حتى نهايات القرن الماضي، كان الحديث عن التغيّر المناخي أشبه بالرفاهية، وهو غالبًا ما اقتصر على العلماء في مؤتمرات متخصّصة وفي حملات جمعيّات مناصري البيئة ولدى بعض وسائل الإعلام أحيانًا. لكنّ تسارع ظهور آثار أكثر وضوحًا لتغيّر المناخ، من الارتفاع المحسوس في درجات الحرارة وانتشار حرائق الغابات، إلى زيادة شدّة الأعاصير المدارية وتواترها، وصولًا إلى التقارير الموثقة حول زيادة معدّل ذوبان الثلوج القطبية واتساع رقعة التصحر، استدعى إيلاء اهتمام أكبر بقضيّة المناخ واعتبار تغيّراته من التحديات العالمية التي تهدّد الحياة على كوكب الأرض.
وتتفاوت آثار التغيّر المناخي بين الأجيال والمناطق والطبقات والنوع الاجتماعي، وتظهر آثاره السلبية في العديد من المجالات، فلا يقتصر الضرر على أنظمة الغذاء والزراعة والموارد المائية والهجرة والعمالة فحسب، بل يمتد ليؤثر على صحة الأفراد، بما في ذلك صحتهم الجنسية والإنجابية.
لا عدالة مُناخية
وفق مراجعة قامت بها منظمة Women Deliver بعنوان "الصلة بين تغير المناخ والصحة والحقوق الجنسية والإنجابية" (SRHR)، فإنّ "تغيّر المناخ غير محايد جندريًا". إذ إنه يؤدي إلى زيادة التفاوتات الاجتماعية والجندرية ضمنًا. كما أن ارتفاع درجات الحرارة في العالم، وأحداث الطقس المتطرف (extreme weather events) كالفيضانات والجفاف وموجات الحر، تهدد على نحو خاص صحة الفتيات والنساء وحقوقهن".
وتؤكد اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ (UNFCCC) أن النساء، خصوصًا أولئك اللواتي يعشن في المناطق الفقيرة ومناطق النزاع، يواجهن مخاطر وأعباء أكبر جراء تغير المناخ.
ووفقًا لصندوق الأمم المتحدة للسكان (UNFPA) "تكون النساء والفتيات الأكثر ضعفًا وتأثرًا، ويعود ذلك إلى أنّهن يشكلن غالبية الفقراء في العالم (بما نسبته 70 %)، وغالبًا ما يتحملن العبء الرئيس في جلب الماء والغذاء وغير ذلك من المؤن الضرورية لأسرهن، وذلك اعتمادًا على الموارد الطبيعية التي تتعرض للتآكل نتيجة تأثيرات تغير المناخ".
الدورة الشهرية أصبحت تتأثر بالارتفاع الكبير في درجات الحرارة والتعرض للشمس لفترات طويلة
ويحدث ذلك بالتوازي مع "عدم حصولهنّ على خدمات الرعاية الصحية الكافية، بما في ذلك خدمات الصحة الجنسية والإنجابية وتنظيم الأسرة، والخدمات التعليمية والغذاء، وذلك في الأوضاع العادية، ما يقوّض حياتهن وحياة أسرهن ومجتمعاتهن".
من هنا، يمكن القول إن التأثير المناخي على صحة الإنسان ـــ خصوصًا الصحة الجنسية والإنجابية ـــ متفاوتٌ بين الرجال والنساء، وكذلك بين النساء أنفسهنّ. فالنساء في البيئات الفقيرة أكثر عرضةً لهذه التغيرات من نظيراتهنّ في البيئات الغنية، والأمر نفسه ينطبق على الفرق بين المرأة الريفية والمرأة الحضرية، وهو ما ينطوي عليه النضال من أجل الوصول إلى "عدالة مناخية".
المُناخ والصحة الجنسيّة والإنجابيّة للنساء
لا تزال الأبحاث التي تدرس تأثير المناخ على الصحة الجنسيّة والإنجابيّة للرجال والنساء على حد سواء قيد الدراسة والتطوير، إذ إنّ الموضوع جديد نسبيًا بالمقارنة مع غيره من دراسات آثار التغيّر المناخي. لكن يمكن ملاحظة الافتقار إلى دراسات وأبحاث في هذا المجال، خصوصًا في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل ـــ ومنها العديد من الدول العربية ـــ التي تُعدّ صحة النساء فيها عرضة لمخاطر أكبر جراء التغيّرات التي يشهدها مناخ تلك المناطق، خصوصًا الظواهر المرافقة للاحتباس الحراري.
تخلص الدكتورة بولين ميندولا، رئيسة قسم علم الأوبئة والصحة البيئية في جامعة بوفالو في دراسة لها، بالاشتراك مع د. ساندي ها من جامعة كاليفورنيا، إلى أنه "يمكننا بالفعل ملاحظة الآثار المتعلقة بالتغير المناخي على الصحة الإنجابية، ونحن ما زلنا في بداية الانحدارات المتوقعة التي ترتبط بالاحتباس الحراري المستمر وزيادة تواتر أحداث الطقس المتطرف".
وترى الدراسة أنه بزيادة تواتر الأحداث المرتبطة بالمناخ وزيادة شدّتها، فإن آثارها الصحية تتراكم خلال حياة الأمهات وقد تتفاقم من جيل إلى آخر. وبوجودها قبل حدوث الحمل، فإن تلك المشاكل الصحية المرتبطة بالتغير المناخي تساهم في زيادة مخاطر مضاعفات الحمل بما في ذلك اضطرابات ضغط الدم وسكري الحمل.
كذلك، تتأثر الحوامل وحديثات الولادة والمرضعات بالتغيرات المناخية بشكل غير مباشر، نظرًا إلى دور هذه التغيرات في انخفاض الأمن الغذائي الذي يهدد تلك الفئات بشكل خاص بسبب احتياجاتها الغذائية أثناء الحمل والإرضاع والولادة. فضعف التغذية هو أحد عوامل انتشار فقر الدم بين النساء، الذي ارتفع معدل الإصابة به بين النساء في سن الإنجاب عالميًا من 30.3% في العام 2012 إلى 32.8% في العام 2016.
التغيّر المناخي والدورة الشهرية
تتأثر الدورة الشهرية للنساء ـــ كما الحمل ـــ بالتغير المناخي، وذلك وفقًا لعوامل الحرارة (كالحر أو البرد الشديد)، وتلوث الهواء، وعوامل أخرى ترتبط بالكوارث الطبيعية الناتجة من تغير المناخ.
تُعد تقلّبات الطقس ودرجات الحرارة من أهم العوامل التي تؤثر على الحيض، إذ أشارت دراسة منشورة في مجلة Gynecological Endocrinology إلى وجود علاقة بين أشعة الشمس وطول فترة الدورة الشهرية؛ بحيث يختلف طول الدورة الشهرية في الصيف عنه في الشتاء، بسبب زيادة التبويض في الصيف بنسبة تصل إلى 97% مقابل 71% في فصل الشتاء. كما تشير الدراسة إلى قصر الدورة الشهرية في الصيف بمقدار يصل إلى 0.9 يوميًا، وذلك بسبب زيادة نشاط المبايض خلال الصيف، وهذا يعود إلى ارتفاع نسبة فيتامين "د" في الجسم، الذي يساعد على إنتاج الهرمون المنبه للجريب (FSH) الذي ينظم الوظائف الإنجابية. ويفسّر نقص فيتامين "د" بشكل كبير تأخر الدورة الشهرية بسبب البرد، واستمرار النزيف لأيام أكثر.
وتشير مقالة نشرها موقع OnlyMyHealth الطبي، إلى أن الدورة الشهرية أصبحت تتأثر بالارتفاع الكبير في درجات الحرارة، والتعرض للشمس لفترات طويلة. وقد لوحظ هذا الأمر عند انتقال السيدات من المناطق الباردة إلى الأشد حرارةً، إذ تواجه أجسادهن صعوبةً في التأقلم مع الطقس الجديد، وتتأثر دوراتهن الشهرية جراء هذا، وتطرأ عليها تغييرات عدة مثل زيادة مدتها أو نقصانها عن المعتاد وغزارة الدم أو نقصانه أو انقطاع الدورة.
في سوريا، هناك فقر شديد في الدراسات الخاصة بآثار التغير المناخي
أما بالنسبة للأمراض التناسلية الناتجة من الحرارة المرتفعة، فيمكن أن تعاني غالبية النساء من عدوى الخميرة أثناء الحيض بسبب زيادة النشاط في البيئة الحارة والرطبة التي تعد أرضًا خصبة للبكتيريا.
علاوة على ذلك، يمكن أن تكون الالتهابات المهبلية خلال فصل الصيف أحد العوامل الكامنة وراء عدم انتظام الدورة الشهرية، والتي تنتج من زيادة التعرق في المناطق الحساسة وتسبّب حكة في الجلد، ما يزيد الشعور بالانزعاج والتوتر.
كما أن التقلبات الهرمونية خلال الحيض تجعل الجسم يحتفظ بالماء والملح أكثر من المعتاد، ما يزيد الشعور بالانتفاخ. وتؤدي الحرارة الشديدة أيضًا إلى الجفاف وعدم الراحة. كل هذه العوامل من شأنها أن تولّد شعورًا بالقلق والاكتئاب لدى النساء خلال فترة الحيض، قد يقوض قدرتهنّ على القيام بالأعمال اليومية بسهولة.
كذلك، يؤثر تلوث الهواء على الدورة الشهرية. إذ تؤكد دراسة أجراها باحثون من جامعتي بوسطن وهارفرد، على عيّنة شملت 34،000 امرأة، أن دورتهن الشهرية تأثرت بتلوث الهواء، والبعض منهن أصيب باضطرابات الدورة وتأخر الحمل. وطبقًا لهذه الدراسة، فإن هرمونات الدورة الشهرية تتأثر بتلوث الهواء بشكل مباشر.
