من صاحب هذه الأغنية؟

نتناول هنا مظلومية الصنّاع الذين تقتصرُ مدخولاتهم على "القطفة الأولى" كـ"ثمنٍ للكلام واللحن"، علمًا أنّ  وجهات نظرٍ وازنة تؤكّد أنّه لا يحق للمؤلّف بيع منتجٍ إبداعي أصلًا، وأنّ المال الذي يتقاضاه، بداية، هو لقاء "السماح باستخدام هذا المنتج".

ازدادت كثافة الإطلالات الإعلامية للملحّن المصري عمرو مصطفى في الأشهر الماضية. صاحب "سيبوه" (كتبها مصطفى ناصر / وزّعها إسلام الأزرق) بدا منشغلًا بفكرة واحدة أصيلة: "الدفاع عن حقوق المؤلّف، كاتبًا كان، أم ملحنًا، أم موزعًا".

ولأنّ تاريخ مصطفى يغصّ بالتصريحات التي تنوس بين وجهين اثنين، دفاعي واتّهامي، فإنّ جعله ينزلق إلى الشخصنة كان سهلًا على غالبية محاوريه. إذ يكفي أن تجيء على ذكر مُحسن جابر أو رامي صبري أو عمرو دياب، مثلًا، حتّى يحيد صاحب "بشرة خير" (كتبها أيمن بهجت قمر / وزّعها توما) عن القضية التي يحارب لأجلها، ويغوص، من دون أن يشعر، في دوّامة "فلان عمل معايا كده" و"فلان ما يستاهلش أنّي أردّ عليه"، الأمرُ الّذي يحوّله إلى مادة دسمة في سوق "الترند" والمشاهدات.

صاحب "العالم الله" (كتبها أمير طعيمة / وزّعها طارق مدكور)، يفتح ملفًّا قديمًا جديدًا لطالما خاض في تفاصيله مؤلّفون كثر، نذكر منهم، على سبيل المثال، الملحّن اللبناني سمير صفير الذي دافع عن مظلومية صنّاع الأغنية في إطلالات إعلامية كثيرة.

عام 1994، أطلق وائل كفوري أغنية "ما وعدتك بنجوم الليل" التي لحّنها صفير، وما زالت تحضر، بصورة شبه دورية، في ريبيرتوارات المغنّي اللبناني حتّى يومنا هذا. تقاضى صاحب "أنتي مشيتي" (كتبها نزار فرنسيس / وزّعها طارق مدكور) مبلغًا لا يزيد، في أحسن الأحوال، عن ثلاثة آلاف دولار أميركي. أمّا كفوري، فما زال ينتفع من الأداءات العلنية للأغنية، ومن عائدات الستريمينغ، حتى اللحظة.

يشرح هذا الأمرُ، بإيجاز، مظلومية الصنّاع الذين تقتصرُ مدخولاتهم على "القطفة الأولى" كـ"ثمنٍ للكلام واللحن"، علمًا أنّ  وجهات نظرٍ وازنة تؤكّد أنّه لا يحق للمؤلّف بيع منتجٍ إبداعي أصلًا، وأنّ المال الذي يتقاضاه، بداية، هو لقاء "السماح باستخدام هذا المنتج"، الأمرُ الذي يعني، في حال تحصينه تشريعيًا، أنّ المصنّف الإبداعي ملكٌ لصاحبه ويحقّ له أن يصرّح باستخدامه لطرفٍ ثالث ورابع ربّما. لكنّ صيغ التنازلات التي كرّستها جهات الإنتاج، ومن ورائهم المغنّون، والتي تشكّل معادلًا لعقود البيع القطعية، حرمت، وما زالت تحرم، عموم المؤلّفين، من الحقوق اللاحقة للنشر والأداءات العلنية.

صيغ التنازلات التي كرّستها جهات الإنتاج حرمت، وما زالت تحرم، عموم المؤلّفين، من الحقوق اللاحقة للنشر والأداءات العلنية

عام 2006 أطلقت لطيفة التونسية أغنية "معلومات مش أكيدة" (كتبها ولحّنها زياد الرحباني)، لكنّ الرحباني ظلّ صاحب الأغنية الرئيس، إذ شاهدناه يلعبها في إطلالات عدّة رافقته فيها رشا رزق مرّة، ومنال سمعان غير مرّة، وربّما نشاهد صاحب "كيفك أنت" يتيح لمغنيات أخريات أداء الأغنية التي لم تنسب للطيفة كمالكة وإنّما كمؤدّية.

بالمثل تحضر تجربة إياد الريماوي، الّذي خاض معركة الملكية على نطاق أوسع، حيث استطاع أن يفرض على شركات الإنتاج مفهوم "السماح باستعمال الشارات الغنائية"، لا امتلاكها. هكذا، إذا أراد أحدهم الاستماع إلى واحدٍ من مؤلّفات الريماوي، فإنّه سيجده على قناة الأخير على "يوتيوب" بصورة رئيسة، الأمرُ الذي يعني أنّ عائدات الستريمينغ ستكون من نصيب المؤلّف وحده، لا من نصيب المنتج أو مغنّي الشارة.

