"أنا الظّل الهائل لدموعي"

"في بالعادة تبكي؟"، يسألني صديقي، فأفكر في تأجيل الإجابة لأنني أحدس أنها ستكون طويلة، ثم أختصرها له: "إي، بالعموم ببكي، بس لو عندي وقت.. كنت بكيت كتير وعلى كتير تفاصيل".

إلى كلّ من لم أبكِهم كما ينبغي

"في بالعادة تبكي؟"، يسألني صديقي؛ فأضحك! لم أكن أقصد وقتها أن أُقلّد نزار قباني إذ يقول "كان في ودي أن أبكي، ولكنّي ضحكت" بكل تأكيد، فأنا منذ سنوات أهرب من الشعر والشعراء. كلّ ما في الأمر أن الضحك فعلٌ يسهل تزييفه. ليس بالضرورة أن تتصنّعه. يمكنك أن تضحك بالفعل، لكن بلا إخلاص، على عكس البكاء الذي لا يستحق اسمَه إلا حين تغرق فيه "من قلب ورب". وحينذاك، تزعم الفكرة الشائعة أنك سترتاح.

لكن "لا، البكاء لا يفيدُك" كما عنونت صحيفة "لو فيغارو" الفرنسية إحدى مقالات ملحقها "مدام فيغارو" قبل سنوات. تسعى كاتبة المقالة المذكورة وراء الأساس العلمي لممارسة يابانية قوامها "معالجة الألم بالدموع"، فتنقضها مؤكدةً لنا أن النصيحة اليابانية التي تدعو إلى "البكاء مرة في الأسبوع من أجل حياة خالية من الضغط النفسي"، تفتقر إلى أساس علمي (حتى تَوَهُّمك الراحة بفضل البكاء وَجَدَ من يتصدى له ويفنّده، يا للهول!).

في كتابه "Crying: The Natural and Cultural History of Tears / البكاء: التاريخ الطبيعي والثقافي للدموع"، يشرح الأكاديمي الأميركي توم لوتز أن الكائن البشري الطبيعي يبكي ـــ وسطيًّا ـــ نحو أربعة آلاف مرة في العامين الأولين من حياته. أتساءل اليوم: "هل حظيتُ بالفعل بمثل هذا الترف يومًا؟ هل وجدتُ الوقت كي أبكي أربعة آلاف مرة خلال عامين؟!". ثم سرعان ما أضحكُ من نفسي، فما الذي قد يشغل رضيعًا عن استثمار وقته في البكاء؟

المفارقة الكبرى تتجلى في أنّ الرضيع، أي رضيع كان، إنما يبكي للأسباب ذاتها مرارًا وتكرارًا، وهي غالبًا ما تكون أسبابًا ظرفية/موضوعية/جسمانيّة، ومؤقّتة. نعم، على الأرجح أنني بكيت نحو أربعة آلاف مرة في عامين لأنني كنتُ جائعًا، أو بحاجة إلى تغيير الحفاض، أو أشعر ببعض المغص، أو ببساطة لأنني كنت أشعر بالملل ولا أعرف ماذا يمكنني أن أفعل، "حسنًا، فلأبك قليلًا".

كيف سارت علاقتي بالبكاء بعدها؟ أتخيل الأمر على النحو التالي: بدأت في اكتساب المعرفة تدريجًا، دخلت نفق التعلم، تشكل وعيي شيئًا فشيئًا، وكلما تعلّمت أكثر، وعرفت أكثر، تعدّدت مُسبّبات البكاء وموجباته، لكنّ موانعه تعدّدت أيضًا. صارت لدي واجبات، وتسرّب الوقت من بين يديّ، فلم أعد أملك وقتًا كي أبكي. حسنًا، لقد وجدتُ للتو تفسيرًا جديدًا للمقولة الصوفيّة "العقلُ حجاب"!

قبل سنوات كُسر الجفاء بيني وبين "البكاء بإخلاص" مرة وحيدة، وكان تاريخ "4 آب" ـــ يوم انفجار مرفأ بيروت ـــ حاضرًا في الخلفيّة

ثمة مفارقة أخرى هنا يقدمها لنا العزيز أرسطو: "بكاء الطفل يساهم في نموّه"، أي أننا بشكل أو بآخر مجبولون بدموعنا: بكينا، فساعدنا ذلك على أن نكبر، لنتعلم أكثر، فتزداد أسباب البكاء، ويقلّ بكاؤنا لأننا كبرنا! أي دوامة هذه!

بالطبع، لا أتذكر أي واحدة من آلاف مرات بكائي في عامَيّ الأول والثاني، ولا مرات كثيرة تالية في سنوات طفولتي اللاحقة (لم يخبرني أحدٌ إن كانت مئات أو آلافًا). أقدم ذكرى عالقة في ذهني عن البكاء تردّني إلى شكل غريب من أشكال التعبير عن الحزن. كنت في الثالثة عشرة من عمري، وأذكر أنني بكيتُ بـ"نهمٍ" شديد وقتها. لا أعني هنا النهم المجازي، بل كان نهمًا حقيقيًا غريبًا. بقيت لساعات أبكي وألتهم نوعًا من الحلويات يشيع في حلب اسمه الشعبي "كول واشكور".

بدأ كل ذلك حين ناداني أصغر أخوالي قائلًا: "تعال ودع أبوك". كان قد توفي قبل ساعات، ويهمّون بتكفينه، ولم أكن قد بكيتُ بعد. دخلتُ الغرفة، ونظرت إليه من دون أن أراه، فقد حجبت الدموع عني كل شيء. ركضتُ إلى المطبخ، فتحت واحدة من علب حلوى عديدة جلبها أحدُهم للمعزين (ما أغرب هذا)، ورحت آكل وأبكي، من دون أن أشكر. كان ذلك اليوم آخر عهدي بذلك النوع من الحلوى، ولم أعد إلى تذوقه أبدًا.

قليلًا ما بكيت في اليفاعة والصبا، لكنني كنت حين أفعل، أفعل بإخلاص شديد. وعادة ما كان ذلك يحصل بسبب الفقد، أو الحب، وهما كما بتّ موقنًا منذ سنوات طويلة اسمٌ مركّب لمسمّى واحد. في كل مدينة سكنتُها كنت أجدُ لنفسي مكانًا قصيًّا في الفضاء العام، لأبكي حين يسمح الوقت ـــ ونادرًا ما يفعل ـــ في الهواء الطلق، وبعيدًا من أعين الفضوليين. شيئًا فشيئًا تخليتُ عن تلك العادة، ثم أقلعتُ عنها نهائيًّا منذ صارت البلادُ حفل بكاء جماعي تغذيه كل الأسباب الجديرة بالبكاء.

قبل سنوات قليلة كُسر الجفاء بيني وبين "البكاء بإخلاص" مرة وحيدة، وكان تاريخ "4 آب" حاضرًا في الخلفيّة. لم أقع في غرام بيروت يومًا، وبالطبع هزّني انفجار المرفأ، بيدَ أنه لم يُبكني. لكن، بعد قرابة شهر من وقوعه، فوجئتُ باهتمامي الشديد بمحاولات فريق الإنقاذ التشيلي الوصول إلى حياة ما عالقة تحت الركام. تابعتُ التطورات بلهفة، كثيرًا ما استيقظت في الليل فقط لأعرف آخر المستجدات، وحين انتهت تلك المحاولات إلى الفشل بكيت بإخلاص شديد. حتى اليوم، وكلما تذكرت تلك الساعات أصابتني حيرة هائلة: لماذا غرقت في كل ذلك البكاء؟

"في بالعادة تبكي؟"، يسألني صديقي، فأفكر في تأجيل الإجابة لأنني أحدس أنها ستكون طويلة، ثم أختصرها له: "إي، بالعموم ببكي، بس لو عندي وقت.. كنت بكيت كتير وعلى كتير تفاصيل، بس ما عم لاقي وقت للبكاء".

نعم يا صديقي، أنا مجرد بكاء مؤجّل، أو فلأقل مستعيرًا من لوركا: "أنا الظلّ الهائل لدموعي".

من دمشق: عن "سبعة أيام غيّرت سوريا"

"ما عنا رواية واحدة للي عم يصير.. حاليًّا في 23 مليون حكاية مختلفة". هذه مشاهد نرويها، من دمشق، عن أجواء...

صهيب عنجريني
ابتسمي أيتها الدراما

ثمة مسلسلات يَفترض فيها الكاتب الذروة التي يريد من الأحداث أن تصلها، ثم يبدأ في قيادة سلوكيات الشخصيات نح...

صهيب عنجريني
دمشق "ما بعد غزّة": كلّما ضاق الهامشُ اتّسع!

تبدو دمشق للمرّة الأولى شبه محيّدة عن واحدة من أكبر جولات الصراع "العربي ــــ الإسرائيلي"، من دون أن يعني...

صهيب عنجريني

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة