول: "إلى أين نذهب؟ ولمن نترك الدير؟ لا يمكن أن نتركه مهما حصل".
لم يرد نبأ موت سيّاف في نشرات الأخبار، لم تحز اهتمامًا شأن معظم موتى هذه البلاد. بينما لا يزال ذكر أبو مالك التلي، وأبو ماريا القحطاني، وأبو محمد الجولاني، وأقرانهم مغريًا وجذابًا لكثير من وسائل الإعلام. ولا تزال حفلات السباب والشتائم والتخوين مستمرّة، وثمة من هو مستعد دائمًا للإمساك بـ"راس الدبكة"، أيّاً يكن اتجاه "الدّبيكة".