بعد متابعة العديد من الأفلام التي تُنتجها المؤسسة العامة للسينما في سوريا، وتنالُ جوائز في مهرجانات عربية وبعضَ الإشادات في مهرجانات تُنظمها دول شقيقة بالمعنى السياسي للكلمة، كإيران مثلًا، يمكن القول إن الشكوك باتت حتمية في سويّة تلك الأفلام. أما الحملات الإعلامية المُكثَّفة التي تزيد من البهارات الدعائية لتلك المنجزات، سواء على صعيد السيناريو أو الإخراج أو التمثيل، أو لجهة اعتبارها أعمالًا متكاملة حصلت على جائزة لجان التحكيم و"استحسان جمهور" تلك المهرجانات، فذاك كلّه لا يفيد.
ولعلّ أحدث مثال على ذلك فيلم "الحكيم" الذي كتبته الإعلامية ديانا جبور وأخرجه زوجها باسل الخطيب، ونال ذهبية مهرجان "سينمانا" العُماني كأفضل عمل متكامل، وجائزة "لجنة التحكيم" الخاصة في القسم الدولي بمهرجان "الفجر" السينمائي في العاصمة الإيرانية طهران، إضافة إلى تكريم من مهرجان "أيام السينما" العراقية الثاني في بغداد.
الشريط السينمائي (95 دقيقة) الذي عُرض أخيرًا في قاعة الدراما ضمن أوبرا دمشق، اختارت جبور لبطولته شخصية طبيب فقراء يُدعى "جابر عبد الودود" (دريد لحام) الذي تخلَّى عن عمله في المدينة ليداوي المرضى في بلدته من دون أن يأخذ أجرة أتعابه. إذ خصص ثلاثة أيام مجانية، وفوقها راح يمنح مرضاه عيّنات من الأدوية التي يحتاجونها، وفي بعض الأحيان يشتريها لهم من ماله الخاص، وخلاف ذلك من العطاءات النبيلة، مما أكسبه محبة جميع من في البلدة. لكن أفعاله ـــ برغم طوباويتها وإنسانيتها العالية ـــ كانت على الصعيد الدرامي مُتوقعة منذ تعليقه اللوحة على بوابة عيادته في بداية الفيلم، ما أفقدها عنصر التعاطف المأمول، لا سيما مع حضور أمثلة عديدة في الذاكرة مثل الدكتور إحسان عز الدين في جرمانا، والأديب والطبيب عبد السلام العجيلي في الرقة، والدكتور محمد مشالي في طنطا بمصر.
وزاد من هشاشة طرح هذه الشخصية تبريرها موتَ أحد المرضى بين يديها، وذلك ضمن أحد الحوارات، من دون مشهد استعادي لتلك الحادثة المفصلية في حياتها، بل ظلّ الأمر في حيز الكلام فقط. حتى أن سيرورة الأحداث في ماضي ذاك الطبيب، مثل فقدان ابنته شمس (روبين عيسى) وما تركه ذلك من جرح بليغ في نفسه، لم تدفع أفعاله بعيدًا عن المتوقع، إلا من خلال بعض التهويمات التي تتراءى له فيها شمس، أو عبر تصدِّيه لتوليد إحدى نساء البلدة مع أنه طبيب عام، أو مساهمته بإنقاذ بقرة تعاني من عسر الولادة، وذلك درءًا لما قد يصيب أصحابها من ذوي الشهداء، اللذين تُشكل تلك البقرة موردَ رزقهم الوحيد.
حصل تحوُّل في سير الأحداث، من درامية إلى بوليسية من النوع الباهت
وتظهر لنا شخصية طبيب الفقراء من خلال انشغالات مثالية كزراعة أشجارٍ بأسماءِ زوجته المتوفاة وابنته وحفيدته ياسمين (ليا مباردي)، طالبة كلية الفنون الجميلة التي تزوره أثناء إجازاتها الجامعية، وكذلك عبر تهوين مصاعب الحياة على المقهورين من أهالي بلدته، لكن كلّ ذلك من دون أي انعطافة في خطها الدرامي، أو أي حدث يؤثر على سكينتها. فلا نرى أي تصعيد نهائيًا، وكأن تلك الشخصية لا تعيش أي صراع حقيقي. فهي من النوع القدري التي تُسلِّم أمرها وأفعالها للقدير، حتى لو كان الموضوع الذي تتعاطى معه طبيًا وعلميًا بحتًا. بل حتى عندما اقتحم أحد أفراد العصابة منزله وقيّد حفيدته ورماها أرضًا مكمومة الفم، وسرق ما طالته يداه، تعاملَ مع القصة ببساطة، على اعتبار أن السارق لم يمسّ ياسمين بأذى. فلم يُبْدِ أيّ تأثر حقيقي يفرضه الموقف، سوى وعد حفيدته بأن يخبر الشرطة، مع علمه المسبق بعدم جدوى ذلك في ظل السرقات الكثيرة التي تعم أرجاء البلدة.
الغريب أن الأمور تعود إلى طبيعتها في اليوم التالي، وكأن شيئًا لم يكن. فيستمرُ الطبيب بعلاج مرضاه في منازلهم، ومنهم واحدة (ربى الحلبي) دخلت في غيبوبة منذ أشهر بعدما أصابت ابنتها شظيةٌ أدت إلى وفاتها بين يديها. ولخوفه على حفيدته، يقوم باصطحابها معه إلى منزل تلك المريضة لتساعده بتدليك عضلات يديها ووجهها. وبعد جولة بسيطة بين الغرف ورؤيتها آلة إيقاعية كانت تعزف عليها البنت المتوفاة، كما تشير إحدى الصور، تقوم ياسمين بالنقر على الآلة، فتختلج المرأة وتنهض من غيبوبتها المزمنة بقدر من الإعجاز.
وتستمر اللا معقولية في العلاقة التي تنشأ بين حفيدة الطبيب وشقيق زوج المريضة، بعدما شاهدت رسوماته على الجدران ونَسَبَتها مباشرةً إلى "الانطباعية العفوية" بحكم دراستها الفنون الجميلة. وبالعفوية ذاتها، ومن دون مقدِّمات، بات الاثنان حبيبين من دون أن يؤثر كون الشاب من الصم والبكم على الخط الدرامي للقصة، سوى أن ذلك سهَّل لاحقًا من مهمة اختطاف الفتاة من أحد بساتين البلدة (من قبل العصابة ذاتها)، وذلك أثناء انشغال الشاب بقطف الزهور لها بينما كانت تعمل هي على التقاط صورة له بهاتفها.
هنا، تنفَّسنا الصُّعداء. إذ قد يكون صراع ما قد نشأ بين الطبيب المتعلِّق بحفيدته، والعصابة التي تبدَّلت أعمالها، من تهريب الأسلحة والمطلوبين خلال الحرب، إلى سرقة البيوت ولاحقًا تأمين صبايا عذراوات لأحد بيوت الدعارة التي تقودها امرأة (ريهام عزيز). لم يكن هذا وحده التحوُّل الخطير في سير الأحداث، من درامية إلى بوليسية من النوع الباهت، بل تمثّل أيضًا بعدم معرفة الحكيم جابر بقصة الاختطاف من أساسها، لانشغاله بتوبيخ عزيز (رامي أحمر) ابن جارتهم مريضة السرطان (صباح الجزائري) لأنه لم يصطحبها إلى موعدها مع طبيب الأورام في دمشق، ما أدى إلى تدهور حالتها واضطره بنفسه إلى نقلها إلى مستشفى قريب، علمًا بأن الحفيدة المُختطفة كانت محتجزة في دكان ذاك الابن، وبصدفة بحتة توقّفت عن محاولة الصُّراخ من خلف الشريط اللاصق على فمها، قبل أن تكتمل "المفاجأة" بأن يجد الطبيب جمهرة تضم أبناء البلدة أمام منزله، ليعلم حينذاك بقصة اختطاف ياسمين.
نقطة الضوء الوحيدة في الفيلم كانت أداء الفنان رامي أحمر بشخصية عزيز، متعاطي الكبتاغون والساخط على الدنيا، وكذلك ديكور ربى الكنج
طبعًا، ثارت ثائرة الحكيم جابر عبد الودود، وبدأ البحث عن حفيدته في أراضي البلدة، مكتفيًا بالصراخ باسمها فقط. وبرغم إحساسه بالعجز، تمالك نفسه وخرج في جنازة جارته وحمل نعشها. ولأنه تذكّر أن حفيدته أخبرته بأنها تشك بأن عزيز هو من سرق منزله، بعدما قارنت بين عيني السارق الملثَّم وعينيه، بدأ جابر إثر انتهاء مراسم الدفن باستعطافه ليُخبره بما إذا كان هو الفاعل حتى يعلم أين هي، لكن دون جدوى، لتأتي المصادفة الأكبر عندما يجد حبيب ياسمين هاتفها في البرية، وقد سجَّلت عليه فيديو تظهر فيه السيارة التي اختُطفت فيها، فيقوم الأهالي، كبارًا وصغارًا بإيقاف تلك السيارة ومحاصرتها قبل أن تخرج من البلدة.
وعبر دردشة ساذجة جدًا مع رئيس العصابة (محمد قنوع)، يقوم الأخير بتسليم المخطوفة من دون أي اشتباك، لا ناري ولا بالأسلحة البيضاء ولا حتى بالأيدي. حتى أنك تخال نفسك في شجار أطفال انتهى قبل أن يبدأ ومن دون ضربة كف، لتعود ياسمين إلى أحضان جدِّها الذي التف حوله أهالي البلدة وبدأوا بزراعة الأشجار معه. وتوتة توتة... خلصت الحدوتة.
أمام هذا السيناريو المبني بشكل شبه كامل على المصادفات، والخالي من أحداثٍ تُطوِّر التوتر الدرامي والمعنى معًا، وبشخصية رئيسية، ردودُ فعلها شبه ثابتة في وجه الصراعات التي تخوضها (وهي قليلة أساسًا)، لم يعُد ممكنًا أن يُظهر المشاهدون تعاطفًا جديًا. أما المخرج باسل الخطيب، فبرغم خيارات الممثلين الجيّدة، وكوادره الجميلة، ومحاولاته التقاطَ روح الشخصيات وجماليات ريف حمص التي صُوّر فيها الفيلم، فلم يُحرّك سكونيّة النص في أولى تجارب زوجته بكتابة السيناريو السينمائي الطويل. إلى حدّ يُمكن القول معه إن نقطة الضوء الوحيدة في الفيلم كانت أداء الفنان رامي أحمر بشخصية عزيز، متعاطي الكبتاغون والساخط على الدنيا. فهو، وحده، من يعيش صراعات مُركَّبة، مع ذاته وأحواله المعيشية، ومع رئيس العصابة وطلباته المتغيرة، ومع مرض والدته وصراعه مع أخيه الأصغر، ومع إدمانه طويل الأمد، الذي لم يكتشفه الحكيم برغم وضوح آثاره الجانبية على عزيز وطباعه وسلوكياته.
ويمكن أن نضيف بصيص ضوء آخر، هو ديكور ربى الكنج الذي، على بساطته، استطاع أن ينقل لنا روح البلدة بتنوّرها وغرف معيشتها. كما يُحسب لها الانقلابات التي أحدثتها في فضاء عيادة الحكيم، والتي تماثلت مع غرفة مريضة الغيبوبة، وذلك على عكس موسيقى سمير كويفاتي هذه المرة، إذ جاءت ميلودرامية بشكل مبالغ فيه، وبدلًا من أن تحقق تعاطف المشاهدين مع الشريط السينمائي، أنتجت نقيض ذلك تمامًا.