يمكن القول إن الزمن الممتد بين الزلزال والانتخابات كان الأثقلَ على السوريين في تركيا. وبرغم فوز رجب طيب إردوغان بولاية رئاسيّة جديدة، لا يظهر ما يفيد بأن الخطاب العنيف تجاه "الضيوف غير المرغوب بهم" سيختفي في المدى المنظور. يتبدّى هذا على وجه الخصوص في تحميل بعض الخائبين من خسارة المعارضة التركيّة السوريين مسؤوليةَ الكثير مما يحصل في بلادهم اليوم، وآخره نتائج الانتخابات.
سارقو الأنقاض ومخزّنو الدولارات
إبان وقوع الزلزال المدمّر في شباط/فبراير الماضي، ثم في الأسابيع التالية له، سرت شائعات بين الأتراك حول قيام لاجئين سوريين بنبش الأنقاض وسرقة ما يمكن سرقته. كذلك سرت شائعات تكاد تناقض الأولى، مفادها أن فرق الإنقاذ في بعض المناطق وجدت رزمًا من الدولارات والأموال في أماكن سكن أسر سوريّة، في ما يشبه "الدليل الحاسم" على المساعدات الكبيرة التي يتلقاها السوريون "المصرّون على التظاهر بالفقر والحاجة".
شملت المعلومات المفبركة أيضًا صورًا لسيارات إسعاف تنقل المصابين السوريين من تركيا إلى سوريا، ليتضح لاحقًا أنها صور تعود لافتتاح أحد المستشفيات التركية الضخمة في وقت سابق. موقع BBC باللغة التركية ذكر في أحد تقاريره أن هذا النوع من الخطاب، إلى جانب التمييز بين السوريين والأتراك في حظوظ الإغاثة والإنقاذ، دفع العديد من الأسر السوريّة للعودة إلى سوريا إثر الزلزال.
بيضة القبّان
ثم جاءت الانتخابات التركية التي مهدت لها أيام طويلة من التوتر والقلق، ولم تتوقف خلالها حملات التجييش. تصدّر ملف اللاجئين أجندة المرشحين للانتخابات، كما لو أنّ سائر القضايا التركيّة لم تكُن موجودة.
سوّق الخطاب المتطرف لبعض أحزاب المعارضة التركية نظرية مفادها أن السوريين سيلعبون دورًا حاسمًا في تحديد الرئيس المستقبلي لتركيا، وركّز على التخويف من الضغط الاقتصادي المتولّد عن الوجود السوري، وعلى التخلف والتعصب والتطرف الديني بوصفها ظواهر تعبّر عن هويّة السوريين في تركيا. ثم جاءت المفاجأة بتبني كمال كليتشدار أوغلو، خصم إردوغان في الانتخابات وزعيم حزب "الشعب الجمهوري"، شعار "السوريون سيذهبون!" قبل أيام من جولة الانتخابات النهائية.
في ما بعد، وبمجرد إعلان نتائج الانتخابات، ظهر أوميت أوزداغ، السياسي التركي ومؤسس "حزب النصر" (الظفر) المعروف بآرائه المتطرفة المعادية للسوريين ليقول: "بماذا يحتفل أعضاء حزب العدالة والتنمية؟ بـ 11 مليار دولار سننفقها على السوريين؟ أم بجنودنا الذين سيستشهدون في شمال سوريا؟ أم بفتياتنا اللواتي سيتعرضن للتحرش في الشوارع؟ أم بالعصابات التي ستبيع المخدرات لأطفالنا؟".
برغم تصاعد خطاب الكراهية، لم يخلُ الأمر من مبادرات إعلامية تركيّة حاولت تكريس منطق متوازن وأكثر وإنسانية
ويُشار في هذا الإطار إلى لعبةٍ للهواتف النقالة حملت اسم "الظفر للسياحة (Zafer Tourism)" وربطها البعض بالحملة الانتخابية لـ"حزب الظفر" تحت العنوان نفسه، هدفت إلى جمع التبرعات من أجل "شراء بطاقات سفر للاجئين السوريين كي يستقلوا بها الحافلات ويعودوا إلى ديارهم". اللعبة التي أنتجتها شركة التطوير التركية Gacrux Game Studio، والتي لم تتضح علاقتها بالحزب، تستوجب من اللاعب إلقاء القبض على اللاجئين الذين يحاولون عبور الحدود ورميهم في شاحنات تنقلهم في الاتجاه المعاكس. لكنها، نتيجة الانتقادات الشديدة، اختفت لاحقًا من متجر "Google Play"، برغم أنها ما زالت موجودة على متاجر أخرى.
الصفحات الإعلامية المتطرفة التي تبنّت خطاب أوزداغ وحزبه مثل صفحة Toplumsal Cinsiyet Eşitliği على "إنستغرام"، نشرت أيضًا مشاهد لمن اعتبرتهم مهاجرين وسوريين يحتفلون بفوز إردوغان ويمزقون أعلام حزب "النصر" التركي. كما تداولت المنصّة صورة لرجل عربي يرتدي عباءة وتقف خلفه أربع نساء منقّبات، وأرفقت الصورة بالتالي: "هذا الرجل العربي وزوجاته الأربع صوّتوا لتحديد مصير تركيا. في الوقت الذي لا يستطيع فيه العرب التصويت في بلدانهم، ها هم يقررون مصيرنا هنا" (الجدير ذكره أن قانون الزواج في تركيا مدني ولا يُسمح بموجبه للمواطن التركي أو الحاصل على الجنسية التركية إلا بزوجة واحدة).
وعلى المقلب الآخر، ظهرت فئات من المهاجرين واللاجئين السوريين الذين لم يدركوا حساسية اللحظة، ولم يبخلوا باستفزاز الرافضين لوجودهم إبان الإعلان عن فوز إردوغان، فأخذت بعض الصفحات الناطقة بالعربية من تركيا تتداول مشاهد تُظهر فرح السوريين بنتائج الانتخابات، إلى جانب نشر إعلانات لحسومات على أسعار وجبات الشاورما احتفالًا بفوز إردوغان.
مبادرات تركيّة تتصدى لخطاب الكراهية
برغم تصاعد خطاب الكراهية، لم يخلُ الأمر من مبادرات إعلامية تركيّة حاولت تكريس منطق متوازن وأكثر وإنسانية. فإثر الزلزال، نشرت منصة "Perspektif" مقالة تدرُس فيها التبعات الاجتماعية للزلزال على السوريين، وذكرت التالي في هذا السياق: "في الأوقات الصعبة، يمكن أن تتحول الفئات الضعيفة في المجتمع إلى كبش فداء بسرعة كبيرة. فمثلما تفرّغ الكرة الأرضية ضغوطها المتراكمة عبر الكسور في القشرة الأرضيّة، يمكن للمجتمعات أن توجّه التوترات التي تواجهها إلى الفئات الضعيفة".
وخلال التحضير للانتخابات، أخذت صفحات معتدلة على عاتقها مهمة تصحيح المغالطات المتعلّقة بحجم الوجود السوري. من بين هذه المبادرات "مشروع هارموني (harmonyprojesi)" الذي رد على تصريحات أوميت أوزداغ، مظهرًا الأعداد الحقيقة للسوريين في تركيا ونسبة هؤلاء من الناخبين. وقد أورد أحد فيديوهات المشروع ما يلي: "يزعم أوزداغ أن هناك 13 مليون مهاجر وطالب لجوء غير نظامي يخضعون لحماية مؤقتة ـــ في إشارة إلى السوريين ـــ في حين لا يوجد في الحقيقة هذا العدد من السوريين حتى في سوريا نفسها! أما الأرقام الرسمية الموثوقة لأعداد السوريين في تركيا بين عامي 2011 و2022 فتفيد بوجود أربعة ملايين، بينهم [مئات الآلاف] الذين تركوا تركيا بعد وصولهم إليها".
حاولت هذه الصفحة ومثيلاتها إثبات عدم قدرة السوريين المجنسين في تركيا على لعب دور بيضة القبّان في الانتخابات التركية. فعدد المجنسين منهم لا يزيد عن 200 ألف، بما في ذلك الأطفال الذين لم يبلغوا السن القانوني للتصويت، علمًا بأن الفارق بين المرشحين بلغ نحو 2.5 مليون صوت. لكن برغم وجود مبادرات تحاول التصدي لموجات التلفيق والتلاعب بالأرقام والحقائق، ما زال كثير من الأتراك لا يصدّقون إلا ما يرغبون بتصديقه، ويفضّلون اعتبار الوجود السوري أكبر المصائب التي ألمّت بتركيا.