1- لنبدأ من العناوين التي تختارها لأعمالك. تبدو كمن ينصب فخًا للقارئ؛ العناوين جذابة لكنّ أعمالك طافحة بالقسوة. لماذا تحمل "خزامى"، وهي الزهرة الرقيقة ذات الرائحة الجميلة، هذه القسوة كلها؟
الخزامى هي صلة الوصل بين اللاجئَين اللّذَين هربا إلى أميركا: عمر الذي قُطِعَت أذنه عقابًا على هروبه من التجنيد [الإلزامي في العراق]، وسامي الذي لجأ إلى أميركا جراء التهجير الطائفي الذي حدث بعد 2003. ثمة تناقض في الذاكرة؛ أحدهما أراد أن يستأصل العراق ويبدأ من جديد باسم جديد، فيدّعي أنه من بورتريكو حتى يتهرّب من أعباء الماضي وأسئلة العراقيين والأجانب. أما سامي فيتشبث بذاكرة المكان وبغداد. وللخزامى وظيفة في حياة الاثنين.
عمل عمر في ديترويت في محلات العراقيين، ثم هرب إلى نيوجرسي ليعمل في مزرعة ماعز ثم مزرعة خزامى. بعد ذلك تتطوّر الأمور ويخضع لعملية تجميل في أذنه. الخزامى هي المستقبل والبداية الجديدة لعمر. أما بالنسبة لسامي، فهي الماضي. أما موضوع القسوة، فللأسف الشديد حياة الشعوب في منطقتنا مليئة بالقسوة. والتاريخ مليء بالعنف. يمكن للمرء أن يكتب عن مواضيع شتى. غير أنّي مهووس بالكتابة عن الحياة المعقدة والمليئة بالألم.
2- يقول سعدي يوسف: "أهو ذنبك أنك يومًا وُلدت في تلك البلاد؟" وأحسب أن عقودًا من الديكتاتورية جعلتنا نماهي بين فكرة الوطن والنظام. ثمة تقريع طويل على لسان أحد أبطال "خزامى" للوطن. لكن برغم قسوة البلاد التي أتينا منها، وبرغم أننا لا نملك شبرًا فيها وأن هذه البلاد لا تحترم حقوقنا، أليست هذه فكرة ظالمة عن الوطن؟
لا، الفكرة الظالمة الموجودة في هذه الرواية ليست تعميمًا. لكنّ أحد الأشياء الموجودة في الرواية هو أن علاقة المهاجر واللاجئ بالوطن تختلف بحسب تجربة الإنسان والانحدار الطبقي. فشخص مثل سامي الذي ينتمي إلى الطبقة المتوسطة وعاش حياة جيدة وسمحت له الظروف أن يتلافى العنف، سوف تكون ذكرياته مختلفة عن [ذكريات] عمر الذي ينحدر من بيئة فقيرة، والذي عانى من عنف النظام الجسدي.
في العراق، قامت انتفاضة عظيمة كان شعارها "نريد وطنًا" وهي تلخّص هذه الإشكالية. فالإنسان يحلم بمكان يعيش فيه حياة كريمة، لكن الأنظمة تشوّه فكرة الوطن. وباسم فكرة الوطن تُدخِل الشعوبَ بحروب، وتدمّر الآلاف وتقتلهم باسم الوطنية. ولا أعتقد أنها فكرة ظالمة. أحد أبطال الرواية ضحية ولم يرَ من الوطن سوى القسوة.
المناخ السائد، في الإعلام الخليجي بالذات، يروّج لفكرة مفادها أن الجمهوريات فاشلة وأن الانتفاضات تؤدي إلى حروب أهلية
3- تذكّرني فكرة الوطن التي تأتي على لسان بطلك بفيلم ألماني اسمه "حياة الآخرين". قد لا يوافق المرء على فكرة الفيلم التي تفيد بأن الإبداع يكون في ذروته حين يخضع المبدعون للقمع والقهر، بيد أنّي أشرد بحالتنا نحن العرب. عمّ كنّا سنكتب في غياب الديكتاتورية والاحتلال؟
اسمحي لي أن أختلف مع هذه الفكرة. ثمة مثال: في التسعينيات، اكتشف الغرب السينما الإيرانية وصار مهووسًا بها. وقرأت آنذاك في "نيويورك تايمز" لناقد يقول "إن الرقابة الموجودة في إيران على تفاصيل كثيرة تحفّز الإيرانيين على أن يبدعوا في إنتاج الأفلام، وقد باتوا خلاّقين أكثر". لا أتفق مع هذا. ليتنا لم نعانِ من الديكتاتورية والحروب. هناك دائمًا حكايات وجمال وألم. والفن والأدب يعبّران عنها. الأحداث القاسية تحفر في وجدان الإنسان بالتأكيد. لكن كان لدينا حكايات قبل الحروب والديكتاتورية.
4- ثمة عراقَين في الرواية: عراق عمر وعراق سامي. وهنا تبرز مسألة الهوية التي يحاول عمر طمسها بعد ما تعرض له من اضطهاد، وراح يحاول اختراع هوية وانتماء جديدَين في أرض اللجوء، في مقابل هوية سامي المضطربة بعد إصابته بالخرف. هل ترى أنّ هناك مشكلة في تماهي اللاجئين مع مجتمع اللجوء تمامًا وإنكارهم كل ما يمت لبلادهم بصلة؟
أعتقد أنه في السنين الأخيرة، كشفت التوترات زيف أسطورة قبول الآخر في المجتمعات الليبرالية. من الممكن نظريًا قبول الآخر، لكن هناك اصطدام بالثقافة. وثمة طرق لمحاولة استيعاب القادمين من ثقافات أخرى. ولقد تغير العالم بعد 11 أيلول/سبتمبر، وبرزت هويات وصراعات جديدة. بيد أن اللاجئ في محنة أيضًا. يصل إلى مكان وتُمارَس عليه ضغوط، وعليه أن يتخلى عن كثير من عاداته وثقافته. ووجوده مرتبط بأفكار عنصرية، وهو يتعرّض للعنف. يتبنى الناس بحسب خلفيتهم وثقافتهم استراتيجيات حتى يتمكّنوا من العيش في المجتمع الجديد. جزء من الرواية مستوحى من حكايات الأشخاص الذين التقيت بهم في أميركا. هناك من يحتفظون بهويتهم وعاداتهم، وهناك آخرون يجدون أن محو الماضي والبدء من الصفر أكثر راحة من التشبث بالماضي.
5- لا نلمح خطًا دراميًا متسلسلًا في الرواية. يتداخل الزمن وتظهر الأصوات وتختفي بشكل متقطع، كما في ذاكرة مريض الخرف. ما المقصود من هذه التقنية في الرواية؟
لم أكن معنيًّا في رواياتي السابقة بالخطيّة والتسلسل الزمني التقليدي لدى كتابتها. ثمة تداخل في الأزمنة، لأن الطريقة التي نتذكر فيها الأحداث ونسترجعها ليست خطيّة على الإطلاق. [ينطبق هذا]، على وجه الخصوص، [على] أولئك الخارجين من صدمة نفسية أو عاطفية أو مرضى الخرف، حيث علاقتهم بالماضي تكون متوترة وملتبسة، وعلى شخصية سامي، بالذات، المصاب بالخرف، والذي يضيع بين الأزمنة ويخلط بين الماضي والحاضر والشخصيات. من الضروري جدًا أن تعكس بنية الرواية ثيمتها وإطارها العام. هذه [التقنية] مقصودة في الرواية بشكل كبير، لأنها تعكس حالة سامي النفسية وحالة عمر الذي يعود دائمًا إلى حدث مفصليّ في الماضي.
كانت "انتفاضة تشرين" لحظة مهمة، لأنها أثبتت أن الجيل الجديد استطاع بما يشبه الأعجوبة أن يقاوم التجهيل
6- "بغداد كانت سجنًا كبيرًا يمكن التجول فيه بحرية. غدت الآن سجونًا متلاصقة تحرسها ميليشيات عديدة". هذا ما ورد في رواية "وحدها شجرة الرمان". يُعبّر عن هذه الفكرة بشكل مختلف في "خزامى". هل ديكتاتورية واحدة أفضل من ديكتاتوريات عديدة؟
أرفض ما يفترضه السؤال، وهذه الثنائية. أعرف أن 2003 لحظة مفصلية في تاريخ العراق، فكّكت دولة بأكملها وجلبت نظامًا جديدًا. لكن هناك أيضًا استمراريّة في الممارسات والأساليب. السؤال يكرّر ثنائية مزيّفة رسّخها بوش وخطاب الولايات المتحدة قبيل 2003؛ "الديكتاتورية أم الحرية والديمقراطية". هناك فقد للذاكرة وأجيال لا تعرف معنى العيش تحت ظل ديكتاتورية صدام حسين. السؤال هو: هل الغزو الأجنبي هو الطريقة الوحيدة لتغيير الأنظمة الديكتاتورية؟ المناخ السائد، بالذات في المنصات الإعلامية التي تملكها أنظمة الخليج، يروّج لفكرة مفادها أن الجمهوريات فاشلة وأن الانتفاضات تؤدي إلى حروب أهلية. في كثير من البرامج الوثائقية هناك تزيين للملكيات وحنين ساذج لها في العراق ومصر. وأنا لا أريد أن أجيب عن هذا السؤال لأن الديكتاتورية وحروبها هي التي أنتجت بعض هذه الميليشيات. وأخيرًا، هذا السؤال يجب أن يوجّه إلى العراقيين الذين يعيشون في العراق الآن.
7- ألزهايمر، أو الخرف الذي يُصاب به سامي، صراع بين الضياع والتشبث بالذاكرة. هل يعكس هذا خرفًا سياسيًا ألمّ بالعراق؟
ما حدث في العراق هو تفكيك دولة ومؤسسات استغرق بناؤها قرنًا كاملًا. لم تكن هذه الدولة ملكًا لصدام حسين أو حزب "البعث". إنها دولة بناها العراقيون، ولم يؤسس نظام ما بعد 2003 بدلًا منها دولة أو مؤسسات تعمل بشكل حقيقي، بل واصلوا تخريبها وتحويلها إلى آلة فساد. ونحن، في العراق، لدينا إشكالية حقيقية.
كان لدى الدولة، في زمن "البعث"، مشروع لإعادة كتابة التاريخ من منظور بعثي. وطوال حرب العراق مع إيران، كان التركيز في الثقافة على إنتاج أدب الحرب الذي يقدّم صورة الدولة والحزب عن الحرب. ثم جاء الحصار في التسعينيات، والغزو في 2003 وحدثت فوضى في المجالات كافة، وتم تطييف التاريخ العراقي لأن النظام الجديد مبني على المحاصصة الطائفية. وجاءت معظم الأحزاب بأجندات طائفية تبثّ سمومها في الفضائيات والصحف وغيرها. كان الوضع غريبًا، لأن الإنسان يحاول أن يقاوم الذاكرة الرسمية للسلطة والسلطة تحاول أن تمحو. ثمة محاولات فردية مغايرة. كانت "انتفاضة تشرين" لحظة مهمة، لأنها أثبتت أن هذا الجيل الجديد استطاع بما يشبه الأعجوبة أن يقاوم التجهيل. لكن هناك خرف سياسي، أو لنقل فقدان ذاكرة جمعية.
عودة إلى السؤال السابق: هناك من لا يعرف، لأنه لم تحصل مراجعة أو حوار وطني مفتوح لما مر به العراق. معظم المسؤولين في هرم "الاتحاد العام للأدباء والكتاب العراقي" الآن بعثيون كانوا يكتبون قصائد مديح في النظام السابق ومقالات مخزية. هناك تزييف مستمر، ولا توجد مراجعة للماضي ولمسؤولية المثقفين في النظام السابق.
لا أعتقد أن الأمل عكس الذاكرة، من الصعب أن يبدأ المرء بداية جديدة من دون أن يواجه الماضي
8- في "خزامى" تأمل هادئ لما حدث في العراق، وخلاصة بأن الجميع ضحايا النظام. هل ينطوي ذلك على دعوة إلى إعادة قراءة تاريخ العراق؟
التاريخ هو ساحة لصراع سرديات مختلفة تمثل قوى مختلفة في المجتمع. يجب أن تكون هناك مراجعة للتاريخ على الدوام. والرواية يمكن أن تكون حيزًا لمساءلة التاريخ الرسمي أو الصمت إزاء جرائم الماضي. حدث ذلك في الرواية اللبنانية، مثلًا، إذ صارت بعد الحرب الأهلية مرجعًا مهمًا لمراجعة تاريخ لبنان، بعيدًا عن الاصطفافات والصمت بعد "اتفاق الطائف" والسكوت عن جرائم الماضي.
هذا المضي قدمًا نحو "المستقبل المشرق" ونسيان الماضي يكون ثمنه أن المجرمين يعودون ليصبحوا نجوم العملية السياسية من دون أي محاسبة. وهذا ينطبق على الولايات المتحدة وما حصل للسود مثلًا. هناك خطاب يشكّك بسردية الدولة التي تفيد بأن الولايات المتحدة بلد يحتوي الأقليات ويحتضنها ويمضي قدمًا. لكن الانفجارات والتظاهرات التي تحصل تعني أن الأمر لم يتغير. فقد عادت الفاشية من جديد. هناك إشكالية في مؤسسات الذاكرة الرسمية. ويلعب الفن والإبداع والناشطون، بالطبع، دورًا في التشكيك بالسرديات الرسمية التي ترسّخها الدولة.
9- الحوار الذي دار بين يوسف السبعيني ومها، الشابة في رواية "يا مريم"، حول المحاكمة بين ماضي العراق الجميل وحاضره الخرب والطائفي، يستمر هنا في ذاكرتي عمر وسامي. لكن ما حدث في ما بعد في العراق أكد صوابية رأي مها. يقول أرنست بلوخ: "الأمل عكس الذاكرة". في "خزامى" صراع بين أمل عمر وذاكرة سامي. الأمل يشدك نحو الأمام والذاكرة تشدك نحو الخلف. وحين يلتقيان تقع باقة الخزامى من يدي سامي وتتركنا في حيرة وأمام نهاية رواية مفتوحة. لمن ستكون الغلبة في العراق؟
لا أعتقد أن الأمل عكس الذاكرة. من الصعب أن يبدأ المرء بداية جديدة من دون أن يواجه الماضي. هذا ما يحدث في المجتمعات التي تنشأ فيها حروب أهلية وكوارث. واللقاءات تحدث مصادفة بين السجين والسجان، وبين الضحية والقاتل. النهايات المفتوحة تطرح أسئلة عندما يواجه المرء الشخص الذي كان مسؤولًا عن تعذيبه؛ ما الذي يمكنه أن يقوله أو يفعله؟ لا أعرف. لمن الغلبة؟ لا أعرف، للأسف.
يبدو أن الذاكرة الرسمية أو التاريخ المهيمن يجد طريقه دائمًا لاستيعاب زخم الخطابات المعارضة. لڤالتر بنيامين مقالة شهيرة عن فلسفة التاريخ، يتحدث فيها عن تاريخ المنتصر الذي يبتلع تاريخ الضحية، وهذا موجود في المجتمعات الحديثة. لا أعرف لمن الغلبة. لكن من دون طرح مثل هذه الأسئلة سوف يُعاد اقتراف الجرائم نفسها. تنبأ سعدي يوسف بما حدث في قصيدة جميلة: سوف يذهب هذا العراق إلى آخر المقبرة/سوف يدفن أبناءه في البطائح/ جيلًا فجيلًا ويمنح جلاده المغفرة". وينطبق هذا على مجتمعات أخرى. كان ثمن السلم الأهلي في إسبانيا أن يتم التغاضي عن جرائم الحرب الأهلية. يروي ناشط أن الشخص الذي عذّبه كان يقطن معه في الشارع نفسه، ويلتقي به كل يوم. وهذا غير مقبول من دون مواجهة أو مساءلة. لا يمكن أن يحلّ السلم من دون فتح جراح الماضي.