وقد يزيد تغير المناخ من خطر الإصابة بالأمراض لدى النساء عن طريق تغيير توقيت الحيض أو الحيض الأول، وفقًا لمراجعة منهجية نُشرت في المجلة الدولية للبحوث البيئية والصحة العامة. وتشير المراجعة إلى تأثير الكوارث الطبيعية والظواهر الجوية المتطرفة على العوامل البيئية مثل توافر الغذاء وإطلاق المواد الكيميائية في البيئة، والتي يمكن أن تتسبب في إصابة الفتيات بالحيض المبكر أو المتأخر، كما أن انعدام الأمن الغذائي الناجم عن تغير المناخ قد يؤدي إلى اضطرابات في الحيض نظرًا إلى أن الجسم يحتاج إلى طاقة وتغذية كافيتين للحيض.
أيضًا، وجدت المراجعة أن الاضطرابات الناجمة عن المناخ في الحيض يمكن أن تزيد من خطر الإصابة بالأمراض لدى النساء في أربعة مجالات رئيسة: الصحة العقلية والخصوبة وأمراض القلب والأوعية الدموية وصحة العظام.
ماذا عن سوريا؟
إذًا، تتعدد تأثيرات التغير المناخي على صحة النساء التي تتناولها الدراسات ومن بينها اضطرابات البلوغ لدى الفتيات وتذبذب ميعاد دورة الطمث الأولى لديهن، وحوادث ولادة مبكرة أو إملاص (ولادة طفل ميت) بسبب الحرارة المرتفعة التي تؤثر أيضًا على الخصوبة ومعدلات الولادة.
ولكن، في سوريا، هناك فقر شديد في الدراسات الخاصة بآثار التغير المناخي، خصوصًا لناحية تأثير ارتفاع درجات الحرارة على الصحة الجنسية والإنجابية للنساء. وترافق ندرة الدراسات العلمية ـــ بما فيها التقارير الإعلامية ـــ مستويات مرتفعة من التجاهل أو غياب المعرفة في القطاع الطبي ولدى النساء في المجتمع.
في استبيان قام به "أوان" على عيّنة من 288 امرأة سوريّة حول التغيرات المناخية وتأثيراتها على صحتهن، ولدى السؤال عما إذا كانت المُشاركات يعتقدن بوجود تأثير للظواهر المناخية على انتظام الدورة الشهرية وانقطاع الطمث وما يرافقهما أحيانًا من آلام، أجابت أكثر من 57 في المئة من المُستطلعات بـ"لا أعرف"، ونحو 18 في المئة بـ"لا". أما سؤال "هل كنتِ تعلمين من قبل أن تغير المناخ يمكن أن يؤثر على الصحة الجنسية والإنجابية للمرأة؟"، فأجابت نسبة 65 في المئة من المشاركات تقريبًا بـ"لا".
يقول طبيب أمراض نسائية مقيم في أحد مشافي دمشق لـ"أوان": "لا توجد في سوريا حتى الآن أيّ أبحاث حول تأثير التغير المناخي على صحة الإنسان، حتى تكون هناك دراسات حول تأثيره على صحة النساء عمومًا وصحتهنّ الجنسية والإنجابية خصوصًا، فموضوع البحث ـــ وإن كان معروفًا إلى حد ما في الخارج ـــ لا يزال غير معروف لدينا ولا يوجد أيّ اهتمام به حاليًا".
الطبيب، الذي فضّل عدم ذكر اسمه، يعزو أسباب غياب هذه الدراسات إلى ضعف البيئة البحثية بالعموم: "نظريًا، تعمل جامعة دمشق والجامعات السوريّة عمومًا على رفع مستواها بتحسين بيئة البحث العلمي"، ويتابع قائلًا "لكن على أرض الواقع، كل ما سمعنا به عن دعم الجامعات للبحث العلمي والباحثين لم يتم تطبيقه، وبالتالي، دون وجود البيئة البحثية المطلوبة لن يتم إصدار الأبحاث الضرورية... حول المناخ وتأثيره على صحة الإنسان".
ولدى سؤال المشاركات عن أسباب عدم معرفتهنّ باحتمالات تأثير المناخ على صحتهن، كانت معظم الإجابات تتمحور حول قلّة التوعية بهذا الموضوع في المدارس أو المناهج الجامعية أو حتى ضمن البيوت. البعض منهن أشار إلى عدم تناول هذا الموضوع على وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، أو حتى ذكره من قِبل أطباء النسائية.
ترتبط بعض الأسباب المهمة أيضًا بحساسية الحديث عن الصحة الجنسية في سوريا (للرجال والنساء)، وفكرة "العيب"، وقد دعم هذا المنطق عدم وجود أبحاث علمية صادرة عن الجامعات السوريّة أو عن المشافي الجامعية تتناول تأثير التغير المناخي على صحة الإنسان العامة وصحته الجنسية على نحو خاص.