أمّا بخصوص الأداءات العلنية، فقد ثبّت الريماوي فكرة رئيسة تقول إنّ المغنّي هو آلة تعادل كلّ آلة أخرى في تكوين الأغنية، وإنّها قابلة للاستبدال بآلة ثانية حين يشاء المؤلّف ذلك، الأمرُ الّذي شاهدناه يتكرّر في مناسبات عدّة، حيث حلّت ليندا بيطار مكان بسمة جبر في أداءات جماهيرية لأغنية "هذي الروح" وحلّت كارمن توكمه جي بديلة لـلينا شماميان في بعضِ المسارح التي قدم فيها الريماوي شارة "مسافة أمان".

تفيد "المنظمة العالمية للملكية الفكرية (World Intellectual Property Organization)" بوجوب خضوع العمل الفنيّ لـ"اتفاقية برن (Bern Convention)" في عموم البلاد الموقعة على الاتفاقية.

تقوم الاتفاقية على ثلاثة مبادئ رئيسة:

أولًا، مبدأ المعاملة الوطنية، ويعني أن تتمتع المصنفات التي تم إعدادها في دولة من دول الاتحاد بالحماية في بقية دول الاتحاد، وبنفس مستوى الحماية الممنوح من تلك الدول لمصنفات مواطنيها (بمعنى أنّ المادة الإبداعية المشغولة في لبنان، يمكن أن تكون محمية في فرنسا، بذات الحصانة التي يتمتّع بها مصنف فرنسي أصيل).

ثانيًا، مبدأ الحماية التلقائية، ويعني أن المصنفات تخضع للحماية بشكل تلقائي، وبمجرد تأليفها، ولا تتوقف على أي تسجيل أو إيداع أو أي إجراء شكلي آخر.

ثالثًا، مبدأ استقلالية الحماية، ويعني أن التمتع بالحقوق الممنوحة للمصنف أو ممارستها لا يجوز أن يتوقف على وجود الحماية في بلد المنشأ (بمعنى أنّه في حال خلق منتج إبداعي في بلدٍ غير منضمٍّ للاتفاقية، فإنّ حصانة منتجه تكون واجبة في عموم البلاد المنضمّة إليها).

المفاجئ في هذا الخصوص، أنّ دولًا شرق أوسطية وعربية كثيرة كانت قد انضمّت لاتفاقية برن، دون أن يدرك مبدعوها مدى الحصانة التي يمكن أن يؤمّنها الاستناد إلى بنودها. وهكذا، ينسحب غالبية المؤلّفين (creators) من صراعات الملكية تاركين أبواب المنفعة مفتوحة أمام مغنٍّ محميّ بمرافعة شعبية قوامها ملايين المحبّين. ومن الدول المنضمة إلى الاتفاقية: تونس، المغرب، لبنان، ليبيا، مصر، الأردن، قطر، السعودية، سوريا، الإمارات العربية المتحدة، اليمن، الكويت.

يُقال، في التداول اليومياتي، وعلى سبيل الاستسهال الظالم، مثالًا لا حصرًا، أغنية "اعتزلت الغرام" لـ"ماجدة الرومي"، في تغييب كامل لدورِ صنّاعها الرئيسين (كتبها نزار فرنسيس / لحّنها ملحم بركات). لكنّ تعويم قضية الملكية الفكرية يمكن أن ينتج، إذا لقيَ أذانًا صاغية على مستوى التشريعات والنقابات، تغييرًا ما، الأمرُ الّذي قد يعيد لــ"زيديني عشقًا" نسبها الشعبي الطبيعي، فيقال "قصيدة نزار قبّاني" وغنّاها "كاظم الساهر" بدلًا من أن يُقال إنّها أغنية الأخير دون أن يردَ اسمُ مهندسها الأوّل في السياق. وحتّى ذاك الحين، سيظلّ السؤال مفتوحاً على جدالٍ بين الصنّاع وبين المغنّي:

"من صاحب هذه الأغنية؟".

اللاجئون السوريون: عن "النّار بالنّار" ومساحتنا البيضاء

نلعب في مساحة بيضاء ضيّقة يحاصرها إعلام تحريضي هائل يشتغل على شيطنة اللاجئين من ألف زاوية. وهذا الحقنُ سي...

رامي كوسا
عن الساروت الّذي يعيد إنتاج نفسه

الركون إلى الترهيب لجعل المكوّنات السورية "تقبل" بعضها سينتج مجتمعاً يتظاهر بالإلفة، لكنْ ما إن تغيب سلطة...

رامي كوسا

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة