هل سبق أن عشت شهورًا، أو سنوات، من دون أن تروي، أو تُروى لك، أو تقرأ، أو تسمع عن طريق الصدفة، نُكتةً ما؟ هل أمضيت حياتك وأنت تتكلم بالطريقة عينها، مستخدمًا قاموس المفردات ذاته بلا أي زيادة أو نقصان، ومستعينًا بوسائل التعبير ذاتها، للإفصاح عن انفعالات يستنسخ بعضها بعضًا من دون تغيير يُذكر، مهما انقضى زمنٌ ودخَلتَ في تجارب وخُضت صراعات؟
طيب، لماذا تفعلُ شخصياتُ كثير من المسلسلات السورية (وربما العربية) ذلك إذًا، خصوصًا في ذلك النمط من المسلسلات الذي يسمّيه صنّاعه "دراما واقعية"؟ لماذا تخلو مسلسلات "اجتماعية" بكل ما فيها من حكايات وكل من فيها من شخصيات من نكتة هنا، أو مزحة هناك، من تغير طارئ في نمط كلام، أو تخلخل لـ"كاركتر" ما؟
لماذا يُخيّل إليك، وأنت تشاهد مسلسلًا، أنك تراقب مجموعة ساعات في بهو أحد الفنادق تسيرُ عقاربها بالوتيرة الرتيبة ذاتها، ولو أشار كلٌّ منها إلى توقيت مختلف؟!
في كل "موسم درامي"، أجد نفسي من جديد أمام هذه الأسئلة، وأخرى كثيرة غيرها. ورغم أنها حالة لا يمكن تعميمها طبعًا، فإنّها تنطبق على كثير من مسلسلات هذا الموسم أو ذاك، وأحيانًا على أبرزها! ثمّ، وعطفًا على تلك الأسئلة، أجدني أعيد استذكار كلام الكاتبة والناقدة ليندا كاوغيل Linda J Cowgill: "نحن نشاهد مشاهد بشخصيات كثيرة، تنتقل فيها من مشكلة إلى أخرى، وتدخل في شجارات وتخرج منها، لكننا لا نرى تأثير الصراع على هذه الشخصيات".
قد يفسر البعض "تأثير الصراع على الشخصيات" بأنه تغيّر مصائرها، أو تحولاتها النفسية الكبرى فحسب، غير أن المسألة أوسع من أن تقتصر على ذلك بكل تأكيد، إذ تشمل أيضًا تفاصيل صغيرة، وغير جوهرية ربّما، لكنها حقيقية، وواقعية، وتحصل في حياتنا ببساطة، كأن تقتحم أغنية حياة أحدنا فجأة فيأخذ بترديدها مرارًا وتكرارًا لأيام متتالية، قبل أن يكف عن ذلك. لكن هل تفصيلٌ من هذا النوع ضروري في عمل درامي؟ وهل يمكن عدّه أصلًا أحد "تأثيرات الصراع على الشخصية"؟ ما علاقة أغنية بصراع تقليدي بين خير وشر مثلًا، أو غير تقليدي بين المرء ونفسه؟
ليس عاديًا ولا مبررًا على الإطلاق أن يتكوّن مسلسل من ثلاثين حلقة من أحداث مرصوصة
في سبيل الوصول إلى إجابات هنا، أقترح أن نعود خطوة إلى الوراء، ونفكّر في الصراع أو الحبكة في الدراما: هل تقتصر هذه التسمية فقط على الأفعال ذات الصلة بالموضوعة الرئيسة للمسلسل؟ وهل كل حدث أو سلوك أو انفعال لا يرتبط بشكل مباشر بها، مجرد تفاصيل هامشية؟
بصياغة أخرى: إذا افترضنا أن حبكة مسلسل ما تدور حول (س)، الداخل في صراع وجود مع المخابرات، وفي صباح ما استيقظ (س) ووجد نفسه يردد أغنية ما بلا سبب واضح، ومن دون أي ارتباط بحدث ما يتعلق بصراعه ذاك، أتكون الأغنية جزءًا من تأثير الصراع على الشخصية؟
قد يكون الجواب الذي يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى: لا، غير أن قليلًا من التفكير سيضعك أمام حقيقة أنك لو عشت صراعًا من هذا النوع في حياتك، فكل تفاصيل حياتك وسلوكياتك وتصرفاتك الواعية وغير الواعية ستكون متأثرة بذلك الصراع، وقد تدوم التأثيرات حتى بعد نهاية الصراع نفسه. كما أن الصراع لن يمنعك من سلوكيات أساسية في حياة الكائن البشري، ستستمر في الأكل، والشرب، والنوم. سيحكك عضو من جسمك في لحظة ما، وستبتسم في موقف ما، وتحزن وقد تبكي في آخر... ستفعل كل شيء لكن بطريقة مختلفة تتسق مع تطورات صراعك مع المخابرات ومسارات الحدث.
هذا ما يحدث في الحياة الواقعية، وهذا ما يُفترض أن يحصل في دراما تقدم قصة بمفردات واقعية، ولو كانت تفاصيلها متخيلة. في هذا النوع من الدراما، لا يمكن أن يتحول "رسم الشخصية" إلى "خلق كامل من الصفر". إنها محاكاة، بطريقة أو بأخرى. ليست هناك أعداد لا منتهية من صنوف شخصيات البشر، وشخصيات الدراما ستنتمي إلى هذا الخط أو ذاك، فيما ترتبط أسرار الاختلاف والتميز بالتفاصيل الصغيرة. كما أن الحبكات ذاتها ليست هائلة العدد، إننا وفق جورج بولتي George Polti أمام 36 حبكة يدور كل عمل درامي منذ الإغريق وحتى اليوم في فلكها. ولذلك، قد يكون عاديًا أن يتشابه عاصي الزند، وجبل شيخ الجبل، أو المقدم رؤوف (الولادة من الخاصرة)، وأمين الشرطة حاتم (فيلم هي فوضى)، كما قد يكون عاديًا أن تتشابه حبكة مسلسل هنا، وعقدة فيلم هناك. لكن ما ليس عاديًا ولا مبررًا على الإطلاق أن يتكوّن مسلسل من ثلاثين حلقة من أحداث مرصوصة فحسب.
في خلاصة تكثيفية، تقول ليندا كاوغيل إنّ "سيناريوهات الهواة ذاتُ حبكة مثقلة أكثرَ مما ينبغي من حيث الحدث، وأقلَّ مما ينبغي من حيث الشخصية والعاطفة". والواقع أنّ هذا التوصيف ينطبق على كثير من مسلسلات هذا الموسم الدرامي، كما سابقاته. إنه صنف من المسلسلات يفترض فيه الكاتب الذروة التي يريد من الأحداث أن تصلها، ثم يبدأ في قيادة سلوكيات الشخصيات نحو تلك الذروة، وغالبًا من دون أن يتيح لتلك الشخصيات فرصة للتفكير، لنجد أنفسنا أمام تتابع لاهثٍ للأفعال، وغياب، أو شبه غياب لمنعكساتها.
ينطوي هذا النوع على قدر كبير من التشويق (suspense) بلا شك، لكنه في أحيان كثيرة يقع في مطب إجبار شخصياته على تصرفات لا تشبه الواقع، أو لا مبرر لها، وأحيانًا لا تشبه الشخصيات حتى. قد يذهب الكاتب إلى هذا المطب بإرادته، وهو يراهن هنا على أن المتلقي سيغفر، أو لن ينتبه إلى السقطات، بفعل سطوة تلك الذروة، ومقدار التشويق الناتج منها. على الأرجح، لا يعيش هذا النوع من الدراما طويلًا، ولا يمتلك القدرة على التأثير المديد في ذهنية المتلقي. هو نمط استهلاكي ينتهي تأثيره (بفرض أنه أحدث تأثيرًا) بعد وقت وجيز من انتهاء عرضه.
المفارقة أنّ هذه السمات، التي يفترض أنها "تطبع سيناريوهات الهواة"، كثيرًا ما تكون ملحوظة بوضوح في أعمال كتبها مؤلفون لهم باع طويل في مجالهم، وبعضهم نجوم في "سوق المهنة". أفيمكن إذًا أن يكون الكاتب محترفًا عتيقًا ويقدم سيناريو هواة؟ يبدو أن الجواب: نعم! ولماذا يحصل ذلك؟ قد يمكن اختصار الأسباب في جملة واحدة: "إنها السوق".